في مقابلةٍ أُجريت مع جورج قرم في 8/4/2011، استقبل الأخيرُ نزولَ الشعب في تونس ومصر إلى الساحات، أواخرَ عام 2010 ومطلع عام 2011، على أنّه نزول "عملاق، كبير ومجيد"، و"حركة عظيمة". لكنه تخوّف في المقابلة ذاتها من "أن تكون الثورات العربية قد توقفت في مصر وتونس". ولم يُبدِ، في شأن المستقبل، أكثر من "تفاؤل حذر".
حسنٌ، ماذا، إذًا، عن ليبيا وسوريا واليمن؟ ما الذي تفرق به الانتفاضات في هذه البلدان الأخيرة عن انتفاضتي مصر وتونس؟ يقول قرم، في المقابلة ذاتها، من دون تردد: "في حالة تونس ومصر ... تمت الثورات بدون عنف، خلافًا لما نشاهده اليوم في ساحات عربية أخرى".
في لقاء نُشر في 24/1/2012، رأى قرم أنَّ الدول الغربية الكبرى "دخلت بسرعة كبيرة جدًا ... في حمّى استعمارية جديدة" ارتكاسًا لانتفاضة الشعوب العربية، "ولازمتها القوى المحافظة المعادية للحداثة السياسية ولحرية الإنسان التي كانت تسمى بالرجعية العربية في الماضي. كذلك دخل العنصر التركي على الخط وأبرز نموذجًا إسلاميًا كوجهة سير للثورات العربية. هذا طبعًا سيغرّب الثورات العربية ونرى نتائج مؤلمة سواء في ليبيا أو في سوريا أو في اليمن. ويبقى أن نرى إلى أي مدى ستذهب الثورات في مصر وفي تونس".
لاحِظ، عزيزي القارئ، أنّ "الدول الغربية الكبرى" و"الرجعية العربية" و"العنصر التركي بنموذجه الإسلامي"، هم أول وأرفع حلفاء "الثورات" الليبية والسورية واليمنية. وهم من أُطْلِقَ عليهم اسم "أصدقاء الشعب السوري". ومن الواضح أنّ قرم، برغم تحليله "الداخلي" للانتفاضات العربية، يتشكّك في أن تكون ثورةً تلك التي حلفاؤها هؤلاء الحلفاء، وهو ما سيبقى ثابتًا عليه حتى النهاية، بخلاف كثير من النخب العربية التي اندرجت في مشاريع هؤلاء الحلفاء وخططهم وأدوارهم وممارسات مخابراتهم.
حتى بخصوص الثورتين اللتين أشاد بهما قرم (وتخوّف عليهما) في مصر وتونس، كان قد رصد، في مقالة بعنوان "المساعدات الاقتصادية لمصر وتونس: اصطياد الثورات بشباك التبعية" نُشرت منذ 11/6/2011، اهتمام دول الثمانية الكبار ودول الخليج بمساعدة كلّ من مصر وتونس. ورأى أنّ الدول الغربية "بادرت ... إلى عرض مساعدات لتونس مصر ولكن بنفس الشروط وبإشراف المؤسسات التي أدت سياساتها الاقتصادية في الدولتين سابقًا إلى الفساد والإفقار وتفاقم المديونية".
وفسّر ذلك على أنّه، في جوهره، اندفاع إلى "استيعاب وامتلاك الثورات العربية عبر وسائل قديمة جديدة تهدف إلى ... قيادة وتوجيه التغيرات الحاصلة في المنطقة". ما يعني استعادة زمام المبادرة بعد أن كانت ثورتا تونس ومصر "قد أرعبتا وأربكتا كلًا من الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغنية، كما ظهر جليًا من التناقضات في تصريحات قادة هذه الدول، بين مسؤول وآخر، أو بين يوم وآخر، إلى أن تقرر دعم الثورات لفظيًا بقوة وتركها تأخذ مداها بإسقاط أهم رموز الأنظمة الاستبدادية التي كانت قد حظيت بدعم متواصل وقوي من قبل الدول الغربية نفسها على مرّ العقود".
من المدهش التشابه هنا بين رؤية جورج قرم ورؤية المفكّر الماركسي المصري سمير أمين. كان أمين قد رأى، في مقابلة أجراها معه المفكّر الماركسي الهندي إعجاز أحمد في 24/4/2012، أنَّ "المؤسسة الأميركية ــــ ووراء المؤسسة الأميركية حلفاؤها الأوروبيين وغيرهم، مثل تركيا ــــ تعلمت الدرس بعد أن فوجئت في تونس ومصر. هذا الدرس هو الحيلولة دون قيام حركات مماثلة في غير مكان من البلدان العربية، وإجهاضها بأخذ زمام المبادرة في إطلاقها. وقد أتيح لهم أن يختبروا تجربتهم في ليبيا ... [و] بعد ذلك مباشرة في سوريا".
هل يخسر إعجاز أحمد رصانته ونباهته بمجرد أن يتعلّق الأمر بسوريا؟
كذلك هو الأمر مع إعجاز أحمد الذي تغنّى بانتفاضتي تونس ومصر، في مقالة بعنوان "خريف البطاركة"، نُشرت في 25/2/2011، ولم يأت 18/11/2011 حتى كتب مقالة بعنوان "إعادة استعمار ليبيا".
بصدد إعجاز أحمد، كثيرًا ما راقني أن أتذكّر ما كتبه عنه الصحفي والكاتب اللبناني بالغ الحماس لـ"الثورة" السورية، حسام عيتاني. وسوف أتذكّر ذلك هنا أيضًا، في سياق الكلام على جورج قرم وموقفه من "الثورة" السورية، لأنّ الأمر مشابه أشد الشبه لما كان يمكن أن يُقال عن قرم ولما قاله آخرون عنه بالفعل.
في مقالته "إعجاز أحمد مساندًا الاستبداد: كيف تقمص «الاستشراق» ناقده؟"، في صحيفة الحياة يوم 15/10/2015، يدهش حسام عيتاني للمفارقة بين ما يبديه إعجاز أحمد في كتابه في النظرية: طبقات، أمم، آداب من "تماسك منهجي رفيع المستوى" ومن "قدرة على تحليل بعض أكثر الكتابات إشكالية ووضعها في سياقها المعرفي والفكري الدقيق"، من جهة، وبين "تخبطه المفجع في تناوله الثورات العربية، والسورية منها على وجه التحديد"، من جهة أخرى.
فإعجاز أحمد، بحسب عيتاني، "مثل عدد من أبرز المفكرين اليساريين المعاصرين الذين ساندوا قضايا العرب في التحرر الوطني، في فلسطين وغيرها، والصراعات من أجل العدالة الاجتماعية والحريات في العالم العربي"، ثمة ما يحملهم "على تفضيل الاستبداد الذي يمثله في حالتنا النظام السوري على الثورات العربية"! وبذلك نكون أمام مفارقتين تحتاجان إلى تفسير.
ولا يكتفي عيتاني بإيجاد هذا التفسير في "الخوف من وصول الإسلاميين إلى السلطة ...[و] تحوّل البلدان العربية التي تشهد ثورات إلى قواعد للإمبريالية الأميركية"، بل يجده، أساسيًا، في مفارقة ثالثة عجيبة هي "سوء قراءة ... لحقائق العالم العربي البسيطة ومن بعدها للعالم ككل ... لا رجاء من تعديله وتصويبه" وفي "أخطاء ... من النوع المدرسي الذي لا ينتظره القارئ من صاحب في النظرية الذي وُصِف للتوّ بـ"التماسك المنهجي الرفيع المستوى" وبـ"القدرة على تحليل بعض أكثر الكتابات إشكالية ووضعها في سياقها المعرفي والفكري الدقيق" كما وُصف بـ"الرصانة والحصافة"!
لا يخطر لعيتاني تفسير أفضل من هذا للسحر الخارق الذي أوقف رصانة الرجل ونباهته ما إنْ تعلّق الأمر بسوريا. ولا يخطر في ذهنه، ولو كاحتمال، أن يكون نقد أحمد لـ"الثورة السورية" صادرًا عن "الرصانة والحصافة" ذاتيهما، لا سيما أنَّ الرجل كان قد تغنّى بالثورتين التونسية والمصرية، ولا يُعرَف عنه أنّ لديه استثمارات في سوريا يتشاطرها مع فاسدين هناك. إمّا أن تقرأ كقراءة العيتاني بكامل مشمشها الذي تراه أو تكون سيء القراءة!
لا شك، بالطبع، أنّ إعجاز أحمد وسمير أمين وجورج قرم من الرصانة والحصافة والعلم والتبحّر والإحاطة بمكان. ويمكن بيسر تبيان مدى الحكمة والنباهة والتحليل والتركيب والواقعية والثورية في موقفهم من الانتفاضات العربية إيجابًا وسلبًا، مما يَسْهُل على القارئ أن يجده، لكنّ إدراكه بات عسيرًا على أبناء سبيل سابقين على دروب "اليسار" دبّ فيهم "الفيروس الليبرالي"، على حد تعبير سمير أمين، فصار أعداءُ الأمس حلفاء اليوم، بل المعلّمين وقبلة الثورة والثوار: الدول الغربية الكبرى والرجعية العربية.
ولذلك لن أجهد نفسي هنا في تتبّع موقف جورج قرم (وإعجاز أحمد وسمير أمين) من "الثورة" السورية وفي تحليل هذا الموقف الذي بلغ حدّ اعتبارها صراحةً "ثورة مضادة" معادية لمصالح الشعب السوري ومساهمة مع النظام في تخريب سوريا وتدميرها. وسوف أعمد بدلًا من ذلك إلى تكتيك يليق بالمقام، أدعوه "فَقْأ الأعين بالوقائع"، بل بالوقائع كما يشهد بها "شاهد من أهله"، وسوف أكتفي بمثالين.
لا جورج قرم ولا سمير أمين ولا إعجاز أحمد يمكن أن تكون لغتهم هي تلك التي تمتهن العقل، وتستهتر بكرامة الشعب السوري، وتنطوي على تبرئة "منطقية" للنظام
المثال الأول هو ماجد كيالي، كاتب فلسطيني سوري كان قد انشقّ عن "فتح" مع من انشقوا في ثمانينيات القرن العشرين، في إطار "فتح الانتفاضة" التي احتضنها ــــ على الأقلّ ــــ النظام السوري، ثمّ تقلّب مع من تقلّبوا مع تهاوي المعسكر السوفييتي. وحين بدأت "ثورته" السورية راح يعانى أشدّ المعاناة، ربما لأنّ "عينه" لم تكن قد امتلكت "الجرأة" التي باتت تمتلكها اليوم وهو يدعو الفصائل الفلسطينية، ولا سيما "حماس"، إلى "ضرورة تمييز نفسها عمّا يسمّى 'محور المقاومة والممانعة' الذي يضرّ بقضية فلسطين وشعبها وحركته الوطنية".
تمثّلت معاناة كيالي مع "ثورته السورية" التي كتب فيها الأزجال وصمت طويلًا ــــ حتى أواسط 2013 ــــ عن كوارثها، في أنّها راحت تكذّب أزجاله، ما اضطره لأن يقول الشيء ونقيضه، حتى في المقالة الواحدة نفسها في بعض الأحيان. يقول كيالي في مقالته الموسومة "عن عسكرة الثورة السورية"، المنشورة في 14/7/2013:
"هذه ثورة عفوية لا قيادة ولا مخططات لها .. هكذا شكلت العسكرة عملًا اعتباطيًا ومزاجيًا .. لكنها بعد ذلك لم تعد عفوية ولا مجرد ردة فعل، إذ دخلت عليها خطوط أخرى ... إذا كانت الثورة السورية شعبية وعفوية وهذا مفهوم، فإن عسكرتها ... لم تكن عفوية ... فإذا نحينا المنشقين عن الجيش، وردة فعل المجتمعات المحلية على عنف النظام، فما تبقى وهو الأكبر لم يكن عفويًا البتّة، بل كان مدروسًا ومتعمّدًا إن لتخريب الثورة، وتشويه صورتها أمام العالم، ورفع كلفتها أمام شعبها، أو للتحكم بأجندتها وتغيير طبيعتها... منذ البداية كان على قوى الثورة الحذر من هذا المسار ... الثورة السورية وقعت في فخ الارتهان، والتوظيف، عن قصد أو من دونه ... عدا عن مشكلتي العسكرة وتمزيق مجتمع السوريين فإن الثورة انزلقت أو جرى حرفها إلى غير المقاصد التي انطلقت على أساسها ... لكن الجميع فيما بعد صمت عن الانحرافات والانزلاقات الحاصلة، والتي فرضتها بعض الجماعات المتطرفة المسلحة، الغريبة عن مجتمع السوريين، والتي لا تنضوي في اطار ثورتهم"[1].
أتحدى القارئ أن يحسم، من كلام كيالي آنفًا، هل الثورة "انزلقت" أم "زُلِّقت"؟ وأن يميّز، كما يريده كيالي، بين "الثورة" و"عسكرتها"، كأنّ الهاء في "عسكرتها" ليست لها؟ كما أدعو القارئ لأن يتبيّن المدة الفاصلة بين البداية "العفوية" للثورة التي انطلقت في منتصف آذار 2011 و"عسكرتها" (في مجزرة جسر الشغور يوم 5 حزيران 2011 التي قادها الهرموش، مثلًا) كي نعلم حقًّا إن كان من الممكن الكلام، مثل كيالي، على "لكنها بعد ذلك ...". وما دام "الجميع ... صمت عن الانحرافات والانزلاقات الحاصلة..."، فمن هم الذين يدعوهم كيالي إلى "استعادة الثورة والحفاظ على نبل مقاصدها"!
في 16/1/ 2014، ينسى ماجد كيالي ما سبق أن قاله عن فارق جوهري بين "البداية" و"بعد ذلك"، وبين "السياسة" و"العسكرة"، فيقرر: "منذ البداية جرى التلاعب بهذه الثورة، في تشكيلاتها السياسية والعسكرية، وقد دفع الشعب الثمن باهظًا.. ومازال .... مشكلة هذه المعارضة أنها رفعت وتائر الصراع ليس بناء على تطور الحالة الكفاحية في مجتمعها، وأنها خاضت هذا الصراع أيضًا، ليس بناء على امكانياتها أو امكانيات مجتمعها بقدر ما خاضته بناء على حسابات الآخرين، القطريين والسعوديين والأتراك و'الطليان'". ماجد كيالي من يقول هذا كلّه وليس جورج قرم أو إعجاز أحمد.
المثال الثاني، هو البيان الشهير "نداء إلى شعبنا السوري من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية: وجهة نظر نقدية لتصحيح مسارات الثورة"، الذي صدر مع بداية عام 2017 (أي بعد 6 سنوات من الثورة) ويعترف فيه نحو 300 من "الثّوار"، لا سيما الإنتلجنسيين، بأنّهم و"الثورة" اقترفوا ما أسموه "أوهامًا" و"أخطاءً" من وزن "التعويل على الخارج والارتهان لأجنداته"، و"تصعيد العمل المسلح بطريقة غير محسوبة أو مدروسة"، و"المراهنة على جبهة النصرة وأخواتها"، و"التركيز على تحرير مناطق من دون القدرة على "تأمين الحماية لسكانها، ولا فرض نموذج مقبول لإدارتها"، و"المراهنة على الكيانات والخطابات الأيديولوجية والطائفية"، و"العجز عن توفير "قيادة واقعية وعقلانية"، بل "أي شكل من أشكال القيادة، لا في السياسة ولا في العسكرة"، و"بقاء المعارضة "مجرد هياكل وقوى تستكين أو تنضبط للدور المرسوم لها، من الفاعلين الدوليين والإقليميين"، إلى آخر ما هنالك من مجرد "أوهام" و"أخطاء" يندى أمامها جبين الجرائم، ويصعب أن تكون هي وأصحابها جزءًا من ثورة. هنا أيضًا، "الثوار" من يقولون، وليس جورج قرم ولا إعجاز أحمد ولا سمير أمين.
بالطبع، لا جورج قرم ولا سمير أمين ولا إعجاز أحمد يمكن أن تكون لغتهم هذه اللغة، بما فيها من امتهان للعقل (على هيئة مفارقات وتناقضات ساذجة) واستهتار بكرامة الشعب السوري (في اعتبار مجرد "ثورة مضادة" ممتطاة ثورةً حقيقية)، وحتى بما فيها من تبرئة "منطقية"، ضمنية وصريحة، للنظام. يقول سمير أمين في المقابلة آنفة الذّكر:
"لدينا في سوريا بشكل موضوعي وضع مماثل لوضع مصر: لدينا نظام كانت له شرعيته منذ زمن بعيد، وكانت هذه الشرعية مستمدة من الأسباب ذاتها، إذ كان نظامًا وطنيًا شعبيًا، لكنه فقدها لاحقًا، حيث انتقل إلى الارتباط بالليبرالية الجديدة والخصخصة وسوى ذلك، ما أدّى إلى الكارثة الاجتماعية ذاتها. ولذلك، كانت هناك أرضية موضوعية للانتفاض الشعبي الواسع ذي المنحى الاجتماعي ... غير أنَّ معارضة إرهاب الدولة بالإرهاب الفعلي الذي تمارسه جماعات مسلحة تدعمها قوى أجنبية ليست الجواب عن السؤال. الجواب عن السؤال هو في الحقيقة تغيير النظام لمصلحة الحركة الديمقراطية الشعبية الحقيقية... السؤال الآن، ما الهدف الحقيقي للإمبريالية، في سوريا وفي المنطقة؟ ليس هذا الهدف جلب الديمقراطية على الإطلاق. إنه تدمير المجتمعات كما دمروا المجتمع الليبي. لنأخذ مثال العراق، ما الذي فعلوه هناك؟ لقد استبدلوا بدكتاتورية صدام حسين الفعلية ثلاث ديكتاتوريات أشد قبحًا: اثنتان باسم الدين، شيعية وسنّية، وواحدة باسم ما يدعى "الإثنية"، الكردية، وهي دكتاتوريات أقبح حتى من ديكتاتورية صدام حسين. لقد دمروا البلاد... وليس لدي اسم آخر لما فعلوه... إنها لمن المهازل أن نجد اليوم أمير قطر وملك السعودية يقفان مع أوباما وساركوزي وكاميرون على رأس النضال من أجل الديمقراطية. لا يمكن للمرء ألّا يضحك".
لا يقلّ جورج قرم أهمية عن سمير أمين، فهو مفكّر وأستاذ جامعي وعالم سياسة واقتصاد وقانون ومؤرّخ له عشرات المؤلّفات التي تتضافر لتشكّل مشروعه بحقوله المتعددة وبؤرته المركّزة التي هي نهضة شعبه العربي وأمّته العربية بين شعوب العالم وأممه ومعها. ولعلّ أبرز مساهماته تلك التي رصد فيها علاقة "الغرب" بالعرب والعالم على مختلف المستويات، وتلك التي فكك فيها إحالة الصراعات السياسية إلى تفسيرات ثقافية، دينية خاصةً. وهو، إلى ذلك، الخبير والاستشاري المالي والمصرفي ووزير المال اللبناني المناهض للوصفات النيوليبرالية الذي كان من الممكن حقًّا أن ينقذ مال لبنان واقتصاده مما كان فيه وآل إليه.
أمّا في الشأن السوري، وكما قلت، فلن أخوض في وجهة نظر قرم المركّبة التي عبّر عنها في عدد من المقالات واللقاءات التي أشرتُ إلى بعضها في هذه المقالة، وكذلك في مواضع من كتابه المسألة الشرقية الجديدة الصادر بالفرنسية في عام 2017 وصدرت ترجمته العربية في عام 2021. وذلك كي أكتفي بما يليق من وضع كتبة "الثورة المضادة" المتهافتين إزاء بعضهم بعضًا، تاركًا للقارئ الجاد أمر العودة الصحّية بالغة الضرورة إلى علّامة كبير لا يُضاهى، لا في علمه ولا في مبادئه، مثل جورج قرم.
[1] من المؤسف أنّه لم يعد لديّ التوثيق اللازم لبعض ما أورده هنا لماجد كيالي بعد أن توقفت جريدة الحياة وأغلقت أرشيفها، لكن كيالي يعيد نشر مقالاته في غير أمكنة مع تغييرات طفيفة. فمقالته هذه منشورة قبلًا، مع تغيير ضئيل فيها وفي عنوانها، على موقع الجزيرة، في 6/5/2013.