لبنان واللاجئون: في انتظار غودو

اليوم، تخترع الشعوب اللبنانية ضيعةً جديدةً متخيلة، خربها السوريون: ضيعة كانت الكهرباء فيها لا تُقنن، والنفايات تُفرز ويُكرر منها ما أمكن، ضيعةٌ كان الياس وحسين يدبكون فيها على أغنية الصبّوحة.

كان العرب يقولون إذا لجأ فلانٌ إلى فلانٍ فإنّه استعصم به. واللَّجَأ في اللغة هو المعقل والملاذ، ويُقال في وصف الزوجة كما يُقال للموضع المنيع من الجبل. هذا الموضع المنيع الذي يكثر في جغرافيا لبنان الحديث المكون من كتلةٍ جبلية، لجأت إليها شعوبٌ وصارت اليوم "معاقل" طوائف، لكلٍ منها قصة.

من الملفت في الأساطير المؤسسة للطوائف اللبنانية الكبرى وجود عنصرٍ مشتركٍ في قصة "الظهور" على أرضها التي تقدّسها اليوم، وهذا العنصر هو عنصر "الهبوط" من الخارج على هذه الجبال والوديان في مراحل مختلفة.

وسواء كانت هذه القصص موثّقة أو مختلَقة، فإن ما يهمنا هو التشابه اللافت بينها: كل الطوائف في بداياتها "لجأت" إلى هذه المنطقة الجبلية الوعرة؛ هربًا من اضطهاد كنسي على الضفة الأخرى للعاصي، أو من جفافٍ في اليمن، أو هزيمةٍ في الأندلس أو المغرب، أو من اضطهادٍ في مصر أو زلزال في سوريا، أو أنها نُقلت على عجلٍ من أجل حاجةٍ عسكرية ملحّة على ضفة المتوسط. وهناك الطوائف "الأحدث"، التي جاء انتقالها نتيجة أحداثٍ دموية هزت شرق المتوسط بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وأعادت على إثرها الإمبراطوريات هندسة تموضع أقليات كبرى كالأرمن والكورد وغالبية مسيحيي الشام وغيرهم.

إذًا، لو اختلفنا على كل شيء، يمكننا أن نتفق على أننا كلنا لاجئون في هذه البلاد، وكلنا على اختلاف هوياتنا التي نعرّف نفسنا بها، فروعٌ من شجرةٍ واحدة اسمها الحدث التاريخي الذي يعيد تشكيل الديمغرافيا في أي منطقة، مهما اختلف تأويل الطوائف له أو بالغت الميثولوجيا المحلية في ربطه بالخوارق. كل حضورٍ هوياتي في ما يعرف بلبنان اليوم، "الجبل الذي ابتلع جبلًا" على ما وصفه أحد شيوخ شيعة جبل عامل لما خيّط الفرنسيون دولةً أكبر من الاسم التاريخي، كل حضورٍ هنا، هو لجوءٌ لجماعات فرّت من أخرى.

إذا علمتنا التجربة الدموية شيئًا عبر التاريخ القريب، فهو أن التوحّش إذا لبس لبوس الطوائف أو صُبغ بأي قداسة أخرى، لا يتوقف عند العدو الأوّل المُعلَن

ولأن الحضور الديمغرافي هو نتيجة ذعر متوارث، فقد بنى الجميع علاقته بالجميع على قاعدة الحذر الذي يتفجر حربًا أهلية أو أقل قليلًا كل عقدين أو أكثر، وأصبح عاديًا الحديث في "دولة وطنية" مدّعاة، عن منع تملك مواطنين عقارات في مناطق مواطنين آخرين، أو حرمانهم من الخدمات العامة أو الاحتجاج على تزايد نسبتهم العددية في مقابل "السكان الأصليين". والسكان الأصليون هؤلاء ليسوا من "الهنود الحمر" في القصة، بل وفق الوقائع التاريخية هم لاجئون سابقون أخذوا لأسباب ديمغرافية أو عسكرية أو سياسية مكان "سكان أصليين" سابقين، وهكذا دواليك.

من هنا، يُفترض بكل لبناني أن يشعر بالفزع اليوم عندما يتحدث لبنانيٌ آخر، وهو يُشهر هويته الطائفية، عن تطهير منطقته من "اللاجئين". فإذا علمتنا التجربة الدموية شيئًا عبر التاريخ القريب منذ زمن الإمارة حتى زمن أمراء الحرب، فهو أن التوحّش إذا لبس لبوس الطوائف أو صُبغ بأي قداسة أخرى، لا يتوقف عند العدو الأوّل المُعلَن:

هل توقف الذبح باسم الهوية اللبنانية على الحواجز، عندما تصدى اليمين لـ"خطر اللاجئين" عام 1975، على بطاقة اللاجئ الفلسطيني؟ أم تعداه إلى ورشة تطهيرٍ مفتوحة طالت أعمالها داخل بيت "الجبهة اللبنانية" نفسها، بناءًا على قاعدة قتال الغريب، وأصحاب الغريب، والبحث الجماعي عن تحديد الغامض الذي "قرط الجرة" في المسرحية الرحبانية الشهيرة، والذي أراد أن يخرب ضيعتنا المتآلفة الجميلة... والمتخيلة غير الحقيقية أيضًا؟

اليوم، تخترع الشعوب اللبنانية بنسختها الأحدث ضيعةً جديدةً متخيلة، خربها السوريون: ضيعة كانت الكهرباء فيها لا تُقنن، والنفايات تُفرز ويُكرر منها ما أمكن، ضيعةٌ كان الياس وحسين يدبكون فيها على أغنية الصبّوحة ويدرسون في مدارسها الرسمية الحديثة كتاب التاريخ نفسه. ضيعة كانت أغطية الصرف الصحي لا تُسرق فيها من الشوارع ولا يُهمش فيها ابن الجرود الشمالية والشرقية. ضيعة خربها الغريب الذي يتفق الجميع على أنه اليوم سوري، والذي ما إن ننجح في إقصائه، سنجد أننا ما زلنا محاطين بـ"الغرباء"، حتى داخل هويتنا المشتبه فيها.

هل الأجدى أن نفكر في حلولٍ لعنصريةٍ هي نتاج التزاحم الطبيعي على الموارد المحدودة، أم في حلولٍ لجذر المشكلة وكيفية وقف النزيف البشري والعمراني؟

الواقعية تتطلب أن نفهم ونتحضر لحقيقة أن العلاقة المأزومة بين الديمغرافيا اللبنانية والديمغرافيا السورية ستشهد مزيدًا من التردي في الفترة القادمة، وأن الانفجار مقبل في أزمةٍ لا حل لها في المدى المنظور، لأن مقاربتها في المداولات الرسمية والشعبية لا تزال محدودةً بالقراءة الوطنية الحديثة المصطنعة، بوصفها أزمة لبنانية محلية تطالَب "دولة لبنان" بمعالجتها كـ"دولة" مكتملة، برغم أن الواقع المؤسف، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، هو عكس ذلك: لقد فتحت الدولة اللبنانية حدودها للاجئين على النحو الذي شهدناه بناءًا على تعليماتٍ ورشواتِ تمويل من الخارج، ورحّب البعض بهم بحرارة طمعًا باستثمارهم السياسي، ويتلكأ الجانب اللبناني في مخاطبة الجانب السوري بسبب قيود أجنبية...

لم يتعامل لبنان منذ 2011 مع ملف اللاجئين كدولة. فلماذا يفترض البعض أن ذلك سيحدث اليوم؟

الحقيقة المرة التي يجب أن ننطلق منها هي أن لا دول مكتملة شرق المتوسط، بل جماعات مذعورة وضعها الاستعمار في صناديق. وتاليًا، لا توجد مشكلة محلية ولا حلول محلية هنا، وإذا لم يفهم اللبنانيون بأن شعار الـ10452 كلم² لا يعني أننا جزيرة ولا يفكّنا عن الجغرافيا ولا التاريخ، وأن أي سيناريو حل لا يجمع العراقيين والسوريين والأردنيين والفلسطينيين (...) مع اللبنانيين، في غرفة عمل وتفكير في كيفية إعادة بناء شرقٍ يملك مشروعًا ولا يكون جزءًا من مشاريع الآخرين، هو سيناريو محكوم بالفشل.

لقد كان الانفجار السوري العظيم عام 2011 "بيغ بانغ" ما زلنا نعيش ارتداداته حتى اليوم. وبرغم النتائج الدموية التي لم تُعفِ دولةً منه، إلا أن المؤسف هو أن ما حدث لم يغيّر في إصرار الكثير من النخب والمؤسسات على التعامل مع النتائج، لا مع الأسباب، حتى يصبح السؤال المطروح أمام الجميع: هل الأجدى أن نفكر في حلولٍ لعنصريةٍ هي نتاج التزاحم الطبيعي على الموارد المحدودة في الدول ــــ الصناديق، أم الأجدى أن نفكر في حلولٍ لجذر المشكلة وكيفية وقف هذا النزيف البشري والعمراني، فنطفئ الحرائق الكبيرة في بلادنا الواحدة، ولو كثرت الحدود؟

حتى يحين ذاك الوقت، ويُصلح عطّارٌ ما أسّسه على خراب العقدين الأولين من القرن العشرين، وما أفسده العقدان الأولان من القرن الواحد والعشرين، ستأتي وتذهب صراعاتٌ وشعارات، وتُطرح وتُسحب خرائط، ويبقى لبنان اللادولة مستودعًا كبيرًا للاجئين، ومسرح خوفٍ جماعي عبثي، ينتظر فيه الجميع الحل الذي سسيسمح به الخارج، ممثلًا بـ"غودو".


هل أنت سعيد بجهازك الذكي؟ إسرائيل أيضًا! (1)

كيف يقدّم اللبنانيون معلومات تصلُح للاستخدام الأمني ضدّهم من دون أن يدروا؟ كيف تستفيد إسرائيل من الأمر؟..

خضر سلامة
هل أنت سعيد بجهازك الذكي؟ إسرائيل أيضًا! (2)

في الجزء الأول من هذه المادة، يعالج الكاتب إشكالية التعامل مع الأدوات الرقمية، وتناقل الصور والفيديوهات..

خضر سلامة
أنا الابن الشرعيّ للحرب

أنا الابن الشرعي لحربٍ ذهب إليها جيلٌ كاملٌ ولم يعد منها، لحربٍ أعطت وعودًا كثيرة لم تفِ بها.

خضر سلامة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة