في 23 أيلول/سبتمبر، صدر مرسوم يقضي بتشكيل الحكومة السورية الجديدة برئاسة الدكتور محمد غازي الجلالي. ووفقًا للدستور السوري، يتعيّن على رئيس مجلس الوزراء أن يقدم خلال ثلاثين يومًا بيانه الوزاري إلى مجلس الشعب لمناقشته.
استطاعت جميع الحكومات السابقة التقيد بهذا الإجراء الدستوري، والتزمت بالمدد القانونية لتقديم البيان، لكنها فشلت في أن تكون أداة لتغيير ما. فالوعود تتكرر والواقع يزداد سوءًا، والمعاناة اليومية للمواطن السوري تتنوع وتتراكم، ويستمر الاقتصاد بالانزلاق بسرعة إلى قاع الهاوية.
لقد أتت جميع البيانات الوزارية السابقة على شكل سردية إنشائية إعلامية أكثر منها وثيقة سياسية مُلزمة. وتضمنت تلك البيانات مجموعة من الوعود العائمة والفضفاضة، ولم تخلُ من عبارات وطنية حماسية تذكّر بالعقوبات والتحديات وصعوبات الحرب. لكنّ جميعها افتقر إلى الأرقام، وغابت عنها أهداف كمّية قابلة للقياس، وخلت من آليات واضحة لمتابعة تنفيذ البرامج والمشاريع والمساءلة.
يعكس هذا النهج غياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح، ويقوّض الثقة بين الحكومة والشعب. فالشعب السوري الذي يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية معقدة يستحق أكثر من مجرد وعود. يستحق السوريون اليوم خططًا واضحة وآليات تنفيذ فعالة تظهر في بيان وزاري يقدم حلولًا ملموسة للمشكلات القائمة، ويحدد مسارًا واضحًا لمستقبل البلاد.
فهل سيكون البيان الوزاري للحكومة الثامنة خلال الأزمة السورية أكثر من مجرد سردية نعرف تفاصيلها قبل صدورها؟ أم سيقتصر على حزمة من الوعود التي سرعان ما تتلاشى بعد مناقشة البيان تحت قبة مجلس الشعب؟
إن نجاح أي حكومة يعتمد على قدرتها على تحقيق وعودها. لهذا، يُعتبر البيان الوزاري المقبل فرصة للحكومة السورية لإعادة بناء الثقة مع الشعب، واختبارًا حقيقيًا لقدرتها على تنفيذ السياسة الاقتصادية للدولة.
لا بد أن يتضمّن البيان خطوات وآليات ضبط الفساد المستشري، وهو أهم أسباب تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سوريا
وبحسب المادة 13 من الدستور السوري، فإن تلك السياسة تهدف إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وصولًا إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.
وهنا سنذكر ثلاثة أهداف ذات أولوية لا يجب إغفالها:
الفقر: يُعتبر الفقر وانعدام الأمن الغذائي التحدي الأعظم الذي يواجه الحكومة الجديدة، ومتطلبًا لا غنى عنه لتحقيق التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية. ويعاني أكثر من 80% من السوريين من الفقر، فيما 90% منهم غير آمنين غذائيًا.
لذلك، يجب أن يتضمّن البيان هدفًا كميًا واضحًا يُبيّن النسبة التي يُراد تحقيقها للآمنين غذائيًا وكذلك لمعدلات الفقر. ويجب أن يذكر البيان إجراءات تفصيلية لتحقيق هذه الأهداف، مثل تحسين الوصول إلى سبل العيش، والوصول الشامل إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، وكيفية تطوير نظم الحماية الاجتماعية لدعم أولئك الذين لا يستطيعون إعالة أنفسهم.
إصلاح سوق العمل: في العام 2022، ارتفعت معدلات البطالة إلى 23.7%، وانخفضت نسبة المشتغلين من حملة المعاهد المتوسطة والشهادة الجامعية وما بعدها إلى أقل من 24.4% مقارنة بـ 27% في العام 2021، لتصبح النسبة الأكبر من المشتغلين من حملة الشهادة الابتدائية وما دون، حيث شكل هؤلاء 42% من إجمالي المشتغلين. وهذه أرقام صارخة لا يكفي الوقوف عندها من دون قراءة دلالاتها.
إن خروج الأفراد المتعلمين من سوق العمل لفترات طويلة يحمّل سوريا عبئًا ماليًا كبيرًا، إذ يؤثر على الإنتاجية الاقتصادية ويعيق عملية التنمية. لذا، يجب على الحكومة الجديدة أن تكافح لعكس هذا المد، وهذا يستوجب أن يتضمن البيان بوضوح لا معدلات البطالة المستهدفة فحسب، بل أيضًا سياسات سوق العمل النشطة التي تساعد العاطلين عن العمل في العثور على عمل، والمشتغلين في العثور على فرصة عمل تناسب مؤهلاتهم.
ولا يمكن إغفال هجرة الكفاءات والشباب ضمن البيان. فالهجرة تعكس رغبة ملايين السوريين في الحصول على نوعية حياة أفضل لجهة التعليم والوظائف والرعاية الصحية وخلافها. لذلك، لا ينبغي تجاهل الأسباب التي تدفع الناس إلى مغادرة البلاد. بل يجب أن تمتلك الحكومة رؤية واضحة تسمح بتجنب حصول موجات هجرة جديدة، وباستقطاب المهاجرين من أصحاب الكفاءات.
لا يمكن للبيان الوزاري أن يُغفل عدد الوحدات السكنية التي ينغي توفيرها بأسعار معقولة للأسر ذات الدخل المنخفض
والنهج الأكثر فعالية لوقف هجرة الأدمغة والشباب يتمثل بمنحهم سببًا للبقاء، وهذا يعني توفير فرص عمل أفضل، ومستوى معيشة أعلى، وهي أمور من دونها سيستمر المهنيون ذوو المهارات العالية والكفاءات العلمية بالهجرة أو العزوف عن العمل.
يستدعي كل هذا جعل الأجور أكثر تنافسية، وتنمية القطاع الخاص "الفاعل"، وخلق فرص عمل عبر إصلاح القطاع العام، بالإضافة إلى تعزيز الاتصال مع الشتات. ذلك أن المهاجرين يمكن أن ينتجوا تأثيرًا إيجابيًا وفوائد اقتصادية لمجتمعاتهم المحلية من خلال التحويلات المالية والاستثمار ونقل المهارات وتوطينها.
الإسكان: تشهد سوريا أزمة إسكان حادة تفاقمت بسبب الحرب. فقد أظهرت دراساتٌ أن أكثر من 215 ألف وحدة سكنية تعرضت للتدمير الجزئي أو الكلي (الإطار الوطني للتخطيط الإقليمي). كما أدى تراجع الاستثمار في بناء دور السكن بنسبة 50% عما كان عليه الوضع قبل الحرب إلى نقص حاد في المساكن الجديدة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تأجيل الصيانة خلال سنوات الحرب أدى إلى تدهور حال مساكن قائمة، حيث بات الكثير منها غير صالح للسكن. هذا الوضع، مقرونًا بتكاليف الإسكان المرتفعة التي تفوق قدرة الكثير من الأسر، يجعل أزمة السكن واحدة من أبرز التحديات التي تواجه السوريين والتي تستوجب العلاج.
من هنا، لا يمكن للبيان الوزاري أن يُغفل عدد الوحدات السكنية التي ينغي توفيرها بأسعار معقولة للأسر ذات الدخل المنخفض خلال السنوات الأربع لولاية الحكومة. ولتجاوز أزمة الإسكان، يجب تصميم برامج إسكان متنوعة لمساعدة الأفراد والأسر على العثور على مساكن ذات كلفة معقولة، مثل برامج الإيجار المدعوم، والدعم المالي للأسر المتضررة، ومساعدات إصلاح المنازل، وقروض الإسكان الميسرة، إلخ. وتختلف هذه البرامج بحسب المنطقة، ويجب إدارتها من خلال سلطات الإدارة المحلية.
وبالتأكيد، لا بد أن يتضمن البيان خطوات وآليات ضبط الفساد المستشري، وهو أهم أسباب تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سوريا، والمعيق الرئيس لتنفيذ أي وعود.
إن إصدار البيان الوزاري على هذا النحو، بحيث يكون واضحًا ومحددًا ومستندًا إلى أسس علمية واقتصادية سليمة لجهة الأهداف والبرامج والسياسات، ومقرونًا بآليات فعالة للمتابعة وتقييم الأداء والمساءلة، من شأنه أن يعكس مدى جدية الحكومة الجديدة في الإصلاح خلال السنوات الأربع المقبلة.