أستيقظ قلقة كل صباح على ضجيج الحي الذي ازدادت حيويته منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي بشكل تدريجي، مع ازدياد عدد الباعة المتجوّلين والتحسن الطفيف في القدرة الشرائية للمواطن السوري، بعد قرار الحكومة الجديدة برفع رواتب الموظفين الحكوميين. على ظهر كل سيارة متجوّلة مكبّر صوت يردّد من دون توقف، وبصوت مشوش، شريطًا مسجلًا بصوت البائع، يشرح فيه ما يريد بيعه والسعر المطلوب، ويضيف إليه في غالب الأحيان جملة تميزه عن غيره وتضفي طابعًا من الألفة مع المشتري.
"يلا يا أبو العيلة، يلا يا ست البيت، الدولار نزل والخضرة ببلاش"، يصيح أحد الباعة عبر المكبّر بلهجته الثقيلة و"الغريبة" عن لهجة سكان هذا الحي الشعبي الذي تسكنه غالبية علوية. عرفت لاحقًا لدى شرائي بعض الخضراوات منه أنه قدم مع عائلته من مدينة إدلب إلى اللاذقية، وأن حركة الشراء في "حاراتنا" ليست جيدة كما في بقية الأحياء. وعزا ذلك بابتسامة متفهمة بأن الناس تفضّل الشراء من سكان الحي نفسه على الشراء من "غريب"، فوافقته على ذلك ومشيت.
لم يكن صوت ابن إدلب في حيّنا الشيء الجديد الوحيد. فبعد انقطاع دام أكثر من عشر سنوات، عادت السيارات التي تبيع أسطوانات الغاز إلى الأحياء بعدما كان بيعها محصورًا بمعتمدين تسمح لهم الدولة ببيع أسطوانة واحدة لكل عائلة كل ثلاثة أشهر.
ما يميّز هذه السيارات عن غيرها محليًا هو أن الباعة يسجّلون إحدى أغاني فيروز بدلًا من صوتهم ويبثونها عبر المكبّر، وهذه ظاهرة موجودة في سوريا فقط، ومن قبل سقوط نظام الأسد. لم نعرف مصدر الفكرة ومن صاحبها، لكننا استطعنا، كسوريين، فهم السبب الذي يدفع إلى فعل ذلك، وهو اجتماع غالبيتنا ــــ برغم استقطاباتنا التي تزداد حدة ــــ على حب فيروز.
استطاعت سيارات بيع الغاز في سوريا تحقيق هدفها في بناء علاقة ودية مع الشاري من دون إزعاجه، والأهم من ذلك، استطاعت إدخال فيروز إلى جميع البيوت والمؤسسات السورية من دون استثناء ومن دون استئذان حتى. فبرغم انقطاع صوتها لـ 14 عامًا من الشوارع، بقيت موجودة في الحيّز الخاص لكثير من السوريين، خصوصًا في صباحاتهم. واليوم، بعد سقوط نظام الأسد، عادت من خلال الباعة المتجولين، تباغتنا فجأة وبأغرب الطرق، لتثير فينا حنينًا وألمًا، وربما حزنًا أليفا.
سألني صديقي: "ما هي الصورة التي تمنعك من الرحيل بشكل نهائي، وما هو سر عودتك دائمًا؟"
"نطرتك سنة، ويا طول السنة". انسلّ صوت فيروز من سيارة الغاز إلى سريري في أحد الصباحات ليذكّرني بأن أيامًا قليلة تفصلنا عن الذكرى السنوية للسقوط أو "التحرير". ففكّرت بأنها كانت من أطول السنوات التي مرّت علي وأكثرها ألمًا. لم أكن أنتظر حبيبًا كفيروز، بل أسوأ. كنت أنتظر أن تتغير البلاد وتتغيّر معها حياتي، فلا أضطر للهجرة مجددًا، لكن للسياسة رأي آخر.
"وحدن بيبقوا"
سافرتُ إلى بيروت بنيّة الاستقرار عام 2022 وعدت إلى سوريا بعدما قضيت أكثر من سنة هناك. سافرتُ بعدها برحلة عمل إلى الإمارات، حيث كان سوق العمل وقتها يعج بالسوريين ومستعدًا لاستقبال عدد أكبر، إلا أنّي فضلت العودة إلى سوريا أيضًا. بعد سقوط النظام، وبعد مجازر الساحل بشهور قليلة، سافرتُ برحلة عمل أخرى إلى قطر، وهناك، حيث كل شيء يمثل النقيض التام لسوريا، وقفت على حافة الاختيار بين البقاء في أمان مطلق والعودة لبؤرة العنف.
في مطار الدوحة، بينما كنت أركض للحاق برحلتي المتجهة إلى سوريا، بكيت بشدة طوال الطريق إلى الطائرة، حتى أنّي لم ألتفت كعادتي لأغلفة الكتب الملونة، المعروضة بترتيب شديد، ولا للعطور أو الشوكولاتة الفاخرة. لم أكن أعرف إن كان السبب هو الاشتياق لسوريا أو رعب العودة إليها مجددًا، لكنّي ركبت طائرة العودة في مطلق الأحوال.
استقبلني أحد الأصدقاء في مقهاه الثقافي في مدينة اللاذقية إثر عودتي. تحدثنا عن أخيه الموسيقي المهاجر الذي أصبح يسمع عتابا الساحل السوري في غربته بعدما كان يسمع الجاز ويعزفه في سوريا. وحكى لي عن الضغوط التي تعرض لها، هو نفسه، للمغادرة بعد مجازر الساحل. لكنّ صورة إقفاله المقهى ورحيله ظلّت تلاحقه في كوابيسه، فرفض الفكرة وقرّر البقاء. سكتَ قليلًا وسألني: "وأنتِ، ما هي الصورة التي تمنعك من الرحيل بشكل نهائي، وما هو سر عودتك دائمًا؟".
إلى اليوم، ما زلتُ لا أعرف الجواب، وكلّما فكرت فيه أصبحت الإجابة عصيّة علي أكثر. ففي كل مرة أعود فيها من بلد ما، أترك خلفي فرصًا لحياة أفضل وأصدقاء حقيقيين أصبحوا منتشرين في كل مكان عدا سوريا، وأعود إلى منفاي حيث أنا وحيدة تمامًا، مجرّدة من أبسط حقوقي، ومعرّضة للقتل في أي لحظة بجريمة كراهية طائفية.
أفكّر بأن العودة في كل مرة ليست بطولة رومانسية ولا شجاعة، بل أقرب لتمثيل حقيقي لمتلازمة ستوكهولم. إنها إذعان للبلاد ــــ أو الجلاد في حال تبنّينا نظرية متلازمة ستوكهولم ــــ يسمح لها بأن تنهش ما تبقى من رأسي. أستطيع أن أشعر به، بينما تتلاعب الأدوية النفسية بكيميائيته. يتقلص وينكمش كلما زادت فترة وجودي داخل سوريا، إلا أنّي ما زلت أحاول في كل صباح أن أصرخ ما تبقى فيه على ورقة بيضاء لأثبت لنفسي وللعالم أنّي ما زلت حية.
ازداد تعلقي بالساحل، بل حتى لهجتي التي كنت أواريها سابقًا لأتفادى تنميطي، أصبحت أعتبرها اليوم جزءًا مني
في المقهى المعتاد، وفي أحد أيام خريف ما بعد السقوط، جلستُ وحيدة. كانت جميع الوجوه حولي جديدة، ولم يكن هناك الكثير من الأشياء المألوفة حولي سوى صوت فيروز، يتماهى مع أصوات الشبان العالية. فهي الثابت الوحيد الذي أصرّ صاحب المقهى على عدم تغييره طوال 15 عامًا. وبعدما قدم لي الشاب الذي يعمل في المقهى كأس المتة مع الإبريق الساخن، تسلّل صوت فيروز إليّ من بين الأصوات الصاخبة للحظة، قائلًا: "هجّ الحمام بقيت لحالي.. لحالي"، فبكيتُ من دون كتف أتكئ عليه.
"عصفورة الشجن"
حين أستعيد ما حصل خلال هذه السنة التي تلت سقوط النظام، أستطيع تحديد ثلاث لحظات فقط شعرت فيها بالحرية أو الانعتاق، وهي لحظة انتشار خبر هروب بشار الأسد، وأوّل حديث سياسي أخوضه بصوت عالٍ، وأول مادة صحفية كتبتها بعد السقوط. كل تلك اللحظات تنتمي إلى مرحلة "ما قبل المجازر"، أي المجازر الطائفية التي قامت بها قوات تابعة للحكومة السورية الجديدة في الساحل السوري، وكل ما أتى بعدها كان محمّلًا بالخوف والدماء.
على امتداد هذا الساحل، تغيّر شكل المدن والأرياف على حد سواء، وتغيّر معها نمط معيشة سكانها. طغى اللون الرمادي والأسود على مساحات واسعة ممّا كان سابقًا جبالًا وسهولًا خضراء بفعل الحرائق، كما قلّت حركة النساء، العلويات بالتحديد، في الأماكن العامة، خصوصًا بعد غروب الشمس بسبب حالات الخطف التي ما زالت تستهدفهن إلى اليوم. وتغيّر نمط لباسهن خوفًا من المضايقات أو الاعتداء في ظل جو إسلامي جديد يدعو لـ"الحشمة" بطرق مختلفة.
بقي الخوف الذي أنهكنا أيام الأسد حاضرًا بأشكال مختلفة، حيث أُعيد إنتاجه من قبل السلطة الجديدة ليشمل حياتنا اليومية والافتراضية. فبين الخوف من القتل بجريمة طائفية أو رصاصة طائشة، والخوف من هجمة الكترونية قد تمتدّ لاعتقال تعسفي ضد من يتجرأ على السلطة، عشنا حياتنا خلال هذه السنة.
برغم ذلك، أو نتيجة لذلك ربما، ازداد تعلقي بهذا الساحل، وبدأت أشعر بالانتماء إليه أكثر. حتى لهجتي التي كنت أواريها سابقًا لأتفادى تنميطي وربطي بحاضنة الأسد ومؤيديه، أصبحت أعتبرها اليوم جزءًا مني لا يجوز إخفاؤه حتى لو أصبح خطرًا علي. فاليوم، حرف القاف الذي يميز اللهجة الساحلية أصبح عبئًا على صاحبه بعدما كان رمزًا للقوة والسيطرة. والذي كان يمارس التشبيح من خلاله على أيام نظام الأسد، عاد اليوم ليدينه.
بين إعادة تعريفي وتنميطي هنا وهناك بسبب لهجتي أو انتمائي الطائفي، أضعت تعريفي الحقيقي. ففي لبنان مثلًا، لطالما كنت سوريّة لا تشبه السوريين ولكن تذكّر اللبنانيين بالاحتلال السوري، وفي قطر كنت العلوية الغريبة والمشكوك بانتمائها السياسي، وفي سوريا كنت طوال هذه السنة "الصحافية الفلول". أينما حللت كانت هناك صورة جاهزة عني عليّ أن أبذل جهدًا لتحطيمها وإعادة بناء أخرى تشبهني، ولكن مؤخرًا لم أعد أعرف كيف أفعل ذلك.
وفي بحثي عن ذاتي بين هذا العنف وذاك، أدركتُ أن ما تبدّل خلال هذا العام لم يكن شكل السلطة فقط، بل معنى الوطن نفسه وتعريفي لنفسي من خلاله. وبرغم ما سُلب مني لأجله، أجدني معلّقة به، بهذا الساحل الذي صار أشبه بمرآة مشروخة نرى فيه ما كنا، وما فقدناه، وما لا نعرف بعد إن كنا سنصبحه. ربما لأجل ذلك، ولأن هذا المكان صار يُعيد تشكيلنا بالقوة بدل الاختيار، لم أعد قادرة على الادعاء بأنه وطن. إنه أرض أعود إليها، نعم، لكن ليس لأنها تمنحني الأمان، بل لأن الهرب منها لم يعد يشبه النجاة أيضًا.
وفي تلك اللحظة، حين يختلط حبّ المكان بالخوف منه، والانتماء له بضرورة تركه، يتردّد صوت فيروز بداخلي كما لو أنه يلخّص عامًا كاملًا: "أنا يا عصفورة الشجن… مثل عينيكِ بلا وطن".