وقعت يوم الجمعة 23/8/2024، في مدينة زولينغن الألمانية، جريمةٌ نكراء تمثّلت بطعنٍ غادرٍ أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ثمانية آخرين. وتبيّن أنَّ القاتل هو طالب لجوء سوري من مدينة دير الزور يُدعى عيسى الحسن (26 عامًا) سلّم نفسه للسلطات الألمانية وأقرّ بمسؤوليته عن الهجوم وبانتمائه إلى تنظيم "داعش" الذي تبنّى العملية (ما زالت السلطات الألمانية تحقق في صحّة هذا الادّعاء).
كان القاتل قد وصل ألمانيا في نهاية عام 2022 عبر بلغاريا. وكان من المفترض أن يُرَحَّل عائدًا إلى بلغاريا في أوائل عام 2023، عملًا بقواعد اتفاقية دبلن، لكنَّ الترحيل فشل لاختفاء الشاب من مركز اللاجئين حيث يقيم. ولم يصدر أمر بالقبض عليه لأنه لم يكن معروفًا لدى الأجهزة الأمنية كمتطرف أو مثير للشبهة، بالإضافة إلى نقص الأماكن المتاحة في مراكز احتجاز الترحيل. وعند انتهاء المهلة الزمنية المحددة للترحيل، أصبحت ألمانيا مسؤولة عن قضيته، وحين عاود الظهور مجددًا بعد ستة أشهر، خُصِّصَ مكان له في مركز للاجئين وسط مدينة زولينغن، ومُنح، في نهاية العام 2023، حماية فرعية، وهي وضع غالبًا ما يُمنح إلى الأشخاص الفارين من بلادهم.
استنكرت الجريمة البشعة وأدانتها بيانات كثيرة أصدرتها حكومات وهيئات ومنظمات وأفراد. غير أنّ بيانًا أصدره سوريون يبقى لافتًا في حجم ما يعجّ به من الأكاذيب والصَّغَار والجهل والأنانية في آن معًا. يقول البيان (وتشديد بعض العبارات فيه لي):
"نشعر نحن السوريين في ألمانيا أن من واجبنا أولًا أن ندين العمل الإرهابي البشع الذي حدث في زولنغن، ونستنكره تمامًا، هو وكلّ الأعمال الإرهابية المماثلة. ونطالب مع مضيفينا الألمان بأن تتمّ معاقبة منفّذي هذه الجريمة والذين ساعدوا عليها أو دعموها.
لقد صدمنا هذا العمل الإرهابي البشع بعمق وأصابنا بالفزع والقلق معًا، وكان بالفعل إرهابًا، وإرهابًا ضدّنا جميعًا، يهدّد حياتنا وتفاعلنا بعضنا مع بعض، والطريقة الرائعة التي تعيش بها هذه البلاد منذ خلاصها من النازية والحرب.
لقد لجأ السوريون إلى هذا البلد بحثًا عن الأمان أولًا، بعد أن عانوا من إرهاب الطغيان والديكتاتورية والتطرّف الإسلامي وميلشياته المسلحة ما عانوه من قتل ممنهج وسجن وتعذيب وإخفاء قسري وتدمير وتشريد. جاؤوا بحثًا عن الحرية والكرامة وحقوق الإنسان والديموقراطية، وعن آفاق أكثر تقدّمًا في التعليم والعمل لهم ولأطفالهم.
نشعر بالغضب الكبير من أفعال المتطرفين الإسلاميين، الذين لا يهدّدون بخطاب الكراهية وجرائم الكراهية مضيفينا وحدهم، بل يهددوننا نحن أيضًا، بأمننا وطمأنينتنا التي منحتنا إياها الدولة والشعب الألمانيين.
لقد رمى الآلاف منا بأنفسهم في البحر هربًا من القمع الذي مارسه النظام، وفقد الكثير منا أحبابًا لهم في أمواج ذلك البحر، بعد أن فقدوا الكثير الكثير أيضًا في بلادهم... فأيّ خوف وإرهاب دفعهم إلى لجّة البحر مغامرين بأرواحهم!... بالطبع لم يتصوّر هؤلاء أن يجدوا ذلك الإرهاب يلاحقهم ويرتكب الجرائم بحق مضيفيهم.
نعلن تضامننا غير المحدود مع عائلات الضحايا الأبرياء، وتمنياتنا بالشفاء العاجل للجرحى. ونحيّي رجال الأمن والقانون والمسعفين الأبطال، مع كلّ القوى الفاعلة في ألمانيا في الحرب ضدّ الإرهاب، المحافظة على الإنسان وعلى قيم العدالة وحقوق الإنسان والإنسانية والتسامح.
إن الموقف الأسلم ضد هذه الأفعال هو التأكيد على قيم التعايش، وخصوصًا بين المسيحيين واليهود والمسلمين وغير الدينيين، لأن ما يجمع الناس معًا أكثر بكثير مما يفرّقهم، والقيم الأساسية هي قيم كونية شاملة. ولطالما كانت ألمانيا رائدة في ذلك كله، بدستورها العظيم، وبحكم القانون فيها".
وقّع البيان، حتى كتابة هذا الكلام وبحسب الموقع الذي اطلعت عليه فيه، عدد قليل من السوريين (24 شخصًا، معظمهم من اليساريين السابقين لـ"حزب الشعب" و"حزب العمل الشيوعي")، بعضهم ليسوا في ألمانيا، وأغلبهم انضووا في "المجلس الوطني السوري" الذي تأسس في عام 2011 في اسطنبول بسيطرة لـ"الإخوان المسلمين" وبعض مطياتهم اليسارية السابقة، وجرت توسعته لاحقًا بمزيد من هذه المطيات قبل أن يتحول في عام 2012 إلى "الائتلاف الوطني" مع زيادة النفوذ القطري ولاحقًا السعودي وبالبنية ذاتها.
نقد الإسلام السياسي بات أمرًا "مربحًا" في ملاجئ "الغرب" الذي راح ينتقد الإرهاب الإسلامي بعد أن انتهت المهمة وحطم وإيّاه والنظام المهرجون الكومبارس بلدًا كسوريا
لا يكتفي البيان بالكلام باسم جميع "السوريين" في ألمانيا، بل يتجاوز ذلك إلى الكلام بدلًا من المواطنين الألمان واصفًا الطريقة التي تعيش بها ألمانيا منذ خلاصها من النازية والحرب بـ"الرائعة"، الأمر الذي اعتاد عليه كثير من اللاجئين السوريين المسيَّسين الذين ادّعوا الثورية في بلادهم، فإذا بهم يكيلون المدائح الرخيصة لكلّ حاكم حيث يلجؤون.
أعرف كثيرًا من السوريين في ألمانيا أضحكهم، على الأقل، البيان. أمّا عن عيش ألمانيا "الرائع"، فثمة أدبيات ألمانية لا ترى هذا الرأي وتقول إنّه في نهاية عام 2022، كان 28% فقط من الألمان متفائلين بعام 2023، وهي الاستجابة الأكثر سلبية منذ عام 1951. وتبيّن بالفعل أنّ 2023 كان عامًا كئيبًا بالنسبة إلى ألمانيا. وأن آفاق عام 2024 تأتي قاتمة بذات القدر. والرأي السائد هو أن ألمانيا لم تعد قادرة على إنجاز شيء – أو أي شيء مهم على الأقل – بالصورة الصحيحة.
ويتسم المزاج العام في ألمانيا بالضجر والتشاؤم (يعتقد 46% من الألمان أن أحوالهم ستكون أسوأ في غضون عشر سنوات). ولا عجب أنَّ "Krisenmodus" (الأزمة) هي الكلمة الألمانية الأشهر هذه الفترة. وكشفت جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية-الأوكرانية (وأزمة الطاقة الناتجة عنها)، وارتفاع معدلات الهجرة، والصراعات في الشرق الأوسط، عن مدى عدم استعداد ألمانيا لمواجهة الصدمات والتحولات الجيوسياسية غير المتوقعة.
يضاف إلى ذلك ما تواجهه البلاد من مستقبل سياسي غامض، إذ يحقق حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني أكثر من 20% في استطلاعات الرأي في مختلف أنحاء البلاد، بعد أن كان 10% قبل أقل من عامين، ومن المرجح أن يصبح الحزب الأكبر في عدد كبير من برلمانات الولايات في العام المقبل. وبذلك نكون، في البيان، إزاء نوع من المديح الرخيص الذي يقتضي تغييب الحقائق ويمارسه، إمّا انتهازي أو "عديم محروم".
غير أنّ هذا كلّه ليس شيئًا أمام الفِرْيَة الأكبر التي مفادها أنّ كتبة البيان وموقّعيه لجأوا إلى ألمانيا، بين السوريون الذين لجأوا إليها، بعد أن عانوا من "التطرّف الإسلامي وميلشياته المسلحة" (علاوةً على "إرهاب الطغيان والديكتاتورية"). فمعظم هؤلاء حلفاء ليس لـ"الإخوان المسلمين" وجيشهم الحرّ فحسب، بل لـ"النصرة" و"داعش" أيضًا. وهم يعلمون حتمًا أنّ برهان غليون، رئيسهم في "المجلس الوطني"، اعتبر "النصرة" (أي "القاعدة") جزءًا مهمًا من الثورة، إن لم تكن ذروتها: "النصرة صنعت لنفسها اسمًا كبيرًا في دائرة الثوار السوريين".
وهم يعلمون علم اليقين أنَّ جورج صبرا، رئيسهم اللاحق في "المجلس الوطني"، سجّل في محضر اجتماع الأمانة العامة للمجلس الوطني 20 و21 آب 2013 في استانبول: "إننا في المجلس الوطني لم نعلن لا تصريحًا ولا تلميحًا ضد جبهة النصرة أو غيرها، وقد دافعنا في اجتماعنا مع الأمريكان دفاعًا قويًا عن جبهة النصرة، كما لم تدافع هي عن نفسها"؛ وأنّ رفيقهم محمد الدغيم، سجّل في المحضر ذاته أنَّ "دولة العراق والشام ("داعش") وغيرها هم إخوة لنا، نتحاور معهم ونتفاهم على كثير من الأمور ولا مشكلة لدينا معهم". فعلى من يكذب هؤلاء؟ أم أنهم لا ينتبهون قط، أينما حلّوا، إلّا لجعالاتهم وليقل أيّ كان ما يقول.
سبق لنائبٍ أسبق لرئيس "الائتلاف"، هو أحد موقعي البيان إن لم يكن مدبّجه كذلك، أن اعترف بأنَّ "الإخوان المسلمين" ضحكوا عليه، كما يقول عنوان مقابلة معه على موقع "راديو روزنة" في 2 أيار 2019: "موفق نيربية لـ"روزنة": الإخوان ضحكوا علينا". إذ يكتشف بعد 9 سنوات (فقط؟) من الائتلاف مع الإخوان أنَّ هؤلاء الأخيرين "ضحكوا علينا كثيرًا بمواثيقهم وديموقراطيتهم ووطنيتهم، لكنهم في الحقيقة في هذه المواثيق كان لديهم شيء آخر. فقدوا ثقتنا ويحتاجون الكثير لاستعادتها ... يستحقون عقوبة ما ... فهم أخطأوا بعمق، وبقوة. أخطأوا بالاستغراق بالتسلح وتنظيمه والاستعداد له والكمون من لحظة البداية من أجل الدفع باتجاه التسلح ثم بتعميق الأسلمة".
ثمة رواية فاسدة تريد أن تغرس في الأذهان أنَّ العالم منقسمٌ بين الرأسمالية الليبرالية والأصولية، وأنَّ علينا أن نقف في صفّ إحداهما لنواجه الأخرى
إلى أن نعلم العقوبة التي سينزلها هذا القائد بـ"الإخوان" الذين ضحكوا عليه، أو نعلم كيف سيستعيد "الإخوان" ثقته التي لا غنى لهم عنها، لا بدّ من التذكير بأنَّ ثمة إشارات إلى أنَّه من صاغ مسوّدة البيان الشهير "نداء إلى شعبنا السوري من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية: وجهة نظر نقدية لتصحيح مسارات الثورة" الذي صدر مع بداية عام 2017، أي بعد 6 سنوات (فقط؟) من الثورة، ويعترف فيه مع نحو 300 معارض بأنهم اقترفوا ما أسموه "أوهامًا" و"أخطاءً" كان من بينها "وهم المراهنة على جبهة النصرة وأخواتها"، و"وهم المراهنة على الكيانات والخطابات الأيديولوجية والطائفية" (علمًا أنَّ السيدة زوجة السيد القائد، الموقّعة على البيان أيضًا، من أبرز حضور ما دعي "مؤتمرات العلويين").
فضّل هؤلاء التحالف مع "الإخوان المسلمين" والتيارات الإسلامية على التحالف مع التيارات الوطنية والديموقراطية (اليسارية والقومية وبعض الإسلاميين الإصلاحيين). وترددوا في إدانة تجاوزات "الثورة"، بل أصرّوا على ممارسة الإخفاء والكذب في هذا الشأن إلى أن بات الأمر أفدح من أن يُخفى أو يُغطَّى، وبلغ "البلّ" ذقون بعضهم بالمعنى الحرفي للكلمة، فضلًا عن أنّ نقد الإسلام السياسي بات أمرًا "مربحًا" في ملاجئ "الغرب" الذي راح ينتقد الإرهاب الإسلامي بعد أن انتهت المهمة وحطم وإيّاه والنظام وهؤلاء المهرجون الكومبارس بلدًا كسوريا.
أعمق من ذلك، أنّ إصرار ليبراليي النظام العالمي وهؤلاء الكومبارس على تبرئة أنفسهم من الأصولية الإسلامية، لا يخدع سوى السذّج، ولو تخللته حوادث جسام كتلك التي وقعت في نيويورك 2001 وباريس في 7 كانون الثاني 2015 وزولنغن منذ أيام.
ها هنا، أيضًا، ثمة رواية فاسدة تريد أن تغرس في الأذهان أنَّ العالم منقسمٌ بين الرأسمالية الليبرالية والأصولية، وأنَّ علينا أن نقف في صفّ إحداهما لنواجه الأخرى. وها هنا، أيضًا، ثمة ضرورة لتفكيك هذه الرواية وتعرية هذه الثنائية وما تنطوي عليه من تواطؤ خفيّ بين طرفيها. تواطؤٌ لا بمعنى المؤامرة ونظريتها، بل بمعنى أنَّ الأصولية هي تلك العقيدة الشنيعة لأولئك الذين يشعرون أن ما يُدعى "الغرب" قد أنهكهم وأذلّهم وداس كراماتهم ومصالحهم وما كان لهم من ماضٍ مجيد.
وكذلك بمعنى أنَّ حرية السوق (التي هي جوهر الليبرالية) والأصولية الدينية بعيدتان كلّ البعد عن إقصاء واحدتهما الأخرى، مهما سالت بينهما الدماء، إذ ليس لدى أيّ منهما، في الجوهر، ما يحتّم نفي الأخرى أو وضع حدّ لها. وبمعنى أنَّ صعود الفاشية الإسلامية توافق أشدّ التوافق مع اختفاء اليسار العلماني وبرامجه الاجتماعية الاقتصادية الراديكالية في البلدان الإسلامية، ذلك الاختفاء الذي لم يألُ "الغرب" جهدًا في تعزيزه، بل قام بالدور الأكبر في إخماد حركاته والقضاء عليها وخلق فراغ سياسي تمكّنت موجات أصولية عاتية من احتلاله. كلُّ نقدٍ للأصولية من دون نقد الليبرالية الغربية ومهرجيها في الأطراف جاهل وكاذب وانتهازي.
لقد نسي هؤلاء لغةً يسارية لم يتعلموها جيدًا قط ولم تعد لديهم أيّ مصلحة فيها، لغة تربط بين قاتل زولنغن والسياسات الألمانية التي سبقت الإشارة إليها، والخلفية الاقتصادية الاجتماعية التاريخية التي دفعت هذا البلد لخوض حربين عالميتين من أجل قسمة جديدة للمستعمرات و"المجال الحيوي"، ودفعت حتى حزبه الديمقراطي الاجتماعي للمساهمة الأكيدة في اغتيال روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت، وتدفع سلطاته اليوم إلى ما يصمت البيان عنه صمت الأرانب من قمع لأيّ تضامن مع الشعب الفلسطيني ومن كبت للحريات الأساسية حين يتعلق الأمر بأي نقد للكيان الصهيوني. تلك الخلفية لم تطرأ عليها بعد أيّ تغيرات بنيوية حاسمة.
هذا كلّه لا تحسّ به أدنى إحساس هذه الشرذمة من الأنانيين المتقلّبين بحسب مصالحهم الضيقة وأنانيتهم، ولذلك تراهم لا يترددون في الكذب الفاقع أنّهم كانوا من بين آلاف السوريين الذين رموا "بأنفسهم في البحر هربًا من القمع"، مع أنَّ أحدًا منهم تقريبًا أو من عوائلهم لم يخرج إلا من مطار دمشق أو من المعابر الرسمية بين سوريا ولبنان.
يرى اليساريون السابقون والمتلبرلون العلمانيون في أنفسهم، وفي المجتمع الألماني وأي مجتمع آخر، مجرد مذاهب
ولا يخجلهم قطّ، كمناضلين وثوّار كما زعموا، أن يقولوا إنهم "جاؤوا بحثًا عن الحرية والكرامة وحقوق الإنسان والديموقراطية" في ألمانيا، وليس في بلدهم أو حتى في ما أسموه "المناطق المحررة" لثورتهم، بعد أن ورطوا شعبهم في مذبحة وهربوا. ولا تهتز لهم شعرة إذ يطابقوا بين الدولة والشعب الألمانيين في منحهم "الأمن والطمأنينة" في جهل لآليات الديمقراطية وتاريخها في ألمانيا وشبيهاتها.
هذا، من دون أن نقول شيئًا عن هؤلاء "الثوار" و"المناضلين" الذين يرقدون كالدجاج خائفين على "أمننا وطمأنينتنا التي منحتنا إياها الدولة والشعب الألمانيين" ويهددها المتطرفون الإسلاميون. هل هؤلاء ثوّار حقًا؟ هل هؤلاء منفيون؟ هذا صنف جديد من الثوار والمنفيين هو الذي جعل العالم يشيح بوجهه ويسد أنفه لدى ذكر المعارضة السورية السائدة.
تبلغ الكوميديا المبتذلة ذروتها في خاتمة البيان التي يؤكّد فيها موقّعوه لأسيادهم الألمان أنهم ملتزمون "قيم التعايش، وخصوصًا بين المسيحيين واليهود والمسلمين وغير الدينيين". فهؤلاء اليساريون السابقون والمتلبرلون العلمانيون يرون في أنفسهم، وفي المجتمع الألماني وأي مجتمع آخر، مجرد مذاهب، بما في ذلك غير الدينيين الذين لا يغدو لهم معنى إلا بقرب الدينيين وإزائهم.
كم هو مضحك أن يتوجّه هذا المقدار من الجهل، من دون أن يدري غالبًا، بهذه القضمة الشهيرة من خطاب "الديمقراطية التوافقية أو الطائفية" ("تعايش الأديان والمذاهب") إلى الألمان، سلطات أو شعبًا، غافلًا أشد الغفلة عن أنَّ هذه مفردات من خطاب محدد له بلاغته وبنيته اللتين لا معنى لهما في ألمانيا، ولا مجال لاستخدامهما فيها حيث يسود خطاب آخر هو "ديمقراطية المواطنة" التي لا ينزل فيها أحد المجال العام بوصفه من طائفة أو مذهب، فلا يبقى مجال يُذكر لكلام على التعايش وما شابه.
القفلة الأخيرة في هذه الكوميديا الممتدة رغم اقتضابها هي اكتشاف البيان أنّ "ما يجمع الناس معًا أكثر بكثير مما يفرّقهم". وأنَّ "القيم الأساسية هي قيم كونية شاملة"، وهو اكتشاف لا يُستخدم إلا حيث يلزم المصالح الضيقة لهذه الشرذمة، فهو لا يُقال إزاء ممارسات السلطات الألمانية تجاه قضية فلسطين، فما بالك تجاه "المتطرفين الاسلاميين" الذين يقفون طرفًا يمثل الشرّ المطلق في ثنائية طرفها المقابل هو الخير المطلق الذي يمثّله الألمان وعبيدهم الجدد الذين يتوسلون أن يُحسبوا مع أسيادهم (بالمناسبة، بعد أسبوع واحد من عملية الطعن المميتة في مدينة زولينغن، طعنت امرأة ألمانية في حافلة في مدينة زيغن ستة أشخاص، ثلاثة منهم في حالة خطيرة. وسرعان ما رُبطت الجريمة بالصحة العقلية، بخلاف الجرائم المماثلة التي يرتكبها مسلمون فيُسارَع إلى ربطها بالإرهاب من دون أن نعلم شيئًا يُذكر عن مرتكبيها، على نحو ما يحصل في هذا البيان البائس الذي لا يذكر حتى اسم القاتل).
هؤلاء "الثوّار" الذين ساهموا في إدخال السوريين أتون الحرب والموت؛ وسمّوا احتلال حلفائهم في "النصرة" و"داعش" وأخواتهما للمدن السورية تحريرًا من دون أن يتحلّوا بما يكفي من أخلاق الوجود حيث التحرير الذي يزعمون؛ وما لبثوا أن سرقوا فرص المدنفين والمدمّرين من شعبهم، أمثال قاتل زولنغن، في اللجوء الآمن؛ ليست دموعهم التي يدّعون ذرفها على الضحايا الألمان إلا كدموعهم التي سبق أن ادّعوا ذرفها على السوريين الغرقى والمختنقين والأطفال الذين مزقت أسلاك الحدود الشائكة أجسادهم.
دموعهم هذه ليست سوى دموع مجموعة من التماسيح التهمت حضانة أطفال للتوّ، باسم الثورة. وهي في أحسن الأحوال، دموع شرذمة تتضاءل باضطراد ولا تدخل هذه الكتابة لأهميتها هي ذاتها، سواء عندنا أم عند الألمان، بل بوصفها مجرد وسيلة إيضاح تشير إلى أفول مستحقّ وبطلان أكيد.