يرى غاستون باشلار أن زوايا البيت ــــ أي بيت ــــ هي مستودع الذكريات، والتشكلات الأولى للذاكرة الآدمية. لقد عادلها باشلار بالعش الدافئ، وتساءل على مسمع قرائه في كتابه الشهير "جماليات المكان" الذي ترجمه الروائي الأردني الراحل غالب هلسا: هل كان للعصافير أن تبقى في أعشاشها لولا دفئها؛ إذ إن المكان من دون تلك الذكريات غير الساكنة هو مكان ميت، وبالتالي يصبح لكل محاولات العيش، والعلائق الاجتماعية على صعيد البيت، وخارجه، قيمة حياتية مؤسِّسة للذاكرة.
لقد احتل المكان في معظم مستوياته دور البطولة في كثير من الروايات العربية والعالمية، ليس من زاوية التوثيق، أو التصوير فقط، بل من جهة التنقيب المعرفي في طبيعة الصراع بين الإنسان ومكانه، وما يمكن أن يفضي له هذا الصراع خصوصًا في هذه المرحلة التي تشهد اكتساحًا للتحديث على حساب كنوز المراكز التقليدية، سواء في المدن العتيقة أو في الأحياء الشعبية مثل "مساكن سيدي بشر" التي تقع في الإسكندرية. ففي روايتنا لهذا اليوم تجيء البطولة المكانية بوعي مختلف، هذه المساكن التي استلهمتها الكاتبة المصرية هبة خميس في روايتها "مساكن الأمريكان".
عادة ما تلتفت انتباهي الروايات الأولى لكتابها، خصوصًا تلك التي قَصُرَ الضوء عنها، إذ فيها رؤية بكر للذات وللعالم. وهبة خميس كاتبة مصرية اسكندرانية، مسح البحر شواطئ روحها برؤية نقية لذاتها وللإنسان ولمكانه، وبالتالي برزت تلك الجدلية من خلال رؤيتها لمساكن "سيدي بشر"، التي سقطت مبانيها، وأعيد بناؤها في عهد الرئيس أنور السادات، بمنحة من الولايات المتحدة الأميركية؛ فسُميت في ما بعد بـ "مساكن الأمريكان"؛ حي عشوائي، له أزماته، وثقافته الخاصة، وطابعة المختلف، وأحلامه، وانكساراته، وأدواته في قراءة الحياة.
هذه رواية قصيرة، تكثيفها لم يأت من فراغ، بل جاء من وحي صرخة تؤازر الهامش مقابل المتن
من السائد أن الفن الروائي يكترث بالتفاصيل، لتشكيل الصورة الروائية. لكن هبة خميس انطلقت في روايتها هذه بتكثيف يُراد منه أن يخلق القارئ تأويلاته لواقع ملتبس؛ إذ قاربت تلك المنطقة الشعورية التي وجد الإسكندريون أنفسهم فيها بين الإسكندرية العتيقة والإسكندرية الجديدة، مساحة مرتبكة، ليست فقط من زاوية النوستالجيا، إنما أيضًا من تلك الزاوية التي ترى المكان خارج الإطار الشكلي؛ فتنفذ إلى روحه، وتتقصى معانيه الثقافية، والاجتماعية، والسياسية. إذ تبدو التبدلات الكبرى على أمكنة في مدينة عريقة مثل الإسكندرية، مرعبة، خصوصًا ونحن نذهب إلى عصر يسوده التشييء. وكأن هبة خميس تقول في روايتها هذه أن الإسكندرية الحقيقية لا يعرفها الكثيرون، وأن هناك أكثر من اسكندرية.
إن دور البطولة في هذه الرواية للهامش، من دون محسّنات، ولا دثار يحجب حقيقة الواقع؛ بطولة جعلت الرواية لها مسارًا روائيًّا نحو عائلة تقطن مساكن الأمريكان، حيث الصورة غير النمطية للإسكندرية، صورة عن الهامش الفقير، الذي ما يزال يتمسك بأحلامه رغم كثير من الشروخات؛ بحيث ينطلق القص الروائي من بؤرة عائلة سليم التي أراها معادلًا موضوعيًا لما هو أكثر اتساعًا من البيت. ثم يضيء على حيوات الأبناء بكل معيقاتها، وأحلامها، مثل علي الشبح الذي يحمل موقفا مرتبكًا من ذكورته، ومن شقيقه، وسيد الذي يفتقد دفء الأمومة، وهناء التي تحتلها الحيرة إزاء كثير من تفاصيل حياتها خصوصًا زوجها الذي تكلست العلاقة بينهما.
فالرواية تتكئ على عدد من القصص المرتبطة ببؤرة الفكرة التي تحاول اختصار الهامش في هذه النوفيلا، هامش تختلط فيه مشاهد البنايات الحديثة بالـ"عشش"، والروائح الكريهة، بما يحمله الهواء من روائح البيوت الحديثة. ويتقاطع فيه الوفاء، بالخيانات، والرغبات، بانسداد الأفق الجسدي أمام سوداوية الواقع. وتُهزم فيه الـ"عشش" أمام التمدد العمراني في المتن المديني. فحين تأخذ المدن بالصعود عاموديًّا، فهي تذهب نحو الطبقية.
إن أبرز ما يمكن الاسقاط عليه تأويليَّا في هذا النص الروائي الهادئ والصاخب في الآن نفسه هو شخصية عليّ، وصورة المساكن الهامشية مقابل التحديث الذي لابد منه. إذ إن تحول عليّ بكل التباساته البيولوجية، وتوتراته النفسية، وخساراته، ما هو إلا رؤية لعلاقة الحديث بالسائد. وإن صراع المساكن كسائد مع الجديد كطارئ، ما هو إلا صراع حتمي ما زال مستمرًا عبر كل المراحل، والحقب. لهذا أجد أن هبة خميس ابتدأت روايتها بمشهد لافت لعلي الشبح، وأنهتها به. وما بين البداية، والنهاية في هذه النوفيلا الجميلة حكايات من فم الواقع، بآلامها، وصدقها، وتوقها للحياة. إنها رواية قصيرة، تكثيفها لم يأت هكذا من فراغ، بل جاء من وحي صرخة تؤازر الهامش مقابل المتن.