الحرب واستجداء الغرب

لن يكون فك الارتباط بالغرب عملية سهلة أو سريعة. لكنّ البحث عن بدائل ولو بعد حين، وفي ظلّ ظروف صعبة، يبدأ من القناعة بضرورة ذلك البحث وتحمُّل التضحيات اللازمة في سبيل ذلك.

فضحت حرب الإبادة الجماعية على غزة مدى زيف الادعاءات الغربية حول احترام حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية والالتزام بالقانون الدولي. وهي ادعاءات لم تكن يومًا صادقة. لكنها باتت اليوم غير قابلة للصرف حتى في أوساط المجتمع المدني الذي تبنى تلك الطروحات كسبيل للإصلاح والتغيير في المجتمعات العربية.  فهل سنشهد تحولًا ملحوظًا في خطاب وأجندات وأولويات المنظمات غير الحكومية والمنابر الإعلامية والمؤسسات البحثية المرتبطة بالغرب، أم أن الاعتراض والامتعاض سحابة صيف ستنقشع بعد الحرب؟

قد يبدو السؤال نافلًا في خضم المعركة الدائرة.  فالكلمة الفصل، كما هي الحال عبر تاريخ حركات التحرر، هي للميدان والمقاومة المسلحة. لكن الصراع الأيديولوجي والثقافي والإعلامي جزء من أي حرب تحرّر وطني. والضرر الكبير الذي ألحقته التبعية الفكرية والأيديولوجية للغرب بالوعي السياسي لجيل عربي كامل ـــ خصوصًا من الطبقة الوسطى ـــ لا يمكن محوه بين ليلة وضحاها. إنه نتاج عقود من الاستثمار في البنى التربوية والإعلامية والثقافية والقانونية للمجتمع السياسي (مؤسسات الحكم) والمجتمع المدني على حد سواء. أي أنه لا يقتصر على قناعات فردية قابلة للتحول نتيجة ظرف طارئ كالحرب في غزة، بل يشكل منظومة متكاملة من دعم مالي ولغة حقوقية ونموذج حُكْم وقيم أخلاقية باتت متغلغلة في النسيج الاجتماعي.         

لا مجال هنا لطرح جميع جوانب هذه القضية وكيفية التصدي لها. لكنّ البداية تكمن في مصارحة علنية لتهافت هذه المنظومة من قِبَل الناشطين والعاملين فيها قبل الشامتين، حتى لا ينحدر النقاش إلى حلقة لوم ولوم مضاد. فالهدف ليس إدانة الأشخاص بحد ذاتهم، خصوصًا أن العديد منهم يعملون في هذا القطاع بسبب غياب خيارات أخرى. المطلوب هو نقد بنّاء، لكن دون مساومة أو تسويف.

فلنبدأ بالتوصيف ولنأخذ لبنان مثالًا. يمكن تصنيف القوى العاملة في منظومة المجتمع المدني ـــ بمفهومه الغرامشي ـــ التابع للغرب ضمن أربعة حقول. الحقل الأول هو الحقل التعليمي المُمَأسس، وعلى رأسه الجامعات والمدارس. وهو من أقدم الحقول وتعود جذوره الى الإرساليات الأجنبية التي بدأت نشاطها بشكل حثيث في القرن التاسع عشر وشهدت توسعًا في القرن العشرين. الحقل الثاني هو حقل مراكز الأبحاث والاستشارات وقد شهدت صعودًا بارزًا بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت جزءًا من الحرب الباردة. أما الحقلان الثالث والرابع فهما حقل المنابر الإعلامية وحقل المنظمات غير الحكومية، وكلاهما برز في عصر النيو ليبرالية، خصوصًا منذ تسعينيات القرن المنصرم وبعد الانتفاضات العربية.

بات الحديث عن مصائر مشتركة بين الشعوب العربية خارج إطار الفن والثقافة والتضامن المعنوي يصوّر كما لو كان قومجية مبتذلة

شكّلت التسعينيات منعطفًا خطيرًا في هذه المسيرة. فقبل تلك المرحلة، كانت منظومة المجتمع المدني التابعة للغرب محسوبة بشكل كبير على قوى اليمين والرجعية، وكانت هناك مؤسسات وقوى مدعومة من المعسكر الاشتراكي أو العربي التقدمي، وشكّلت ندًا لها. لكن منذ التسعينيات، انخرطت كادرات وقوى يسارية عديدة في المشروع الفكري الغربي حتى باتت المنظومة بغالبيتها اليوم رافعة للعمل اليساري. وقد ترافق هذا التحول مع تحول موازٍ في الخطاب اليساري نفسه، فاستُبدلت مفاهيم ثورية وجذرية كمعاداة الاستعمار، والصراع الطبقي، والديموقراطية الشعبية، والقضاء المنحاز للقضايا المحقة، ومحورية العمل الحزبي، بمعادلات هلامية عن الهوية والحقوق الفردية والمهمشين وحرية التعبير والديموقراطية التمثيلية واستقلالية القضاء وأولوية المجتمع الأهلي.

والمفارقة أن التماثل مع الغرب جاء محصورًا بتلك المفاهيم وترجمتها بشكل سطحي واستنساخي، من خلال الأطر المدنية الضيقة كالانتخابات النزيهة والحوكمة الرشيدة. أما مرتكزات القوة والسيطرة التي لم يتخلّ عنها الغرب يومًا مثل دور الجيوش والتسلح (أي العنف) في تكوين النظام السياسي وحمايته، أو دور الأحزاب السياسية في التغيير أو الجيوسياسة في تحديد الخيارات السياسية لتلك الأحزاب، فقد تفاداها الخطاب الإصلاحي، فجاء تصوّر الإصلاح والتغيير تصورًا طوباويًا أو طفوليًا جرّد مفهوم التغيير من هذه المرتكزات.

وعليه، باتت العسكرة بحد ذاتها شر مطلق، والجيوسياسة ابتعادًا عن قضايا الناس، والأحزاب تشكيلات ديناصورية. وبات الحديث عن مصائر مشتركة بين الشعوب العربية خارج إطار الفن والثقافة والتضامن المعنوي قومجية مبتذلة، بعكس أوروبا حيث الاندماج السياسي تعبير عن تحضّر ورقيّ.  

وفي مرحلة الانتفاضات العربية، استعادت هذه القوى اليسارية بعضًا من الخطاب الراديكالي، ولكن بصيغة ملطّفة كمفهوم العدالة الاجتماعية. لكن هذه المقاربة بقيت حبيسة المنابر الإلكترونية والتحركات الاحتجاجية، وبعيدة عن التطرق الى مرتكزات القوة في بناء أي دولة أو نظام ثوري جديد. وتغاضت معظم هذه القوى اليسارية ـــ بحجة إعطاء الأولوية للقضايا الاجتماعية ـــ عن دور مصالح الغرب الحيوية في المنطقة. وتآمر بعضُها أو ظل صامتًا في ما يخص الكفاح المسلح بقيادة المقاومة الإسلامية في وجه إسرائيل. وأصبحت قضية فلسطين في أسفل سلّم الأولويات بحجة احتكارها من قبل قوى الممانعة واليسار "الخشبي". وفي كل ذلك جهل فاضح عن ترابط تلك الملفّات، وعن تاريخ تكوّن البنى الاجتماعية في منطقتنا منذ أكثر من قرن.   

الكثير من المتعاطفين مع الفلسطينيين في الغرب الذين يُحتفى بهم في أوساط اليسار العربي متعاطفون مع الفلسطيني الضحية، لا الفلسطيني المقاوم   

ما زالت مفاعيل هذه المقاربة حاضرة في تغطية الحرب على غزة. إنّ معظم المنابر الإعلامية اليوم، المُموّلة من الغرب أو من حلفائه الإقليميين وعلى رأسهم ملوك ومستشاري النفط والغاز، تتبنّى خطابًا داعمًا لقضية فلسطين يكاد يتماهى مع خطاب القوى الغربية الداعمة لفلسطين. وكأنّ مجتمعنا في حالة تضامن مع القضية بدل أن تكون قضيته. هكذا، يتم التركيز على معاناة الشعب الفلسطيني والإبادة في غزة وطبيعة إسرائيل العدوانية من أجل استجداء الغرب أو كشف معاييره المزدوجة، لكن دون تبنّي العمل المقاوم المسلح في 7 تشرين/أكتوبر أو بعده، بشكل لا لبس فيه، ودون التمييز بين المحور الإقليمي الداعم لهذه المقاومة (على علّاته) وذلك المتآمر عليها.

وتجهد بعض هذه المنابر في استضافة كتّاب أوروبيين أو أميركيين مناصرين للقضية، ومنهم اليهود المعادين للصهيونية (وهي مقاربة قد تكون مفهومة في الغرب نظرًا لتركيبته الاجتماعية)، بينما تنبري الجامعات ومراكز الأبحاث والمنابر الإعلامية في الغرب إلى طرد أو أبلسة أو تهميش المفكرين والمثقفين والطلبة الداعمين لفلسطين، خصوصًا العرب وغير البيض. والجدير ذكره أن الكثير من صُنّاع الرأي العام في الغرب والمتعاطفين مع الفلسطينيين، الذين يُحتفى بهم في أوساط اليسار العربي، يدعمون حلّ الدولتين (أي بقاء الدولة اليهودية)، أي أنهم ليسوا مع تحرير فلسطين من الأبارتهايد من البحر الى النهر. هم متعاطفون مع الفلسطيني الضحية، لا الفلسطيني المقاوم.    

لقد أثبتت التجارب التاريخية أنه لم ولن يُجدِ استجداء الغرب نفعًا. وما يحدث اليوم من إفلاس أخلاقي فاضح في الغرب هو إدانة جديدة لتاريخه الحافل بالإبادات والمجازر الممتدة عبر الكوكب من أقصى الشرق مرورًا بأقصى الجنوب وصولًا إلى قلب أوروبا نفسها. لقد حان وقت فك الارتباط المؤسساتي بين كل القوى التي تدّعي اليسار وبين رعاتها الغربيين ومنظومتهم الليبرالية المنافقة، وتولية الوجوه نحو عالم الجنوب. لقد بادرت بعض المؤسسات الغربية نفسها، بما فيها اليسارية، إلى قطع الدعم أو التلويح بخفض الدعم لكل من تسوّل له نفسه مجرّد وضع 7 تشرين في سياق النضال من أجل تحرير فلسطين. ونشهد اليوم حملة مكارثية في الغرب الديموقراطي لتطهير المؤسسات التعليمية والثقافية والفكرية من داعمي فلسطين. لم تتردّد النخب الغربية بالإعلان قولًا وفعلًا أن بوصلتها إسرائيل، بينما الكثير من قوى اليسار العربي تحجم عن الإعلان أن فلسطين بوصلتها.  

لن يكون فك الارتباط عملية سهلة أو سريعة. إذ دون ذلك عقبات كثيرة، منها ما هو مادي كاعتماد آلاف العاملين في هذا القطاع على التمويل الذي يؤمنه الغرب لهم في ظل حياة معيشية صعبة وغياب فرص العمل البديلة وانهيار التعليم الرسمي والوطني؛ ومنها ما هو براغماتي كإيمان القيّمين على القطاع بنجاعة ما يقومون به ضمن الإمكانات المحدودة بدلًا من البحث عن بدائل ما زالت بعيدة المنال؛ ومنها ما هو أيديولوجي أو فكري، كتبنّي المفاهيم الأخلاقية والسياسية التي ترتكز عليها هذه المنظومة الغربية والانبهار المستمر بحضارة الغرب وثقافاته. والعنصر الأخير هو الأساس، لأنه المحفّز من أجل تغيير العنصرين المادي والبراغماتي.

إنّ البحث عن بدائل ولو بعد حين، وفي ظلّ ظروف صعبة، يبدأ من القناعة بضرورة ذلك البحث وتحمُّل التضحيات اللازمة في سبيل ذلك. لقد خَلقت منظومة المجتمع المدني القائمة شرخًا كبيًرا بين النخب اليسارية وعامة الناس. فهل تعيد حرب غزة ترميم هذا الشرخ، أم تكرّسه إلى نقطة اللاعودة؟

العلاقات السورية - اللبنانية: أي مصير؟

التناقض الأساسي بين لوازم مواجهة الاستبداد المتمثل بالنظام السوري ولوازم محاربة الاستعمار الاستيطاني..

هشام صفي الدين
العمالة الزراعية المُعوْلمة: الحصاد المُرّ

بحسب "منظمة العمل الدولية"، بلغ عدد العمال المهاجرين في العالم 164 مليون عام 2017، وتُشكّل الزراعة ركناً..

هشام صفي الدين

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة