"خذني إلى المسرح"،
تبدو هذه الجملة التي أقولها لسائق التاكسي شبيهةً بأغنية كنت أدندنها في صغري، في زمن كانت فيه البلاد حاضرة، والأغنيات أقلّ وخزاً: "ردّني إلى بلادي".
"خذني إلى المسرح"،
ينظر إليّ السائق باستغراب، وأحدس أنّه يفكّر:
"مسرح في الحرب؟ عجيب!"
"ثمة ما هو أكثر عجباً"، أوشك أن أصحّح له: "حب في الحرب"، لكنّي أصمت.
يوقفني صوتكَ وهو يرّن في أذني مقرّعاً:
"أنتِ ثرثارة يا بنت، الحب ليس إخباراً."
أقول ربما، لكن تعثراته تهون بالإخبار.
(نقول للآخرين إنَّ جرحاً في جلدنا ينزّ، فننسى ألمنا خلال لحظات القصّ؛ اختزالٌ لا يمكن رفضه).
أتذكر طريقة العلاج بلسعات النحل: اجعل نحلة تلسعك عمداً لتحوّل إحساسك بالألم عن إصابة أكثر إيلاماً، تحايلْ على ألمٍ بألمٍ أقلّ.
(العسل حبكَ، فلنفترض، لكن اللسعات حصتي).
تقول جدتي في نوعٍ من المواساة: "خلّي العسل بجراور لتغلى أسعارو".
أوافقها مضطرة، حتى لا أكسر جرّتي وأهجرك.
هل خبأتَ عسلكَ لتزداد أسعاره بسخائي؟ لا أعتقد.. لكنها لقمة واحدة هي مفتاحُ النهم، وعلقت.
"ثرثارة"،
نعم، ربما، لكن كيف أستطيع ألا أخبر؟ وإذا لم أتحدث عنكَ، عمّ أتحدث؟ عن الحرب؟ عن الموت؟ عن الضجر؟
فلأجرّبْ.
محاولة1:
يبدأ سائق التاكسي الحديث بلا مقدمات.
في هذه البلد، ثمة دائماً مدخلٌ لإقحام الحرب في أكثر التفاصيل بُعداً عنها.
تقول امرأة لجارتها: "احترقت طبخة اليوم"، فترد الأخرى: "نعم، الحرب أحرقت كل شيء".
أو يقول رجلٌ لحبيبته: "سأترككِ"، فتهزُّ رأسها راضية: "لا بأس. الحرب علّمتنا أن نترك كل شيء".
يصبح المجاز في متناول الجميع.
الحرب استعارة خصبة وقياسها "ستاندرد".
من مجازه المختلَق يدخل السائق أيضاً:
يحدثني عن "الانتصار"، عن رعب الأعداء على الحدود، وعن الانتقام الذي يبدو أننا "أكلناه بارداً". ثم يلتفتُ إلى الخلف، من دون أن يقلَّ عرض ابتسامته "المنتصرة"، ليريني صورة ابنه الشهيد على هاتفه المحمول.
"نعم، انتصرنا"، أقول له مضطرة، "ولكن من يُرجع هؤلاء؟"
يجيب بثقة: "معليش، فِدا هالبلد، وفِدا إنو نثبت مين نحنا".
لا أعرف بالضبط عن أيّ "نحنا" يتحدث، لكني أهزّ رأسي لتحايلاته. هو أيضاً يجعل النحل يلسعه في رأسه ليخفّف ألم قلبه، ويُفتّت بالإِخبار الصخرة الرابضة على الصدر.
أهلاً يا زميل، سيقول عنكَ حبيبي: ثرثارٌ أيضاً.
محاولة 2:
أعرف امرأة خمسينية فاجأها الألزهايمر منذ أعوام، ليبدّل في رأسها قصة حربٍ بقصة حرب أقلّ فظاعة؛ نحلةٌ من نوع آخر لها شكلُ خلايا تموت.
أذكر أنها في نسختها المعدّلة عن الحرب كانت تحكي لي عن سجنها في تركيا، عن صوت القفل اليومي، والسجان اللطيف الذي يقول لها كل يوم: "صباح الخير".
بينما كانت النسخة الأكثر بساطة من القصة تحكي عن أمٍّ تقفل باب البيت على ابنتها التي سبقتها إلى الشيخوخة، وأبٍ يقول كل يوم للابنة التي لم تعد تعرفه: "صباح الخير".
الخير؟!
النحل وفيرٌ في هذا البلد، لا بدّ، وبالإمكان اصطياده بقليلٍ من التحايل. لكن البعض يحتاج أكثر من نحلة واحدة، وللآلام قياساتٌ ليست "ستاندرد".
"الشهدُ أطيب"، تقول جدتي لمن يريد أن يهديها عسلاً، وتعدّ في الخيال نحلاتها..
محاولة 3:
"شهد العسل، جاب العسل من وين"؟
نعم. ما دمنا لم نستقرّ بعد على معرفة من أين جاء الكون، يمكن إقحام سؤال فيروز هاهنا، والتسلّي ببساطته الظاهرية. سؤالٌ يشبهنا بطريقة ما، ويمكن توسيعه ليطال جميع الأشياء التي لا نعرف من أين جاءت: الحرب، المرض، الحب المباغت، والضجر.. الضجر على رأس القائمة.
خارج المحاولات:
"أنتِ ثرثارة يا بنت".
صرتُ هكذا، أعترف.
ويصحُّ أن أعاندك وأردّ: وأنتَ ثرثارٌ يا صبي. لكن المادة النازلة من اللسان تختلف:
أتحدث عن حبك على طريقة مجنون ليلى، تتحدث عنه كما لو كان تحالفاً بين حزبين، شروط وبنود ومصالح. حسنٌ، أقبل، شريطة أن يكون عدونا واحداً.
أتحدث عن النقص المؤرِّق الذي لا يمكن التحايل عليه، تتحدث عن سوء توزيع الثروات في العالم. مريع، أدري، لكن ماذا عن سوء توزيعك؟!
أتحدث عن المستقبل، تتحدث عن الماضي.
"مستقبلي ورائي"، تقول.
"آه فعلاً؟! إلى أين تسحبني إذاً؟"
تجيء موجة لتوقف السؤال.
فليكن.. خبأتُ عسلي لكَ، وسوف يكون لكَ. حتى لو اضطررتُ طوال الوقت أن أجعل النحل يلسعني في أنفي لألتهي عمّا تراه عيناي، أو في قلبي لألتهي عن عقلي، أو في الممكن لأنسى المستحيل، أو في الحب لأنسى النقص، تلك الفراغات التي تنزّ عميقاً، كما لو أنها من بنية النص الأصل؛ عهدكَ القديم الذي لم يعد يمكن تجديده.
تشتري حرباً بسلم لتصبح عاشقاً وتنسى الدمار حولك.. أو ليقال هو ذا العاشق السعيد، وسيلسعه النحل في أنف سعادته؛ أنفه الذي سيطول، أطول فأطول، ليبقى عاشقاً.
لماذا صار الكذبُ دثار الحب والبلدان؟ ربما لأنّ الحقيقة نحلة، عسلٌ وإبرة، يقول المثل.
وتقول شخصية في رواية: "أعسلٌ هذا أم سم؟"
إنه الحب، ببساطة.
يقف سائق التاكسي أمام المسرح، لا بدّ أن العرض بدأ منذ عشر دقائق.
لا بأس، البدايات متشابهة. النهايات هي ما نحاول تخمينه.
يعيد لي بقية النقود.
"أخذتَ أكثر مما يجب"، أجيبه كما لو كنتُ فعلاً أعرف كيف أدافع عن حقي. "اصبري"، يجيب
(خصصتُ مخزون صبري لكَ، لا مجال للتبذير).
"لم أنته من العدّ"، يتابع، "أنا والد شهيد، ولا آخذ إلا حقي".
حسنٌ. بهذا المقياس، كان على البلد أن تصير أنظف بمرّات: عدد الشهداء x ٢ (أم وأب لكل شهيد) = ثلاثة أرباع شعب نظيف.
حسبة جيدة، لكن تفاحة واحدة فاسدة أقوى من صندوق.
هل ترى أين أحاول أن أحبكَ؟!
كانت شاعرةٌ قد قالت مرّة: "مرعبٌ أن أحبكَ في مكان هشّ كالعالم"،
وقد تستفيق الآن لتقول نيابة عنّي: "مرعبٌ أن أحبك في هذا البلد".
لكن، لا. لن أقبل بلسعة النحلة المتحايلة هذه، فحبكَ مرعبٌ حتى في مدينة فاضلة.
أنزلُ من التاكسي...