Image Credit: Mikhail Sveltov/Getty Images
شهد القرن التاسع عشر سيادة الرأسمالية كنمط إنتاج، وشهد القرن العشرون أكثر الحروب دموية في التاريخ (الحربين العالميتين الأولى والثانية)، أما القرن الحادي والعشرون فافتُتح بغزو دولٍ لدولٍ أخرى – ذات سيادة وفق القانون الدولي – تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان ونشر الحريات، كما كان حال الغزو الأميركي لأفغانستان (2001) تحت مسمى "الحرب على الإرهاب"، والاحتلال الأميركي للعراق (2003) بذريعة "نزع أسلحة الدمار الشامل".
وبمعزل عن اختلاف أشكال الصراع، فإن النتيجة النهائية واحدة، وهي تتمثل بحدوث تغيير في الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد العالمي. وهذا ما تؤكده لنا الحرب الروسية-الأوكرانية أخيرًا. إذ مهما كنا بعيدين جغرافيًا عنها، فإن تأثيراتها ستصل إلينا وإلى العالم أجمع، ليس فقط عبر تبدّل أسعار السلع وخطوط إمدادها، بل لجهة طبيعة النموذج الاقتصادي العالمي السائد أيضًا.
من المسؤول، إذًا، عن تغيير النظام الاقتصادي العالمي؟
جدلية العلاقة بين الرأسمالية والحرب
أعادت الحرب الروسية-الأوكرانية إلى الواجهة، من جديد، مسألة العلاقة بين الرأسمالية والحرب. على مدار تاريخ الفكر الاقتصادي، تركَّزَ النقاش في تفسير تطور الرأسمالية على منظورين أساسيين، لكن متناقضين:
- الأول هو المنظور الليبرالي الذي يرى في تحرير الاقتصاد العالمي عاملًا مساعدًا على إحلال السلام، على اعتبار أن التجارة الحرة من شأنها أن تضمن تحقيق منافع اقتصادية مشتركة للدول الأطراف في التجارة الدولية، ما يحدّ من ميل هذه الدول إلى افتعال الحروب أو المشاركة فيها. ووفقًا لهذا المنظور، لا يُفترض نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية، لأن جميع الدول الداخلة في هذه الحرب (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) هي دول أعضاء في "منظمة التجارة العالمية".
- الثاني هو المنظور الماركسي الذي يتهم الرأسمالية بالإمبريالية وخلق الأزمات الاقتصادية، إذ يرى ماركس أن الرأسمالية، مدفوعة بقوانينها الثلاثة (التراكم الرأسمالي، وانخفاض معدلات الربح، وتدني المنافسة)، ستدخل في أزمة داخلية. لكن لينين أضاف "القانون الرابع" للرأسمالية، وهو قانون الإمبريالية الرأسمالية. حيث يرى لينين أنه، نتيجة للقوانين الثلاثة للرأسمالية، ستضطر دول للسيطرة على دول أخرى (مستعمرات) وتحويلها إلى أسواق تابعة ومنافذ استثمار ومصادر للغذاء والمواد الخام الرخيصة. وسينقسم العالم المستَعمَر تبعًا لنقاط القوة النسبية فيه.
فهل الحرب الروسية-الأوكرانية هي التطبيق العملي لقانون لينين الرابع للرأسمالية؟
الرأسمالية العالمية في أزمة
لا يمكن فهم حرب أوكرانيا بشكل صحيح دون وضعها في السياق الأوسع للصراع العالمي بين الإمبريالية الأميركية والصينية. عندما تبوّأ دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، رفع شعار "أميركا أولًا"، واتّبع سياسة العزلة الدولية، وشن حربًا تجارية على دولة عضو في "منظمة التجارة العالمية" (وهي الصين) بغرض حماية الاقتصاد الأميركي من المنافسة الصينية. وبهذا تحول أكبر اقتصادين في العالم من محرّكين للعولمة إلى النقيض من ذلك.
من المتوقع أن تؤدي الحرب الروسية-الأوكرانية إلى إحداث تعديلات جوهرية في النظام العالمي الحالي
اليوم، يُعد النظام الروسي نظامًا اقتصاديًا رأسماليًا متحالفًا مع الصين، التي ينطوي اقتصادها على أكبر قطاع رأسمالي خاص منذ الثورة الصينية عام 1949. ويعدّ هذان الاقتصادان الرأسماليان القويان الأكبر عالميًا من حيث المساحة الجغرافية (روسيا) ومن حيث عدد السكان (الصين)، وتحالفهما يمثل مشكلة كبيرة للإمبراطورية الأميركية العالمية.
لهذا، فإن دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا ليس إلا محاولة لقمع دولة أخرى تتحدى الهيمنة الأميركية مباشرة - أي روسيا - فيما المواجهة مع روسيا تمثل طريقًا غير مباشر للتغلب على أكبر تهديد للإمبراطورية الرأسمالية الأميركية، المتمثل بالصين.
بناء على ذلك، يضحي القول إن الحرب الروسية-الأوكرانية هي "صراع بين الديمقراطية الغربية والاستبداد الروسي" أمرًا تعوزه الدقة، إذ إن الحرب اندلعت في سياق تراجع امبراطورية رأسمالية وصعود أخرى. فأوكرانيا، بذاتها، ليست هي القضية، بل هي مجرد ساحة للمعركة بين دول رأسمالية مهيمنة تخشى الأفول (الولايات المتحدة ومن خلفها حلفاؤها في أوروبا) من جهة، ودول رأسمالية صاعدة تسعى إلى حجز مقعد في قيادة الاقتصاد العالمي (الصين وروسيا)، وتتحدى الولايات المتحدة في حرب يُعمَل من خلالها على إنتاج نظام عالمي جديد.
من هنا، يمكن القول إن الحرب في أوكرانيا إنما تقدم مثالًا يدحض الفكرة التي تفيد بأن الرأسمالية ضمانةٌ للسلام الدولي. فإشعال الحروب ضرورة من أجل استمرار الهيمنة، فيما مقاومة الرأسمالية للحروب وطول أمد "السلام" العالمي المفترض، مرتبطان بقدرة النظام الرأسمالي على التكيّف عندما لا تعوزه الموارد.
النماذج الثلاثة للنظام العالمي الجديد
سرّعت الحرب الروسية-الأوكرانية التحوّلات في كلّ من الجغرافيا السياسية والعقلية الرأسمالية. ومن المتوقع أن تؤدي الحرب إلى إحداث تعديلات جوهرية في النظام العالمي الحالي، فيما يبقى السؤال عن الشكل الذي سيبدو عليه النظام العالمي الجديد مفتوحًا.
ويمكن تصوّر ثلاثة سيناريوهات لعملية التحوّل العالمي هذه، تهيمن في كل منها كتلتان أو ثلاث كتل تجارية كبرى: واحدة آسيوية محورها الصين وروسيا كمورّد للطاقة، وثانية بقيادة أميركية، وثالثة يمثلها الاتحاد الأوروبي.
بالنسبة لروسيا والصين، قد يكون النموذج الأكثر قبولًا هو نظام متعدد الأقطاب للقوى العظمى، مع مناطق نفوذ حصرية. أما الولايات المتحدة، فما زالت تشن حروبًا من أجل الحفاظ على نظام عالمي أحادي القطب. وما بين هذين النموذجين، تبرز لدى بعض الدول الأوروبية أحلام جيوسياسية، تأخذ شكل قوة أوروبية مستقلة. وفي حين أن الأوروبيين ما زالوا حلفاء "راضين" بقيادة أميركية، إلا أنهم في الوقت عينه يخشون من عودة واشنطن إلى اعتماد سياسة ترامب الانعزالية مجددًا. لكن نتيجة عدم الاستقرار الحالي في القارة الأوروبية، من الممكن أن تتأرجح توجهات بعض الدول الأوروبية بين الكتلتين التجاريتين الأولى والثانية.
يبقى القول إنه حتى لو كسبت روسيا الحرب عسكريًا في أوكرانيا، فإنها، من الناحية الجيوسياسية، ستحتل موقعًا ثانيًا، بصفتها الشريك الأصغر للصين، علمًا بأن التفاوض لحل مشكلة الحرب الروسية-الأوكرانية، ليس إلا جزءًا من "إعادة ضبط" أوسع للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، فيما نتيجة التفاوض ستكون مجرد فترة راحة مؤقتة. لكن يمكن الزعم أن طريق العودة إلى النظام الأحادي القطبية لم يعد ممكنًا.
يترك هذا الصين والولايات المتحدة كقوتين وحيدتين قادرتين على تحديد معالم النظام الجديد، وهو ما يفسر عدم رغبة كل منهما بالانجرار إلى "الصراع الأوروبي"، إذ تقرأ هاتان القوتان الصراع من زاوية تنافسهما على الهيمنة العالمية.