عالم غزّة الموازي

تشترك أمنيات طفلٍ يُحب أن يلعب بالخردوات ليصنع منها شيئًا، كما يقول، بشروط فصائل كبُر أبناؤها في الحصار. فقدوا ما فقدوا وصنعوا من الخردوات أشياء جعلت العالم يتوقّف أمام أهوالٍ وحقائق تمّ إنكارها لعقود.

"أريدُ أن أكون مهندسًا كهربائيًا عندما أكبر"، يقول الطفل الغزّي الذي يلقّبه الفيديو القصير بـ"نيوتن غزّة". "أُحب استخدام الخردوات لأصنع منها شيئًا". "قمت قبل الحرب بصنع ضوء تحت الماء". تحمرُّ وجنتاه عندما يقول عنه ذووه إنه شقيّ. يبتسم ويُكمل؛ "أتمنى أن يدعمني أحد لكي أصير مهندسًا كهربائيًا".

لو أُجريت هذه المقابلة في مدرسة قرية صغيرة في ما يُسمّى "عالم الشمال"، لكان جواب هذا الطفل مملًا! وقد يُقال إنه لم يرَ من الحياة الكثير بعد، أو إنّه تأثر باختصاص أهله أو أحد أقاربه. وقد تُدرج القصة في سياق تحميل الحكومة المسؤولية عن عدم تقديم خدماتٍ كافية للأطفال في القرى النائية، تتيح لهم الاطلاع على المزيد من الاختصاصات الجديدة.

ألا يريد نيوتن غزّة أن يكون عالم داتا مثلًا؟ ألا يرغب في أن يكون مؤثّرًا؟ من يريد أن يكون مهندسًا كهربائيًا هذه الأيام؟

ثمّ يمرّ تفصيل صغيرٌ في الفيديو يغيّر كل شيء: "ماذا تريد يا نيوتن غزّة؟ ما هي رسالتك؟"، يُسأل.

يريد فكّ الحصار والعودة إلى بيته المقصوف، ومن ثمّ أن يدعمه أحد ليصبح مهندسًا كهربائيًا.

تشترك أمنيات حسام العطّار، نيوتن غزّة، بشروط المقترح الذي سلّمته الفصائل الفلسطينية من أجل إنهاء الحرب: فكّ الحصار، والعودة إلى المنازل، وإعادة الإعمار لتمكين حسام وأبناء جيله من الدراسة والتعلّم والاستمرار.

تشترك أمنيات طفلٍ يُحب أن يلعب بالخردوات ليصنع منها شيئًا، كما يقول، بشروط فصائل كبُر أبناؤها في الحصار المستمرّ منذ سبعة عشر عامًا. فقدوا ما فقدوا وصنعوا من الخردوات أشياء جعلت العالم يتوقّف منذ أربعة أشهر أمام أهوالٍ وحقائق تمّ إنكارها لعقود.

لن يسلم هذا العالم ما دام حسام في الحصار، بعيدًا عن بيته المقصوف، يلعب بالخردوات ليصنع منها شيئًا

لقد كشفت غزّة عن قدرتها على جعل خردواتها قنابل وأنفاقًا وطائرات شراعية وخططًا مدهشة، مثلما صارت خردوات حسام مروحة تعمل على الهواء لتضيء خيمة أهله. كما كشفت عن أكاديميين ومهندسين وأطباء يملأون كلياتٍ واختصاصاتٍ كبرى. يعملون ويتفوقون ويتقدّمون، في حين يقطع عنهم الاحتلال نور الشمس لو استطاع.

كشفت غزّة عن عالمٍ موازٍ يمشي كالماء تحت أقدام العالم الرتيب. يسافر الناس ويتجوّلون فيه ويضيّعون نصف أعمارهم نيامًا، فيما أهل غزّة تحت الحصار يصنعون من الخردوات أشياء.

وما إن كشفت غزّة جزءًا من قدراتها، حتّى هزّت تمسّك العالم برتابته. فانصبّت عليها أشكال التوحّش كافة، من خلال السلاح والكلام والوصف والمقارنات. بدا عرش رتابة العالم كما لو أنه في خطر. كأنّ صناعة الإنسان شيئًا من الخردوات قد تكسر النظام العالمي الذي يحب تكديسها ورميها في المحيطات، أو إرسالها إلى بعض فقراء العالم بشرط ألا يصنعوا منها شيئًا، ثمّ التباكي في المؤتمرات الدولية على التغيّر المناخي وبلوغه نقطة اللاعودة.

بدا العالم كما لو أنّه فضّل إبادة غزّة على التعلّم من لغتها الجديدة وقدراتها الراسخة. كأنّ مساحة القطاع الصغيرة ضاقت في أعين الذين يشترون جبالًا وسهولًا وجزرًا، بغرض إنتاج فيديو قصير يعلّم الناس أسرار تسطيح الحياة.

ثمّ أتى فيديو نيوتن غزّة. استخدم صانعوه الأدوات نفسها والسرعة ذاتها المطلوبتين لتشكيل رسالة وبثها للاستهلاك السريع. لكنّ حسام الذي يريد أن يصير مهندسًا في غير زمنه، بعث برسالته الخاصة، الأوضح والأكثر بلاغة من معظم المحتوى الذي يملأ الفضاء الافتراضي: فكّ الحصار والعودة إلى البيت المقصوف، لكي يكبر فيه ويصير مهندسًا كهربائيًا يضيء عتمة العالم كلّه.

كم تعلّمنا في دقيقة! كم تعلّمنا في أربعة أشهرٍ!

كم كان يجب أن نتعلّم في ألف ومئتي شهر تخلّلها أنين إبادة لم يُرِد كثر الإنصات إليه، إلى أن دوّى صوت غزّة في آذان الكوكب كلّه ووضعه أمام الحقيقة الصافية: لن يسلم هذا العالم ما دام حسام في الحصار، بعيدًا عن بيته المقصوف، يلعب بالخردوات ليصنع منها شيئًا.

بل لن يسلَم العالم حتى لو عاد حسام إلى بيته المقصوف، بعد رفع الحصار، وصار مهندسًا كهربائيًا. لن يسلم العالم إلا عندما تغفر له غزّة.

كم تعلّمنا! كم كان يمكن ألا يكون هذا الدرس علقمًا! 

حَمَلَة أرشيف بيروت، شهودُ دمارها 

سواء للمقيمين أم المارٍّين، تعمد بيروت دومًا إلى الإعلان عن أنها ليست بيتًا دائمًا لأحد، أو يُحجم ناسُها..

أريج أبو حرب
"سنة أولى حريّة": يسقط وهمنا

"سنة أولى" ليست باحتفالٍ أو إحياءٍ للذكرى السنويّة بل مقاربةً للتجربة كمبتدئين فيها. كأنها السنة الأولى..

أريج أبو حرب
"بين منطوق لم يُقصد ومقصود لم يُنطق*": سؤال الثقافة في الانتفاضة الشعبيّة في لبنان

تبدو الحركة الشعبيّة الراهنة، بأحد وجوهها، كما لو كانت سعيًا لنطق المقصود الّذي يعمل المنتفضون على..

أريج أبو حرب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة