
وصف الرئيس المصري ما يحدث في غزة بـ"الإبادة الجماعية"، للمرة الأولى، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيس جمهورية فيتنام الأسبوع الماضي، بعد مرور اثنين وعشرين شهرًا على بدايتها. لكن قبل مرور أربع وعشرين ساعة على اعترافه ذاك، نُشرت تفاصيل الاتفاق الجديد بينه وبين مرتكبي الإبادة، الذي سيحصلون بموجبه على خمسة وثلاثين مليار دولار من الأموال المصرية مقابل غاز الفلسطينيين الذي تنهبه تل أبيب وتموّل به إبادتهم.
منذ بدء عملية الإبادة، يظهر بوضوح موقف نظام السيسي منها، وهو يتمثّل بتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب من دون تحمل أي مسؤوليات، فضلًا عن تجنب الخسائر المحتملة.
خلال الأشهر الثمانية الأولى من الإبادة، أدّت القوات المصرية دورًا في إطباق الحصار على غزة، وقد تلاقت في ذلك مصالح عدّة. فالنظام المصري أوقف مخطط تهجير أهل القطاع نحو سيناء، والذي رأى فيه تهديدًا جديًا له. وفي حين أثنت فصائل المقاومة على ذلك لأنه حال دون تصفية القضية الفلسطينية، رأت إسرائيل في الحصار مكسبًا لأنه يقطع الإمداد عن المقاومة عن طريق الأراضي المصرية. وفي المحصلة، فإن النظام، برغم إجهاضه خطة التهجير، لم يتحمل أيًا من مسؤولياته الوطنية أو القومية أو الإنسانية حتى.
انصاع السيسي لقرارات نتنياهو المتعلقة بغزة والحدود المصرية ومنع دخول المساعدات حين قرر نتنياهو ذلك، وحال دون وصول الصحفيين والمراقبين وإخراج أي من مزدوجي الجنسية أو الأجانب المتواجدين في القطاع إلا بإذن اسرائيلي. وحين قصفت إسرائيل القوات المصرية على الحدود واستشهد أربعة مصريين على الأقل، لم يستغل ذلك لصياغة موقف أكثر تشددًا حيال الإبادة، بل تعامل مع المسألة بوصفها تحذيرًا يستوجب الرضوخ.
وكعادة السيسي خلال سنوات حكمه الطويلة، لا شيء مجاني. إذ إن هذا الانصياع كان له مقابله. فإلى جانب عشرات الملايين التي حصّلها من الفارين من المحرقة باسم "التنسيق"، وعشرات الملايين الأخرى مقابل البضائع الداخلة لمن لم يحالفهم الحظ بالنجاة، كانت هناك عشرات المليارات قوامها مساعدات وقروض ميسّرة، ومنح تم ضخها في شرايين الاقتصاد المتداعي، بضوء أخضر أميركي، أي برضى الطرف الثالث في العلاقة التي أسستها اتفاقية "كامب ديفيد"، والتي بموجبها تم تحصيل عشرات المليارات من المعونة العسكرية والاقتصادية التي يستفيد منها أركان النظام وقياداته مباشرة.
شركة "العريش للأسمنت"، التي تملكها وزارة الدفاع المصرية، تربّحت من الزيادة المهولة في صادرات الأسمنت لإسرائيل
استفاد أطراف هذه العلاقة الثلاثية بأشكال مختلفة على حساب شعب يُباد أمام أنظار العالم. فإسرائيل، ومن خلفها راعيتها واشنطن، وجدت في النظام المصري خير معاون، في ظلّ تزايد السخط العالمي، ومنفذًا يسهّل كسر الحصار. في المقابل، استفاد السيسي، مع سائر أركان نظامه، من الدعم والرضا الذي حظي بهما من الجانبين الأميركي والإسرائيلي.
فبحسب بيانات صدرت حديثًا، ارتفع التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل بشكل كبير خلال عامي الإبادة، فبلغت نسبة الزيادة 21.3% عام 2024، لتصل إلى 3.2 مليار دولار، مقارنة بـ 2.64 مليار دولار في العام 2023. ثم ارتفعت نسبة الصادرات المصرية إلى إسرائيل بنسبة 50% خلال النصف الأول من العام الجاري 2025، قياسًا على الفترة نفسها من العام 2024، وذلك في إطار مساعي تقليص أثر عمليات "أنصار الله" (الحوثيين) اليمنية الهادفة إلى فرض حصار تجاري على إسرائيل، إذ أصبحت مصر وتركيا جسرين يتيحان الالتفاف على هذا الحصار، خصوصًا في ما يتعلق بالاحتياجات الأساسية من الغذاء، في الوقت الذي تفرض فيه إسرائيل عملية تجويع أودت بحياة أكثر من 250 فلسطينيًا، بينهم أكثر من 100 طفل، وما زالت تعرّض عشرات الآلاف لخطر الموت جوعًا.
استفاد النظام المصري من هذه السياسة على اعتبار أن الشركات المُصدرة لإسرائيل، التي يتجاوز عددها 300، مملوكة في غالبيتها لأعضاء في مجلس النواب ولرجال أعمال تابعين أو مدعومين من الأجهزة الأمنية المصرية، أو لصناديق سيادية خليجية، أو أنها تدير مصانع تابعة لجهات داخل الدولة. أما الأكثر إيلامًا فمشاركة قطاعات اقتصادية تابعة للجيش المصري في هذا "البيزنس" الإبادي. فشركة "العريش للأسمنت"، التي تملكها وزارة الدفاع المصرية، تربّحت من الزيادة المهولة في صادرات الأسمنت لإسرائيل، والتي بلغت 5400% خلال الحرب، لتتقدم إسرائيل محتلة المركز الرابع في قائمة مستوردي الأسمنت المصري بعدما كانت في المركز 49 عام 2023.
والجدير ذكره أن هذه بيانات معروفة ومنشورة. لكن هناك الكثير من المعلومات والتفاصيل التي حُجبت تمامًا، كحال شحنة المتفجرات الإسرائيلية التي حملتها السفينة كاثرين لمصلحة أكبر مقاول دفاعي لإسرائيل "ألبيت سيستيمز"، ورفضت موانئ عدة حول العالم استقبالها، وحذّرت المقررة الأممية الخاصة بالأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيزي من استقبالها على اعتبار أن ذلك يُعد مشاركة في الإبادة الجماعية الجارية، من دون أن يمنع ذلك كلّه الرصيف الحربي في ميناء الإسكندرية من استقبالها، وسط اتهامات وجّهها محامون مصريون لناقلي تلك الشحنة بإيصالها إلى ميناء أشدود.
وقد تكلّلت الأرباح التي جناها النظام المصري لقاء الخدمات التي قدمها لإسرائيل، ولا يزال، بصفقة الصواريخ الأميركية التي بلغت قيمتها 4.67 مليار دولار، لا تدفع القاهرة منها شيئًا، وتُغطى تكاليفها بالكامل عن طريق المعونة العسكرية عبر آلية التمويل بالتدفق النقدي، التي تتيح توقيع صفقات تتجاوز قيمتها التمويل السنوي ويتم سدادها من خلال منح السنوات المقبلة، وهذه تسهيلات لا توفّرها الولايات المتحدة لأي جهة في العالم باستثناء مصر وإسرائيل.
من هنا، فإن عقد استيراد الغاز المصري الأخير يتماشى تمامًا مع السخاء الأميركي والثقة التي أولتها واشنطن لنظام السيسي، لجهة ضمان المعونة لخمس سنوات قادمة، بحيث يستفيد منها النظام وقياداته وأركانه لتحقيق أرباح ضخمة، تحت ستار من الدعاية المكثفة التي تُعمي أبصار المصريين، وتُشبعهم خطبًا وبيانات وتصريحات وقصصًا أسطورية، تتشابك لتشكّل منظومة دعاية متكاملة يشارك فيها النظام من أعلى رأسه وصولًا إلى لجانه الإلكترونية الممولة.