من هو مهدي؟
ولماذا اخترتُ التفاح من بين جميع مسرّاته التي قد تبدو للقارئ للوهلة الأولى صغيرة؟
في صباح عام 1985 في مدينة حلب، في حي شعبي يسمى "حي الأشرفية"، نصب أبو عمار صاحب البقالية خيمة على الرصيف المقابل لمنزلنا، وعلّق على باب الخيمة قطعة كرتون كتب عليها بخط رديء "سينما".
لم يكن شباك التذاكر سوى كرسي قش يجلس عليه ابن البقال الذي سبق سنواتي الست بعامين وخبرة شارع. كان يقبض ثمنًا لدهشتنا من خارج باب الخيمة ربع ليرة، وإذا ما تورّطنا في الدهشة دفعنا الليرة غير معترضين على غياب الكراسي في ظلام ما أطلق عليه "سينما" كرمى لعيني جاكي شان، الذي كان يطل بشكل متقطع من تلفاز ماركة "سيرونيكس" موصول بحبل سري إلى جهاز فيديو قديم، فيما كنا نستثمر لحظات تشويش الفيلم بشهيق يعيد التوازن إلى أنفاسنا المقطوعة.
خارج الخيمة، كان يتربص بنا الابن الأكبر للبائع، وعلى عربة خشبية متعفنة كان يبيعنا التفاح المغلف بالسكر الملون. وبالطبع، كنا نشتري المتعة بطيب خاطر.
* * * *
على بعد سنوات، في الشهر الأخير من عام 2023، غادر مهدي بطيب خاطر خيمته في غزة. غاب قليلًا ثم عاد بكيس فيه ثلاث تفاحات لبناته الصغيرات، وعلى لوح خشبي تمدد على بلوكات حجرية عدة من الجانبين. جلس إلى جوارهن وأخرج تفاحاته التي حصل عليها بصعوبة لا يستطيع متابعُ نشرات الأخبار تسوّقها في مخيّلته.
لم يعد لائقًا أن أستخدم وصف "بطيب الخاطر"، فثمة شيء في وجه مهدي يدعو اللغة إلى السكون قليلًا، شيء ما في ملامحه يقول لها: "اركني جانبًا.. هذا الغزاوي لديه لغة لا يعرفها العالم.. فلنستمع". الأمر لم يعد طيب خاطر، بل استحال إلى أن يجعل من مهدي جبّار خواطرنا التي كُسرت خلف شاشات تعرض اليسير من وحشية القتل.
- مهدي: "يا هلا بالغوالي.. إيش أخباركو كيف إنتو انشالله بخير.. اليوم لقينا تفاح".
قبل سنوات، قضى مهدي حياته يزرع كل ما يصلح للزراعة، إلى أن تحوّلت حديقته الصغيرة إلى ما يشبه رحمًا للأرض. اشتغل على أن يجعل في متناول متابعيه على قناته على "يوتيوب" كل وسائل الزراعة البسيطة والمعقدة، علّمهم طرق غرس كل نبتة وتقليمها وسقايتها وتخصيب التربة وتكاثرها. طيلة سنوات، كان يلقب نفسه بـ"منشئ محتوى"، إلى أن جاءت الحرب وحولته إلى منشئ حياة، فبدا كما الأبطال في مشهد يزيح ستارة الحياة حتى أقصاها. وبابتسامة دافئة وبضع كلمات، يطمئن بها علينا جميعًا، يطل من خيمة مقدمة من منظمة الإغاثة مساحتها لا تتسع لشجرة غاردينيا صغيرة.
يسألنا عن أحوالنا، هل نحن بخير؟ يبتسم في وجوهنا داعيًا لنا بالأمان الذي يفتقده وعائلته.
- مهدي: "اعتقتهم لوجه الله وعلى الأغلب راحو، لا أعرف شيئًا عنهم".
كان هذا جوابه لمتابعيه الذين تساءلوا عمّا حل بمنزله وحديقته البديعة، بينما تنشغل يداه بإخراج المعجنات التي صنعها لأطفال غزة داخل فرن الطين الذي صار قطعة أثاث لا بد منها في خيام الغزاويين.
لقد كف الغزاويون عن طلب مساعدة جيرانهم، لقد قرأوا المشهد باكرًا
بعد ثلاثة أشهر من الحرب، استطاع مهدي الحصول على ثلاث تفاحات بسعر باهظ ربما يوازي سعر شجرة مثقلة بالثمار من أشجار حديقته.
بعد ثلاثة أشهر، لم تتقلص ابتسامته، لم يتجهم وجهه، لم يشتكِ، لم تنكسر نبرته المبهجة، لم يتوقف عن الاطمئنان علينا والدعاء لنا، لم يكف عن تعليمنا كيف نصنع فرن الطين، وكيف نعيد تدوير الأدوات المعدنية ليصير للكأس عشرون استخدامًا وللوعاء ثلاثون.
بعد ثلاثة أشهر، صرت أراقب الحناجر، جميعنا غصصنا في التفاح. توقفت كتلة ما في منتصف الحلق مثل حاجز يسد الهواء في دخوله، ويمنع الكلام في خروجه، فصرنا متفرجين بصمت إلى مهدي الذي حوّل خذلان هذا العالم بمشاهده القصيرة إلى لقطة صادقة لا يقدر على صناعتها مخرج عظيم أو كاتب عبقري أو منتج سخي. داخل خيمة مهدي تنمو قصة للمقاومة بسلاح لا يفهمه العدو، ولا يجرؤ عليه كثير من السياسيين، سلاح لا يخطئ الهدف، يصيبنا في المقتل فنصير غير قادرين لشدة المرارة على ابتلاع قضمة صغيرة، ولو كانت مغطسة بالسكر الملون.
* * * *
ما لذي فعله أبو عمار عام 1985؟
لقد نصب لنا فخًا عظيمًا. وضعنا جميعًا داخل مشهد مظلم، وجلس يراقب أفواهنا المفتوحة على الفراغ داخل خيمة لا تصلح لمهجّر من تحت ظل شجرة.
ما الذي فعله مهدي في عام 2023 وما سيأتي من تاريخ بعده؟
لقد ابتسم لنا بالنيابة عن الغزاويين الذين فقدوا كل شيء باستثناء قيمتهم، وأخبرنا بجمله الاطمئنانية عن السعر الذي سيدفعه العالم المتفرج لقاء تذاكر مشاهد الموت المتكررة.
* * * *
في غزة، يخرج عبود الصغير في بثّ مباشر كمراسل متمرس على معرفة نوع طائرات الحرب من أصوات اختراقها سماء مدينته، وعلى معرفة نوع الصاروخ وقدرته التدميرية. يخرج كما العشرات من أطفال غزة من تحت الردم ليبثوا خبرًا عن سقوط مبنى أو استشهاد عائلة، خاتمين بثّهم بابتسامة تحكي صورة الحرب كاملة.
لقد كف الغزاويون عن طلب مساعدة جيرانهم. لقد قرأوا المشهد باكرًا كما قاله الكاتب الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو: "في واحد من الأقطار البعيدة، كان هناك نعجة سوداء، أُعدمت رميًا بالرصاص، بعد قرن، أقام لها القطيع الذي ندم على فعلته تمثالًا راكبًا في الحديقة العامة، وعلى ذلك، ومنذ تلك اللحظة، كلما ظهرت نعجة سوداء، سرعان ما يُعمل فيها القتل، كي تتمكن الأجيال اللاحقة من التمرس في فنّ النتحت".