لا سقف لي إلا السماء
يبدو أنّي سأبقى غريبًا في وطني إلى الأبد؛ غريبًا لا لأنّي فقدت البيت، بل لأن البيت نفسه فقدني.
يبدو أنّي سأبقى غريبًا في وطني إلى الأبد؛ غريبًا لا لأنّي فقدت البيت، بل لأن البيت نفسه فقدني.
أجلس أمام خيمتي التي أظنّ أنها ستغدو خَيبتي الأبدية. أنظر إلى السماء، فأرى طائرات الاستطلاع ــــ "الزنانة" ــــ تحوم فوقي وهي أكثر من عدد أصابعي. وبرغم أن وقفَ إطلاق النار دخل حيّز التنفيذ، إلا أن هذه المغضوبة ــــ كما نسمّيها هنا ــــ لم تفارقنا منذ كنتُ ألعب كرة القدم في حارتنا القديمة في بيت حانون.
لا أُخفي عليكم: بعد ثمانٍ وأربعين ساعة من إعلان ترمب عن اتفاق وقف إطلاق النار، وبعد عامين من الإبادة، صرتُ أُجيدُ المشاعر الممكنة كلّها ــــ حتى تلك التي لم نكن لنتخيّلها ــــ لكن لحظة الإعلان هذه لم أشعر فيها بشيء. كأن الزمن توقف. لا فرح، لا بكاء، لا كلام، ولا صمت. كأن شيئًا في داخلي تجمّد. برغم أننا هنا، في هذه البقعة الصغيرة التي صارت محور الكون، كنا ننتظر أن يصرخ أحدهم بعد عامين ويومين:
"هدنة… خلصت الحرب".
ربما هذه هي ذروة الحزن: أن يأتي السلامُ متأخرًا، فلا تجد في نفسك مكانًا يليق به.
عامان.
حتى نُطق الكلمة ثقيل على القلب، كأنها لحظة واحدة طويلة لم تنتهِ بعد.
عامان من الإبادة بكلّ أشكالها، وحتى بتلك التي لم نكن نعرفها قبل أن نراها. عامان من طوابير أطول من أعمارنا، ومن سَيرٍ أثقل من ركض العدّائين نحو سرابٍ يُسمّى الماء.
عامان من النزوح المتكرر، حتى صار عدد المرات التي غادرنا فيها يقارب سنَّ أطفالنا. في كل مرة نترك خلفنا ما تبقى منّا، نغلق باب بيتٍ واحدٍ للمرة الأخيرة، ثم نحمل الخيمة معنا، ونمضي.
عامان وابني زين لم يعرف شيئًا غير التراب: وُلد في الخيمة ولم يعرف إلا حدودها
عامان في خيمة لا سقفَ لها إلا السماء. لا باب يُغلق، لا نافذة تُطلّ على أمل، لا درج يصعد بنا إلى الطمأنينة.
عامان لم أستند فيهما إلى جدار، لم أغسل يدي تحت صنبور ماء، لم أدخل حمّامًا عاديًا.
عامان وزوجتي لم تلمس غسالة ولا موقدًا ولا شرفة.
عامان وابنتي أيلول لم تدخل روضة، لم تلمس لعبة، لم ترَ تلفازًا.
عامان وابني زين لم يعرف شيئًا غير التراب: وُلد في الخيمة ولم يعرف إلا حدودها. كلما رأيته يمشي فوق ترابها شعرت أن الغبار يكبر معه، وأن طفولته المفقودة تقصم ظهري قبل أن تكسر قلبي.
واليوم، بعد عامين، في مشهد عودة الأهالي إلى أجزاء من شمال القطاع ومدينة غزة — إلى ما تبقّى من بيوتهم إن تبقّت — رأيت الناس يعودون بوجوهٍ يركبها الأمل. لكنهم لم يعودوا إلى جدران، بل إلى التراب الذي يعرف أسماءهم.
عادوا إلى الأرض التي تتنفس بذكرياتهم، إلى الأماكن التي لا تسألهم من أين جاؤوا. عادوا إلى ما تبقّى من معنى الوطن في صدورهم، ولهذا تمضي الوجوه بلهفة برغم الأوجاع ــــ كأنهم يسيرون نحو قلوبهم لا نحو مدنهم.
عاد الجميع… إلا أنا، ومئات الآلاف مثلي، ممن لا يستطيعون العودة: إما لأن مدينتهم ليست ضمن الاتفاق، أو لأنهم لا يملكون أرضًا يضعون فوقها خيمتهم.
أنظر مرة إلى عمود الخيمة الذي لن يصمد أمام الشتاء، ومرة إلى السماء وفي الخلفية هدير الزنانة، لعلّها تغيّر معادلة هذا الكون لأجلي. كيف يعود من لا أرض له؟ وأين يضع خيبته إن لم يجد مكانًا يحتملها؟
يبدو أنّي سأبقى غريبًا في وطني إلى الأبد؛ غريبًا لا لأنّي فقدت البيت، بل لأن البيت نفسه فقدني. كأنّي أقف على عتبة الحياة ولا أملك بابًا أعود منه. لكن ما دام في صدري هذا الوجع، فلي شهادة على أنّي ما زلت أنتمي.
قد يطول المنفى، وقد تتبدّل الخرائط، لكن الوطن الحقيقي ــــ كما علّمتني الخيمة ــــ ليس ما نعود إليه، بل ما لا يغادرنا أبدًا.