المرأة الفلسطينية: تجاوز الثنائية الجندرية من خلال المقاومة

تحطّم المرأة الفلسطينية القيود التقليدية في المجتمعات البطريركية من خلال مقاومتها للاحتلال. ولا يمثل هذا التحول كسرًا للثنائية الجندرية فحسب، بل إعادة تعريف للأدوار الاجتماعية التي تلعبها النساء في المقاومة أيضًا.

في كتاب "قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية" للمفكرة الأميركية جوديث بتلر، تقدّم الكاتبة أطروحة جوهرها نقد التصور (conception) التقليدي للجندر. إذ تجادل بتلر بأن الجندر لا يمكن أن يُعتبر سمة ثابتة لكونه مجرد أداء اجتماعي ناتج من التنشئة الاجتماعية المُجندرة لكل من الذكور والإناث.

تنتقد بتلر ما يُسمّى "الاستعراض الجندري" (gender performativity)، ذاك الذي تُعزّزه الأدوار الجندرية التي تُعيّنها مجموعة الأعراف والتقاليد في كل مجتمع بطريركي. إذ إن هذه الأداءات المتكررة هي ما يُرسخ القوالب الاجتماعية الضيقة للجندر، ويُضيّق هامش الحرية على الجنسين. لذا، تزعم بتلر، فإن كسر الفكرة الثنائية للجندر هو الحل الأنسب لفتح المجال لهويات متعدّدة، تتجاوز تابوهات النظام الثنائي التقليدي.

أداء الجندر في سياق المقاومة الفلسطينية

في العالم العربي، حيث تتقاطع التقاليد والأعراف والعقيدة الدينية التي تشكل نظامًا اجتماعيًا مميزًا، يصبح الخطاب حول الجندر أكثر تعقيدًا. صحيح أن القوالب الاجتماعية المجندرة تسيطر بشكل كبير على الحياة العامة في مجتمعاتنا، إلا أن تحدّي هذه الأدوار الجندرية الثابتة يظل أمرًا واردًا، حتى في أكثر المجتمعات المحافظة والتقليدية.

لا تخلو بلادنا من نماذج لنساء يتحدّين الوضع الراهن ويلتحقن بمجالات مهنية لطالما كانت حكرًا على الرجال. لم يكن هذا التحدي نابعًا، في الغالب، من رغبة في تبنّي الهوية الجندرية للرجل، بل محاولة نسائية لإيجاد غاية من الوجود ودور فعال في تنمية المجتمع.

وقد أدّت القضية الفلسطينية دورًا في إعادة تشكيل القوالب الضيقة للنوع الاجتماعي، في ظل مقاومة شعبية لم تتخلّف عن ركبها نساء فلسطين منذ الانتداب البريطاني وصولًا إلى ما تبعه من احتلال وعدوان صهيونيّين. لم يكتفينَ بالأدوار التقليدية التي رسمتها لهن الأعراف الاجتماعية، بل شاركن في الصفوف الأولى للكفاح المسلح والنضال السياسي.

هكذا، سطعت أسماؤهن في تاريخ مناهضة الاستعمار، وأنارت الدرب لجيل جديد من المناضلات اللواتي حَدَون حدو من سبقهن من المناضلات. ومثلما خلّد التاريخ اسم جميلة بوحيرد وغيرها من المقاومات الجزائريات، فإن النساء الفلسطينيات اللواتي جابهن الاحتلال لا يزلن خالدات في الذاكرة الجمعية. فمن ليلى خالد إلى دلال المغربي وآيات الأخرس وتيريز هلسة، يزخر تاريخ فلسطين بأسماء مناضلات قدّمن الغالي والنفيس على غرار المقاومين الرجال.

تشير جوديث بتلر إلى أهمية السياقات الثقافية في نقاش الجندر، كما تنفي فكرة وجود نظام أبويّ كونيّ

من خلال مشاركتها في الكفاح المسلح ضد الاستعمار، تعيد المرأة الفلسطينية تشكيل القوالب الجندرية التقليدية عبر تحدي وضعها كـ "تابع"، إذ لا يُنظر إليها كمجّرد ربة بيت وأم في ظل الاحتلال، بل كفاعلة اجتماعية وسياسية لا غنى عنها في مختلف أشكال المقاومة. وهذه المقاومة لا تعني التخلي عن الهوية الجندرية الأنثوية لصالح الهوية الذكورية، بل ترمز إلى كسر الصور النمطية المستهلكة التي تقيّد النساء ضمن أدوار محددة ومعيارية، وتفتح آفاقًا جديدة لفهم الجندر.

تجاوز الثنائية الجندرية من خلال المقاومة

بينما ترتبط الذكورة في العالم العربي بالسلطة والمسؤولية العامة، تُربط الأنوثة بالطاعة والخضوع والمسؤولية المنزلية. تُعزز المؤسسات الدينية والثقافية هذه البنية الاجتماعية وتسعى إلى ترسيخها ضمن معيارية مغايرة (heteronormativity) تؤطرها مؤسسة الأسرة التقليدية، وهو ما يحمي هذه القوالب الاجتماعية ويعاقب من يرفضها.

لهذا، يعمد الأفراد إلى التأكيد على أدوارهم الجندرية من خلال ممارساتهم اليومية، وكذا سلوكياتهم الاجتماعية. وبرغم الدور الذي يلعبه الأفراد في تكريس ثنائية الجندر من خلال تبنيهم أدوارًت مُجندرة، فإن المسألة أبعد ما تكون عن كونها اختيارًا واعيًا، لأن الجندر ليس "شيئًا" نملكه ـــــ على عكس الجنس الذي يعد معطى بيولوجيا ـــــ بل هو "شيء" نفعله.

وتلعب وسائل الإعلام دورًا مهما في إنتاج الأداء الجندري في السياق العربي. إذ لا تخلو المسلسلات التلفزيونية والبرامج الحوارية من الصور النمطية عن الجنسين، والتي تجتر أفكارًا تقليدية عن وصاية ذكورية على المرأة من رأسها حتى أخمص قدميها. ويشمل هذا كلاسيكيات السينما العربية الأحب إلى قلوبنا، مثل "باب الحارة"، التي تتضمن مشاهد تقدس هذه القوالب الاجتماعية وتضع المرأة في دور الشخصية التابعة والرجل في دور المتسلط، الآمر، الناهي.

كما تساهم بعض البرامج الحوارية العربية في شيطنة النساء اللواتي يتحدّين الأدوار الجندرية ويَقمن بشق طريقهن للوصول إلى أهدافهن، برغم العوائق الاجتماعية التي قد تعيق هذا الوصول، في حين تُبرز الظاهرة الثقافية للأغاني الشعبية العربية والفيديو كليبات ميلًا لتسليع المرأة وتشييئها.

وفي حين يساهم كل من الإعلام العربي والغربي في ترسيخ الأدوار الجندرية التقليدية، وتكريس صورة المرأة العربية الخاضعة والمستسلمة للوصاية الأبوية، تُظهر المرأة الفلسطينية صورة مغايرة لما هو نمطي ومستهلك. فهي، في كثير من الأحيان، تمثّل القوّة والصمود في مواجهة الاحتلال. وهذه الصورة لا تنمّ عن رغبة بالتحرر الفردي فحسب، بل هي كسر منهجي للهوية الجندرية التقليدية التي تفرضها المجتمعات البطريركية.

نقاش الجندر في ظلّ الهيمنة الثقافية

يناقش الكاتب والأكاديمي الفلسطيني، جوزيف مسعد، الجنسانية والجندر في سياقٍ عربي بحت ضمن كتابه "اشتهاء العرب" (Desiring Arabs)، حيث يجادل بأن الفهم الغربي للجنسانية والجندر لا يعكس قناعات المجتمعات العربية، ولا يعدو كونه مجرّد إرث استعماري يُراد فرضه على التصور العربي.

يصرّ مسعد على أن محاولة إسقاط نظريات الجندر والجنسانية الغربية على المجتمعات العربية دون مراعاة الخصوصيات الثقافية للمنطقة، لا بد أن تخلق ضربًا من التوتر والمقاومة الجماعية لما يُعد "اختراقًا قيميًا". لذا يدعو إلى احترام السياق الثقافي المحلي والتصور المغاير للجنسانية في المجتمعات العربية، والذي قد يكون أكثر مرونة وأقل دقة من نظيره الغربي.

كذلك تشير جوديث بتلر، هي الأخرى، إلى أهمية السياقات الثقافية في نقاش الجندر، كما تنفي فكرة وجود نظام أبويّ كونيّ. وينتقد عدد من المفكرين، من قبيل مسعد، خضوع المناهج الدراسية للدول النامية لتأثيرات ثقافية غربية تعمل على إعادة هيكلة بنية مجتمعاتها، وتلقين التاريخ من منظور يمحو الإرث الاستعماري ويهمش التجارب المحلية. هكذا، تشترط المؤسسات الدولية الاقتصادية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على بعض الدول الراغبة في الاستفادة من برامج التنمية أن تجري إصلاحات في النظام التعليمي، وتقدم مناهج مستوحاة من النموذج الغربي من دون أن تتماشى بالضرورة مع الثقافات المحلية.

يُعيد النضال ضد الاحتلال تشكيل المفاهيم الجندرية بما لا يتطابق تمامًا مع المفاهيم الغربية ولا مع أدوار المرأة التقليدية في السياق العربي

في الأجيال السابقة، كانت الأنوثة تصور على أنها تقتصر على أداء مجموعة معينة من المهام المنزلية، وكذلك الامتناع عن المشاركة في العالم الفوضوي للسياسة والاقتصاد. إلا أن جيلنا من النساء يواجه تهديدًا يتمثل في الأنوثة المُسَوَّقة، التي تُختَزَل في الملابس البراقة ومستحضرات التجميل و العناية بالبشرة، وتُختصر في قدرتنا على اقتناء الأشياء التي من شأنها أن تجعلنا نشعر بمزيد من "الأنوثة".

تتشابه هذه التوقعات الجندرية القديمة مع الضغوط الحديثة؛ ففي حين كانت الأجيال السابقة تحت ضغط الامتثال للأدوار التقليدية، تواجه النساء المعاصرات ضغوطًا مختلفة تهدف إلى تسليع الجمال وتحويل المرأة إلى كائن مستهلك. هكذا، تتباين الأدوار، لكنها تبقى متشابهة في جوهرها: محاولة إملاء "الأنوثة" على النساء بشكل يتوافق مع معايير اجتماعية صارمة، تقليدية كانت أم تجارية. وتصبح الأنوثة جزءًا من التوقعات الاجتماعية التي يُفْرَضُ على النساء اتباعها من أجل نيل شيء من القبول الاجتماعي وتسلق السلم السوسيو ـــ اقتصادي.

وهنا يُرسم خط رفيع بين "التعبير الجندري" (gender expression) و"الأداء الجندري" (gender performativity)، بحكم غياب الإرادة وحضور الضغط والإكراه. وبفعل نظرة مُوَحَّدَة ومُجَرِّدَة من الإنسانية تجاههن، تبدأ النساء في فقدان حس الفردانية، ليحيلهن هذا الفقد في نهاية المطاف إلى مجرد قوالب لصورة نمطية للمرأة.

وقد اكتسبت النسخة المعاصرة من الأنوثة واجهة تقدمية، تدخل منزلكِ دون إحداث ضجة، وتحولكِ إلى مستهلكة بشخصية هجينة تروق للنظرة الذكورية من دون أن تتماشى بالضرورة مع القيم التقليدية. كل ما تفعله هو وضع وسم أو اثنين على وجود النساء ككل، وسرقة إرادتهن، وتحويلهن إلى كائنات مستهلكة جوفاء. هذه النسخة الحديثة من الأنوثة، بتغليفها الذكي وقشرتها التقدمية، تقدم مجموعة جديدة من التوقعات التي تستأنف تقليد نزع فردانية المرأة واستبدالها برؤية أكثر شمولية لما يعنيه أن تكون امرأة.

ومع استمرار تسليع الأنوثة، يصبح الاستهلاك هو السبيل الوحيد لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في أن تكون الواحدة منا "أنثى بما يكفي". لا يعيد هذا التركيز على المادية فقط تحديد هدف الوجود لدى الكثير من النساء، بل يقلل أيضًا من استقلال ذواتهن ويخلق فجوة كبيرة بين ما هن عليه وما يطمحن إلى أن يكن؛ فبدلًا من الرغبة في أن يصبحن شخصًا ما، يطمحن إلى أن يصبحن "شيئًا ما".

الأنوثة كأداء في السياق العربي الفلسطيني

يُعيد النضال ضد الاحتلال، في السياق الفلسطيني، تشكيل المفاهيم الجندرية بما لا يتطابق تمامًا مع المفاهيم الغربية ولا مع أدوار المرأة التقليدية في السياق العربي.

وتعكس تجربة المرأة الفلسطينية مدى تعقيد أداء الأنوثة في ظل الاحتلال. فهنّ لسن أمهات أو زوجات فحسب، بل ناشطات ومقاوِمات وأسيرات يتساوى اضطهادُهن كفلسطينيات مع اضطهادهن كنساء. كما أن الأدوار الجديدة المنوطة بهن لا تلغي بالضرورة أدوارهنّ التقليدية، بل تضيف إليها أبعادًا حديثة تتجاوز التنميط الجندري.

هكذا، تحطّم المرأة الفلسطينية القيود التقليدية المفروضة على الجندر في المجتمعات البطريركية من خلال مقاومتها للاحتلال. ولا يمثل هذا التحول كسرًا للثنائية الجندرية فحسب، بل إعادة تعريف للأدوار الاجتماعية التي تلعبها النساء في المقاومة أيضًا.

ومن هنا يمكن القول إن المقاومة الفلسطينية ليست فقط نضالًا سياسيًا ضد الاحتلال، بل هي أيضًا نضال من أجل تحرير النساء من الأدوار الجندرية التي تُفرض عليهن في السياقات الثقافية العربية.

 

المصادر:

Butler, Judith (1990). Gender trouble: feminism and the subversion of identity. New York: Routledge. ISBN 0415900425

Massad, J. (2007). Desiring Arabs . University of Chicago Pres