
اجتمع حكّامُ العالم حول كعكةٍ بلا شموع، يقطعونها على الهواء مباشرة كما لو أنّهم في وليمةٍ أسطورية على مسرحٍ كوني. يتغامزون، يتبادلون النكات الخفيّة، ويلتقطون الصور بابتساماتٍ مصطنعة، بينما توقّع الأيادي العربية على الهامش بحبرٍ باهتٍ لا لون له، توقيع الحاضر الغائب.
الوليمة أُقيمت لطفل عيد الميلاد؛ الطفل نفسه لم يتذوّق شيئًا إلا الموت، لم يشمّ حتى رائحة السكر. وجوده هو ديكور إضافي في مشهد عالمي يزداد فجاجةً كل يوم، حيث تُضاء القاعات المترفة بينما تُطفأ مدن بأكملها.
وفيما الكاميرات تلمع في القاعات الباردة، كان هناك بثٌّ آخر لا يراه سوى نحن: بثٌّ قادم من قلب الرماد، بعيد كأنّه من كوكبٍ آخر، لا يريد اكتشافه أحد، لأنه الأكثر صدقًا وسط هذا الزيف.
من بين ألسنة النار والدخان، من قلب الركام وجه المدينة الجديد، يطلّ البثّ الحقيقي: غزة تُباد عن بكرة أبيها بكل ما ابتكرته مصانع هذا الكوكب الحقير من طائراتٍ ودبّاباتٍ وقنابل وعتاد.
سبع عائلاتٍ محاصرة في عمارة "القصر الملكي" وسط المدينة. نصفهم جرحى يئنّون، والنصف الآخر يتنقّل بين صرخات الأطفال ودعوات الأمهات وانتظارٍ يزداد قسوة مع كل دقيقة. ليلة كاملة من المناشدة على الهواء، وكان هواء أكثر صمتًا من القبور. لم يسمعوا سوى صدى أصواتهم. كانوا يريدون من العالم أن يتذكرهم ولو كخبرٍ عابر، لكن الدبّابات التي أحاطت بالمكان كانت أصدق وأسرع من أي مذيعٍ على أي قناة.
وفي موتٍ آخر أكثر بطئًا، تحكي لي صديقتي بيان أبو سلطان أنها نجت بأعجوبة من قصفٍ جنوني. لكنها وجدت نفسها تفترش الشارع قرب مستشفى الشفاء مع أمها، تنام على الإسفلت تحت قسوة الخريف.
نحن لا نريد أن نموت؛ نحن نريد أن نحيا، أن نخرج من تحت الركام حاملين بقايا صورنا
لم تعد تعرف إلى أين تذهب، ولم أعرف بماذا أجيبها. كيف أجيبها وأنا الذي تسكنني خيمة بشرائط بالية لعامين، يقبع تحت سقفها تسعة أفراد من عائلتي؟
لا أبواب يمكن أن تفتح في مدينة تحوّلت كلها إلى جدارٍ واحد، جدار الموت. أخبرتها أننا للأسف لم يبقَ لنا سوى أن نتعلم كيف نعيش في العراء، ويجب أن تقنع أجسادنا بأن الإسفلت سرير، وبأن الضوء الذي تصنعه الصواريخ ليست إلا قمرًا شاردًا في سماءٍ جائعة.
وفي هذه اللحظة، يأتيني صدى العالم من بعيد. هناك، على شاشاتهم الملوّنة، يناقشون خطط سلامٍ تُطبخ في العواصم الكبرى. عشرون نقطةٍ يتجادلون حولها كما لو كانت عشرين قطعةً من الكعكة نفسها. حديثٌ عن "انتقال سلس للسلطة"، عن ممرّات آمنة، عن إعادة إعمار، عن أوراقٍ تحمل أسماء لامعة، ليس بينهم غزي.
لكن هنا، يولد قصفٌ جديد كل ثانية، ويُدفن بيتٌ جديد كل دقيقة. أيّ إعادة إعمار تعيد من ماتوا لأجل الدقيق؟ أيّ اتفاقٍ يعيد ملامح شارعٍ صار حفرة؟ وأيّ ورقةٍ تعيد قلب أمٍّ ما زالت تبحث عن ابنها لتدفنه ويرتاح قلبها؟
وفي ظل هذا كله، لا تستغربوا إذا قلت لكم إنّ نصف ساكني الخيام هنا لم يسمعوا بهذه الكعكة إلا بالصدفة، وبفم امتلأ خذلانًا كان ردهم: "يلا المهم يخلصونا".
أنا الآن أعترف ــــ وبمرارةٍ لا تخفيها اللغة ــــ أنّي وجدت نفسي لحظةً أوافق على ما قاله وزير تراث الكيان، أميخاي إلياهو، حين دعا في بداية هذه الإبادة إلى ضربنا بالنووي. اليوم شعرت أن ميتةً واحدة سريعة قد تكون أرحم من تقطيع أوصالنا البطيء، من هذا التعذيب الذي يباركه العالم ويغطيه بكلماتٍ دبلوماسية كاذبة.
لكنّي أعرف أيضًا أنّ هذا الاعتراف هو ثمرة القهر، لا الحقيقة. نحن لا نريد أن نموت؛ نحن نريد أن نحيا، أن نخرج من تحت الركام حاملين بقايا صورنا، أن نكتب أسماءنا على جدران المخيم المنهارة، أن نثبت أننا لم نكن مجرد أرقامٍ في جداول الأمم المتحدة ولا حاشيةً في تقريرٍ صحفي. نحن من لحم ودم ولنا أحلام وذاكرة.