في ربيع عام 2001، وقبل الموعد بشهرَين، تُقرّرُ الفتاةُ الامتناعَ عن التقدّم لامتحانات الشهادة الثانوية. ولأنها كانت من الأوائل طوال مسيرتها الدراسية، أحدثَ قرارُها زلزالًا في البيت وبلبلةً في المدرسة، وتوافدَ الأساتذة والأصحاب لإقناع المراهِقة بالـ "تَعَقُّل" والعدول عن قرارها. وكلّما زاد ضغطُ الأهل والمعلّمين، زادَ إصرار البنت على الاعتكاف. حتى أثارتْ شفقةَ المعارف وكَثُرَ الحديثُ بين الأقارب عن الطالبة المتفوّقة التي "خذلتْ" والديها، وتهامسَ البعضُ عن إصابتها بمرضٍ عصبيّ نادر!
كانت البنت خائفة، بلاشك. فامتحان المرحلة الثانوية في سوريا كان ومايزال كابوسًا مصيريًا للطالب وأسرته وعشيرته كلّها، عليه يقوم تقييمه العقلي والاجتماعي، ومن خلاله يتمّ التنبّؤ بمستقبله وحياته كلها. لكنّ الخوف لم يكن وحده السبب؛ البنتُ كانت تريدُ أن تكتب القصص! في تلك السنة، كتبتِ الفتاةُ ثلاثَ قصص قصيرة: "القبّعة"، "قطعة الشوكولا" و"زاد الحبّ"، لم تُنشَرْ قطّ.
في العام التالي، تقدّمتِ الفتاة إلى الامتحان وأحدثتْ في أسرتها خضّة أخرى عندما أعلنتْ أنها ستذهب إلى دمشق لتدرس الصحافة! الطالبة المتفوقة التي حازت على مجموع جيّدٍ جدًا في الفرع العلمي تُخالفُ الأعرافَ الاجتماعية وتقرّرُ تركَ أهلها ومدينتها الكبيرة لصالح تخصّصٍ أدبيّ لا يُعرَفُ له مهنةٌ لائقة! أحاديثُ البنتِ عن القراءة والكتابة والنشر لم تكن عَرَضيّة إذن! وشغفها بالكتب والمجلات وجمع المقالات منذ الصفّ العاشر لم يكن وَلَعًا فتيًّا عابرًا. وكما في كلّ الحكايات الجميلة، يبقى المُتَخيّلُ والمُشتهى أبهى من الحقيقة.
وسرعان ما يتكفّلُ الواقع بإحراج الأماني أو صدّها أو كسر خاطرها. على الرغم من كل شيء، تتمسّكُ الفتاةُ بأحلامها وتمضي. لا تنشرُ حرفًا طوال أعوام الدراسة الأربعة، وإن كانت لم تتوقف عن الكتابة يومًا. تكتبُ وتُخفي، تكتبُ وتُخفي، كما لو أنها تشهقُ وتزفر. تُنهي دراستها الجامعية، وتدخلُ سوقَ العمل بتوجّسٍ أكبر ورغبةٍ لم تفترْ لحظة وإن خبا صَخْبُها. لكنّ سنواتٍ قليلة لا تكفي إلا لبدايات وتجارب ساذجة بالكاد تتلمّس معالم الطريق. بعدَها، جاءتِ الحرب.
كما في كلّ الحكايات الجميلة، يبقى المُتَخيّلُ والمُشتهى أبهى من الحقيقة، وسرعان ما يتكفّلُ الواقع بإحراج الأماني أو صدّها أو كسر خاطرها
عند هذه النقطة، أستطيعُ أن أُكملَ النصّ باستخدام صيغة المتكلّم. فتلكَ الفتاة التي كنتُها تركتْني هنا تمامًا. تلك الفتاة، صاحبةُ اليقينيّات والقرارات والمواجهات الصعبة، افترقتْ عنّي. وصرتُ بعدها ابنة التردّد والخذلان والأحلام المنهوبة. فظروف الهروب والنزوح وتأمين الأساسيات لا تسمح بالحديث عن النشر أو الكتابة. وما كان "تَرَفًا" في أيام السِّلْم صار "كُفْرًا" أو "خَبَلًا" في زمن الحرب.
رحلتْ تلك الفتاة وأخذتْ معها الكتابة. خرجتُ من البلاد في هجرةٍ أولى إلى مُغتَرَبٍ لا يعترفُ بشهادتي ولا يعرفُ لغتي ولا يراني إلّا رقماً يضيفه إلى حصيلته من "القادمين الجُدد". وصلتُ إليه عزلاء، ضعيفة، لا ماضيَ مهنيًّا أتكئ عليه ولا تخصص أرجو منه مُستقبلاً. رحتُ أرقُبُ فوران بلادي بعقل متشظٍّ وقلبٍ واجف. وصارَ كلُّ حَدَثٍ يُملي عليّ قصّةً قصيرة قوامها الواقع والخيال والذكريات؛ أحداث تدمر، قصف حلب، اجتياح "داعش" لمدن الجزيرة السورية، عطشُ دمشق، تمزّق العائلات ومصائب الناس، الوداع والموت والخطف والدمار والضياع، ضياع كل شيء.... كانت تلك النصوص حيلتي الوحيدة أمام مأساة بلدي. أكتبها وأضعها في حسابي على "فيسبوك" بلا أي رجاء أو غاية سوى القول لنفسي إني على قيد الحياة. إلى أن بدأتْ تصلني الرسائل: أصدقاء وزملاء قدامى، أصحاب مواقع الكترونية ورؤساء تحرير صحف وكتّاب وأدباء، غرباء وعابرون ومجهولون يقولون لي: "انشري".
عندها، عرفتُ أنّ ما بين يديّ "كتابة"، وأن الكتابة قد عادتْ! وإن كان الاضطراب والإرهاق من طبيعة العلاقة معها، وإن كان العالم مازال ينكرها كمهنة ويفضّلها "هواية"، وإن كان الندم يمكرُ لي عند كلّ استعصاء أو خِصام أو لومٍ مجتمعي أو ضائقة مادية، إلا أن أسبابًا لا تحصى تُعيدني كلّ مرّة إلى الكتابة؛ ذكرى القصص الثلاث الأولى، ابتسامةٌ متأخّرة من والدَين أرضاهما أن تعرفَ ابنتهما ما تريد، كلمةُ تشجيع صادقة ممّن سبقوني على الطريق، رسالةٌ من قارئ يشكرني أو يمدحني. أما أهم تلك الأسباب وأوّلها هو الوفاء؛ أكتبُ اليوم وفاءً لتلك الفتاة، الحالِمة المُجازِفة التي لم تكن تسمع من ضجيج العالم إلّا صوتَها، والتي قالت "لا" في بيئة تُقَدّس الـ "نعم". الفتاة/الأنا قبلَ أن تخيفَها الأقاويل وتُحبِطَها الأيام وتعبث بها الحروب، الفتاة التي ما فتئتْ تطاردُ الكتابة، وما فتئتُ أنا أطاردهما معًا.