سوريّون في لامكان
"بعد ما سقط النظام حسيت لفترة إنه ممكن إنتمي لسوريا، بس بعد شهر حسيت إنه خيباتي زادوا وحدة، وصار لتغريبتي معنى جديد". كيف يشعر سوريون معلّقون اليوم بين بلدهم ولبنان؟
"بعد ما سقط النظام حسيت لفترة إنه ممكن إنتمي لسوريا، بس بعد شهر حسيت إنه خيباتي زادوا وحدة، وصار لتغريبتي معنى جديد". كيف يشعر سوريون معلّقون اليوم بين بلدهم ولبنان؟
طوال حياتي، لم أشهد يومًا كانت فيه العلاقات السورية ــــ اللبنانية جيدة، بل كانت هناك دومًا فترات سيئة وفترات أسوأ فقط. لا أستطيع بالطبع أن ألوم المجتمع أو الدولة أو حتى الإعلام اللبناني بشكل كامل على تعزيز الشرخ بين الشعبين، فالتاريخ يشهد بأن انتهاكات النظام السوري السابق واعتداءاته على لبنان، أرضًا وشعبًا، كانت صعبة الغفران. مع ذلك، يبقى السؤال، ما ذنب الشعب السوري المتضرّر بالدرجة الأولى من النظام نفسه ليتحمّل عبئين، عبء ما فعله النظام به، وعبء ما فعله بجيرانه؟
مع تجدد أعمال العنف في سوريا بعد ثلاثة أشهر على سقوط نظام الأسد، ولجوء نحو 13 ألف مواطن من الطائفة العلوية نحو شمال لبنان (بحسب ما أفادت غرفة الكوارث والأزمات في محافظة عكار) هربًا من جرائم ارتكبتها فصائل تابعة للسلطة الجديدة، عادت أزمة اللاجئين السوريين في لبنان إلى الواجهة.
فبالنسبة للبنان، لم تكن الحرب السورية منذ بدايتها مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار، بل فرضت واقعًا قاسيًا على كل من فيه، حيث لم يكن أمام أكثر من مليون سوري سوى اللجوء إلى هذا الجار الذي استقبلهم برغم ضيق مساحته ومحدودية موارده. لكن، مع مرور السنوات، بدأ الحمل يُثقل كاهل البنى التحتية، وشيئًا فشيئًا تحوّلت الضيافة إلى عبء، خصوصًا مع انفجار الأزمة الاقتصادية في 2019، التي حددت معالم واقع أكثر تعقيدًا يتشارك فيه النازحون والمواطنون المعاناة ويتصارعون فيه من أجل البقاء.
يحدثني عامر(اسم مستعار)، وهو باحث مستقل يعيش في لبنان منذ عام 2018، منتقدًا تجريد الدولة اللبنانية اللاجئين السوريين من إنسانيتهم للحصول على تمويل أو دعم دولي، ويعلّق: "أنا على يقين بأن لبنان بحاجة لمساعدة دولية، لكن ما أرفضه هو تسليعنا. في ظل عودة الملف السوري إلى واجهة الاهتمام الدولي، تنشط الحملات المعادية للاجئين والضغوط الأمنية لترحيلهم. هناك محاولة لاستغلال الوقت لتوجيه الأنظار نحو القضية، لا بدافع إنساني بل بدافع مادي وسياسي".
بعد سقوط نظام الأسد، أثارت الصور والشهادات المؤلمة من سجن صيدنايا تعاطف الكثيرين حول العالم، وبرغم انتشار صور "قيصر" وتوثيق مجزرة التضامن وغيرها قبل سقوط النظام بسنوات، ادّعى البعض أنه لم يكن على دراية بأن النظام كان بهذا البطش والقسوة.
لكن في السياق السوري ــــ اللبناني، غيّرت هذه المعطيات الجديدة من موقف بعض اللبنانيين تجاه السوريين في البلاد. وبحسب حنان (اسم مستعار)، أصبح هناك تفهّم أكبر للوجع السوري في لبنان، فحتى أشد الناس عنصرية وعداء تجاه السوريين أظهروا بعض اللين في مواقفهم.
لجأ السوريون إلى لبنان بحثًا عن الأمان في غالب الحالات، هاربين من قصف أو ملاحقات أمنية أو إبادة ممنهجة، وفي حالات قليلة، بحثًا عن فرص حياة أفضل. يوهمك لبنان في البداية بأنه أكثر أمانًا لك كسوري لمجرد أنك أصبحت أبعد بقليل عن القذائف وعن أفرع الأمن وأقبية السجون السورية. ويوهمك، بتعدد أحزابه وإعلامه الجريء، بأنك قادر على التعبير عن آرائك الصريحة بحرية وانتقاد من تشاء.
ومع ارتفاع سقف الحريات الفردية فيه نسبيًا مقارنة بسوريا، تبدأ بالحلم بنمط حياة من دون قيود على المظهر أو الحركة، وتتخيل أنه البلد الذي ستحقق فيه أحلامك الأكاديمية والمهنية من خلال جامعاته والمؤسسات الدولية فيه. ولكن، بعد فترة، توقظك من هذه الأوهام رنة هاتف أو إشعار على "فيسبوك" يخبرك بأنهم يلاحقون السوريين الآن، وذلك لترحيلهم إلى حفرة الموت التي هربوا منها.
بينما سارع البعض للعودة إلى سوريا إثر سقوط النظام، كان البعض الآخر قد بنى لنفسه حياة جديدة برغم الصعوبات في لبنان
منذ أكثر من عقد، يعبر لبنان طريقًا مليئًا بالأزمات لم يسلم أحد فيه من تداعياتها. لكن بالنسبة للسوريين، كان الثمن دائمًا مضاعفًا. كانوا يعيشون منذ بداية لجوئهم على حافة الهاوية، وحين ضربت الأزمات، كانوا أول من تعثر وسقط. وفي كل مرة يتزعزع فيها استقرار البلد، تشتدّ القيود حولهم.
لكن عام 2023 كان نقطة التحول الأكثر قسوة. فبعد مقتل سياسي لبناني واتهام سوريين بالجريمة، انفجرت موجة غضب عارمة لم تترك مجالًا للتمييز بين متهمٍ وبريء. وفجأة، أصبحت الحياة في لبنان شبه مستحيلة، ولم يعد بالإمكان التحرك وسط تصاعد العنف، وكأن المسافة بين الشعبين زادت برغم الجغرافيا التي تفترض قربهما.
هربت حنان مع عائلتها من مدينة حمص عام 2013 بسبب تعرّض منزلهم للقصف وملاحقة والدها أمنيًا من النظام السابق، ووصفت لي فترة إقامتها في لبنان بأنها "أجمل أيام حياتها وأسوأها في الوقت عينه". تحكي لي عن الأمان في لبنان بعد الحملات الأخيرة التي استمرت تداعياتها إلى اليوم، فتقول: "أذكر أني، في إحدى الزيارات إلى سوريا، شعرت بالأمان لمجرد أن الجميع من حولي يتحدثون باللهجة السورية. لم تكن اللهجة تشكّل خطرًا عليّ في أحد أخطر الأماكن في العالم. كنت أستطيع أن أرفع صوتي بلهجتي من دون خوف من الطرد أو التبليغ عني أو النظر إلي باستحقار".
ويشرح لي عامر، الذي هرب من مدينة السويداء بسبب الخدمة العسكرية والملاحقة الأمنية، كيف أصبح استخراج الإقامات أمرًا شبه مستحيل ومكلفًا جدًا. وحتى في حال الحصول عليها، لك تعد كافية لحماية الشخص. ويستشهد مع ضحكة ساخرة بتعليق السياسي اللبناني وئام وهاب: "إقامتك وصرمايتي سوا"، ويتابع: "لقد تعلمت خلال هذه الفترة كيف عليّ أن لا أكون سوريًا كي أنجو. فالسوري إلى اليوم هدف مشرّع للجميع، وأصبح هناك تطبيع مع أذيّته".
مع سقوط نظام الأسد، سقطت معظم الأسباب التي دفعت بالناس للخروج من البلاد بالأساس. ولكن بمرور السنوات في بلاد اللجوء، تغيّرت مشاعر الناس تجاه الوطن الأم وتغيّرت الظروف فيه. وبينما سارع البعض للعودة إلى سوريا، كان البعض الآخر قد استقر في عمل ومنزل وبنى لنفسه حياة جديدة برغم الصعوبات في لبنان. كما أصبحت سوريا بالنسبة لكثيرين غيرهم مكانًا غريبًا وغير آمن أو مهيّأ لاحتضناهم، خصوصًا المنتمين منهم بالنسبة الطائفية أو القومية كالعلويين والأكراد.
بالنسبة لعامر، مثلًا، الذي التقى بحب حياته في لبنان وتزوجها برغم اختلاف الطائفة والقومية (هو عربي، وهي كردية)، يؤمّن لبنان، برغم خطورته، مساحة أكثر أمانًا وتقبّلًا لهما من سوريا في الوقت الحالي.
لم تعد سوريا تعنيه كمكان، كما أن ذكرياته عنها بدأت بالاختفاء مع الوقت، والرابط الوحيد الباقي له مع بلاده هو عائلته. لذلك، يحاول أن يؤمّن سفر أفراد العائلة إليه ليقطع بذلك الحبل الأخير الذي يربطه ببلده الأم.
وفي حين لم تكن العودة إلى سوريا خيارًا مطروحًا أمام عامر، كانت زوجته لارا (اسم مستعار)، أكثر تفاؤلًا برغم الخطر المضاعف عليها لكونها كردية تنتمي إلى الطائفة العلوية، وكانت تحلم بالعودة يومًا ما إلى سوريا تشبهها وتحتوي الجميع من دون استثناء، وخالية من العنف على أي أساس كان. شاركت معي لارا مثلًا شعبيًا كرديًا يعبّر عن حالتها، وترجمته إلى العربية العامية قائلة: "عيوني تعبانين ونشفانين من الدموع، بس عندي أمل".
أما بحنان، فتشوّهت علاقتها مع سوريا منذ أن غادرتها مع بداية الحرب، ولم تُتح لها فرصة لتشكيل علاقة صحية معها أو الانتماء إليها لأنها تركتها في سن صغيرة. تقول إن الزيارات القليلة التي قامت بها إلى سوريا كانت تثقلها بالمشاعر السلبية والخوف، فتحتاج إلى أيام عدة لمعالجة مشاعرها بعد العودة إلى منزلها في لبنان. وبرغم أن والدتها لبنانية الجنسية، فهي لا تشعر بالانتماء إلى لبنان أيضًا. "من وقت وعيت بفتقد لشعور الوطن، وبعد ما سقط النظام حسيت لفترة إنه ممكن إنتمي لسوريا، بس بعد شهر حسيت إنه خيباتي زادوا وحدة، وصار لتغريبتي معنى جديد مؤلم أكتر"، تقول بحسرة.
في دول باردة وبعيدة عن أوطانهم، تٌتاح للاجئين السوريين فرصة لبداية جديدة من خلال سياسات اندماج تنتهجها دول أوروبية، برغم التضييق الحاصل في الآونة الأخيرة. أما في الدول العربية، فسياسات الاندماج غالبًا ما تكون محدودة مقارنة بأوروبا، حيث يتم التعامل مع اللاجئين غالبًا على أساس الإغاثة الإنسانية أكثر من الاندماج طويل الأمد. كما تتحكم في هذه السياسات الموارد الاقتصادية والأوضاع السياسية والبنية القانونية في كل دولة، فتُفرض قيود أحيانًا أكثر مما تتاح فرص.
أما السوريون في لبنان، حيث كانت القيود المفروضة على العمل والتعليم والسكن تعيق اندماجهم، فقد ابتكر كثير منهم حيلًا فردية لنيل القبول داخل المجتمع. يحكي لي عامر وحنان عن تعلّم اللهجة اللبنانية واستخدامها في الحياة اليومية كأداة مقاومة ونجاة واندماج في الوقت عينه، وكيف يسهّل المظهر الخارجي والخلفية الاجتماعية والثقافية من هذا الاندماج أو يعيقه. "صرت إحكي معن بقصص بتهمن هنن وإتعلم عنها، زحت الهم السوري على جنب"، يقول عامر.
بعد سنوات قضوها بحثًا عن أمان أو استقرار أو انتماء في لبنان أو سوريا، وفشلهم في تحقيق ذلك، يرغب جميع من تحدثت إليهم لدى إعداد هذا التقرير بالهجرة إلى أوروبا. تقول حنان في هذا الصدد: "بأوروبا فيه قوانين تسهّلي حياتي وتأمنلي استقرار. عندي كتير خطط أكاديمية وعملية ما قادرة إعملن لا بسوريا ولا لبنان. كمان صار عندي ماضي قاسي كتير بهالبلدين، ما عاد فيي كفي فيهم". أما عامر فلديه حلم خاص يرغب بتحقيقه في أوروبا إلى جانب الاستقرار: "بدي بس جرب قول "لا" بدون ما خاف".