ما النِّسوية، وما الجندر؟

تحاول هذه المقالة التقرّب، بإيجاز شديد، من مفهومين، هما: النِّسوية، والجندر. فهذان المفهومان، بخلاف ما يبدو للوهلة الأولى، ليسا بديهيين أو واضحين بذاتهما، ولا هما محلّ اتفاق عام حتى بين النسويين أنفسهم، بل خصوصاً بين النسويين أنفسهم.

ما النِّسوية؟

يمكن فهم النِّسوية على أنّها نظريّة وحركة اجتماعية تتبادلان التأثير واحدتهما في الأخرى وتُعنيان كلتاهما بازدهار النساء وتحررهن. فالنِّسوية، بمعنى الحركة الاجتماعية، هي ظاهرة اجتماعية تاريخية، إذ حيثما كانت الأوضاع الاجتماعية قامعة للنساء، ولطالما كانت كذلك بالطبع، كان ثمة أيضاً ميول بين النساء للمقاومة، بل ومحاولات لإعادة بناء العالم على نحو مغاير. تصاعدت هذه الميول، في بعض الأزمنة والأمكنة، لتنضوي في حركات، أي في نسق من الأفعال والممارسات الواعية التي تنظر إلى نفسها على أنها قوة موجَّهة لنقد تلك الأوضاع الاجتماعية وتغييرها.

أمّا النِّسوية، بمعنى النظرية، فهي منظومات من المفاهيم والافتراضات والتحليلات التي تصف أوضاع النساء وتجاربهن وتقف على أسبابها وتقدّم رؤى ووجهات نظر تتعلق بكيفية تحسين هذه الأوضاع أو تغييرها. ومن الممكن الكلام على نسويات أو نظريات نسوية كثيرة، فهناك من هذه النظريات ما يتجاوز في عدده عدد التيارات الفكرية والسياسية والنقدية التي ترتكز إليها هذه النظريات (كالليبرالية، والماركسية، والوجودية، والماركسية الوجودية، والتحليل النفسي، والماركسية الفرويدية، والبنيوية، والماركسية البنيوية، والتفكيك، والتفكيك الماركسي، والمثلية، وما بعد الكولونيالية...). هذا ما شكك بعض النسويين أنفسهم في السنوات الأخيرة بإمكان الكلام على مصطلح محدد ومتسق هو النِّسوية، ذلك أنَّ تعدد هذه النظريات يخلق انطباعاً مفاده ألّا سبيل إلى وضع اليد على مبدأ أو منهج أو رؤية تشترك بها هذه النظريات جميعاً.

وبالمقابل، فثمة من يقارب الأمر بطريقة ترى أن من غير الضروري أن نحدد مذهباً مشتركاً بين النسويات المختلفة، أو أن نحاول إيجاد مصطلحات لها المعاني ذاتها لديها جميعاً. إذ يمكن للمرء أن يتكلم من داخل منطق نسوية معينة ثم يرصد، من هناك، أبعاد الائتلاف والاختلاف مع النسويات الأخرى، لا سيما أنَّ الحوار المتبادل بينها جميعاً كان له إلى الآن فوائد جمّة، برغم الاختلاف الجذري الشديد في بعض الأحيان. ما يمكن أن نلاحظه لدى القيام بمثل هذا الإجراء هو أنَّ نوعاً من الاتفاق بين جميع النسويات على أنَّ ثمة ضروباً منتظمة من الظلم وعدم المساواة، عبر التاريخ ولدى جميع الثقافات، تخضع لها النساء، وذلك برغم اختلاف الأسماء والمصطلحات التي تطلق على هذا النوع من اللامساواة (سيطرة الرجال، اللامساواة القائمة على الهوية الجنسية، التمييز الجنسي، الاضطهاد الجنسي، كراهية النساء المنظمة، تشكيل النساء كطبقة مستغلَّة، البطريركية بوصفها ديانة كونية...).

ما الجندر؟

تُقيم النسوية وعيَها، كنظرية، وتدخّلَها، كحركة وسياسة، على تفرقةٍ جذريةٍ بين الأُنثى والأُنوثة. ففي حين تشير الكلمة الأولى إلى العناصر البيولوجية الطبيعية البحتة، فإنّ الكلمة الثانية تشير إلى مجموعة من الصفات التي يُنْظَر إليها على أنّها مطابقةٌ للنساء. وتتّسم كلمة "يُنْظَر" هنا بأهمية بالغة، إذْ تدلّ على الناظر أولاً وأساساً قبل أن تدلّ على المنظور إليه. وما يعنيه هذا هو أنّ الأنوثة تشير إلى مجموعة الصفات المحددّة ثقافيّاً واجتماعيّاً وتاريخيّاً، والتي يُفْتَرَض وجودُها لدى الإناث ككلّ أو يُفْرَض وجودُها عليهنّ، كما لو أنّها الجوهر الطبيعيّ الذي يجعل الواحدةَ منهنّ "امرأةً" ويَجعل جَمْعَهنّ "نساء". حين يُقال مثلاً إنّ المرأة رقيقة، وعذبة، ولطيفة بطبيعتها؛ وحين يُقال إنّ النساء أدنى من الرجال بطبيعتهنّ، وإنّ من المُقدَّر لهنّ من ثمّ أن يَقُمْن بأدوار مختلفة عن أدوارهم وأدنى منها؛ وحين يُقال إنّ من المفتَرض بالصبيّ أن يغدو راشداً يخوض في المجال العامّ ويكْسب منه العيشَ، وإنّ من المفترض بالبنت أن تغدو زوجةً وأمّاً صالحةً حبيسةَ المجال الخاصّ... حين يُقال كلُّ هذا وسواه ممّا يماثله، فإنّنا لا نكون إزاء حقائق مُطلقة بل إزاء ما تفعله الثقافةُ بالجنس، وإزاء تحويل الثقافة للأطفال الذكور والإناث إلى الرجال والنساء البالغين الذين نعرفهم.

مشكلة النساء العربيّات والمسلمات ليست أساساً مع المصادر المقدسة بل مع تأويلات اجتماعية وتاريخية لها

هكذا تبيّن النسوية إذاً أنّ الثقافة والمجتمع البطريركيّيْن يطابقان بين الأنثى والأنوثة (أو بين "الأنثى" و"المرأة")، فيحيلان ما هو اجتماعيّ وثقافيّ وتاريخيّ على ما هو بيولوجيّ وطبيعيّ، وما هو نسبيّ ومتغيِّر ومبنيٌّ على ما هو مُطْلق وثابت ومقدّس وغير تاريخيّ. فالصراع الذي تخوضه النسوية ضدّ المجتمع البطريركيّ يدور أساساً على نفي أن تكون الأنوثةُ جوهراً بيولوجيّاً أو طبيعيّاً، وعلى نقضِ محاولة هذا المجتمع أن يطابق بين الأنوثة والأنثى. ولا يغيِّر من هذا الأمر وجودُ بعض النَّسويات اللواتي يريْن أنّ السمات البدنية الفريدة لدى الإناث وما يتمتّعن به من قدرة على الحمْل ورعايةِ الأطفال تَجْعل منهنّ جنساً أرقى وأشدّ تفوقاً من الذكور، وهو ما يضعنا إزاء وجهة النظر البطريركيّة ذاتها ولكنْ مقلوبةً!

في سياق الخلاف بين النسوية والمجتمع البطريركيّ على نفي الجوهر البيولوجيّ للمرأة، وسياق الخلافِ بين النسويّين أنفسهم على المدى الذي يَنْبغي أن يَصِلَه نفيُ جوهرها الثقافيّ، وُلِدَ مصطلحُ الجندر (Gender) ليشكِّل أداةً مفهوميةً بالغةَ الشأن، وليكون في الوقت ذاته مرآةً يَنْعكسُ فيها لا الواقعُ الاجتماعيُّ والثقافيُّ فحسب، وإنّما هذان الخلافان الكبيران أيضاً. فالنسوية كانت بحاجة إلى مفهوم يُميّز بين الجنس (Sex)، الذي يشير إلى البيولوجيا ويَقْسم البشرَ إلى ذكورٍ وإناث، وبين البناءات الاجتماعية والثقافية والنفسية المفروضة على هذا الاختلاف الجنسيّ البيولوجيّ والتي أُطْلِقَ عليها مصطلحُ الجندر.

وبعبارة مقتضبة، فإنَّ مفهومَ الجندر يشير إلى ما تفعله الثقافة والمجتمعُ بالجنس، إذْ يصوغانه ويشكِّلانه أو يبنيانه. لعلّه غدا واضحاً أنّ مفهوم الجندر، بإشارته إلى الصياغة الثقافية للجنسيْن والعلاقة بينهما، إنّما يشير إلى عدم إمكانية دراسة أحدهما من دون الآخر. وبذلك يكون الحديثُ عن الجندر بحثاً في دلالات الذكورة والأنوثة معاً، وكلاماً عن المرأة والرجل سواءً بسواء، وما يرتبط بالتشكيل الثقافيّ لهوية الجنسيْن من أيديولوجيا وهيمنة تراتبية. وبذلك يكون الجندر ضرباً من الكَشْف عن أنّ الرجل أيضاً هو ضحية مجتمع يكبِّله بتعريفاته الخاصة للذكورة مثلما يُكبِّل النساءَ أيضاً بتعريفاته الخاصة للأنوثة. فهذا المفهوم هو بمثابة تفكيك للتقابل الثنائيّ الضدّي (رجل/ امرأة أو ذكورة/ أنوثة) يَكْشف عن الكيفية التي تَسْتبطن فيها الإناثُ أدوارهنَّ الجندرية، ويُمأْسِسُ فيها الرجالُ هذه الأدوار على نحو يبني آخريّة المرأة وخضوعها للرجل. كما يَكْشف أيضاً أنّ الرجل لا يستطيع أن يتحدّد بوصفه رجلاً إلاّ من خلال مُقابلِهِ أي المرأة، التي يضعها قبالتَه على أنّها "آخرُ" الرجلِ أو لا رجل، ولا يستطيع أن يخصّ نفسَه بقيمة إيجابية إن لم يَخصَّها هي بقيمة سلبيةٍ تماماً. وبذلك لا تكون المرأةُ مجرَّد آخر، بل هي آخر متعلِّقٌ بالرجل صميميّاً بوصفها الصورة لما ليس هو.

هكذا يحتاج الرجلُ إلى هذا الآخر حتى وهو يُقصيه، ويضطرّ لأن يَمْنح هويّةً إيجابيّةً ما يَعْتبره بمثابة اللاشيء. يغيّر مفهوم الجندر في المعرفة ذاتها وفي طرائقها ومنظوراتها. فهو إذ يَرتبط بالثقافة والمؤسسات الاجتماعية إنّما يتّصف بالشمول الذي يقتضي طرحَ أسئلة جديدة تَطول إعادةَ تقويم الأدوار الاجتماعية، وبنية العائلة والنماذج الموروثة، وعلم النفس الفرديّ، وأخلاق الجماعة، وحيوات البشر اليوميّة... كما يَقْتضي إعادةَ تفحّص المصادر التي يقوم عليها ما جرى من بحث في كلّ هذه الأمور على ضوء الانتباه المستجدّ الذي يَدْفع إليه ذلك المفهومُ بإشارته إلى مصادر جديدة.

ولتوضيح هذا الأمر، فإنَّني سألجأ إلى مثال واحد فحسب. لقد رسَخَ في الأذهان أنّ مواقفَ الرجال من النساء في ثقافتنا العربية والإسلامية السائدة تسير على هدي من الشريعة. وهذه نظرة لا تَقْتصر على المستشرقين الذين يروْن أنّ الدين الإسلاميّ هو سبب اضطهاد المرأة، بل يشاطرهم إيّاها الإسلاميّون الذين يروْن أنّ وضع المرأة يجب أن يتحدّد تبعاً لهذا الدين نفسه، كما يشاطرهم إيّاها أولئك الإصلاحيّون والراديكاليّون الذين يروْن أنّ المشكلة تكمن في النصوص ذاتها. بيد أنَّ تفحصّ هذه المقاربة على ضوء مفهوم الجندر كفيل بأن يَكْشف عن أنّها تَفْصل مواقفَ الرجال هذه عن أيّ نوع من السياق الاجتماعيّ والثقافيّ الفعليّ، جاعلةً من النصوص والشريعة مبتدأ التناول ومنتهاه. فهي تُهْمِل كلَّ اختلاف مناطقيّ أو اجتماعيّ أو ثقافيّ أو تاريخيّ بين البشر، بخلاف التحليل الجندري الذي يَطْرح على مثل هذا المنطق سؤاله الخطير: هل يُمكن للشريعة أن توجَد وجوداً فعليّاً خارج تأويلاتها المختلفة التي هي ما يُطبّق فعليّاً؟ وهذا يعني أنه لا يكفي تحليلُ وضع النساء بالعودةِ إلى المصادر المقدّسة وحدها؛ فمشكلة النساء العربيّات والمسلمات ليست أساساً مع هذه المصادر بل مع تأويلات اجتماعية وتاريخية لها، أو أنَّ المشكلة مع هذه المصادر التي تتجلّى في تأويلات اجتماعيّة وتاريخيّة.

وبذلك يكون على التحليل الجندري إذا ما أراد أن يَكْتب تاريخَ اضطهاد النساء العربيّات والمسلمات ألاّ يَكْتفي بعبارات عامة مثل "أنَّ الدين هو الذي يَصُوغ وضعَ النساء" بل عليه أن يعودَ أيضاً إلى مصادر أخرى كثيرة: كوثائق الزواج والطلاق والميلاد وسواها من الوثائق والسجلات القانونية، وكتب التاريخ والجغرافيا والرحلات، والحكايات الشعبية والتواريخ الشفهية، والفنِّ، والأدلّةِ الأثرية، والأدبِ... غايةُ القول إنَّ مفهوم الجندر، برغم الإشكالات التي تكتنفه والخلافات التي تحيط به، إنّما يُشكّل أداةً تحليليةً مزدوجةَ الحدِّ. فهو لا يكتفي بانتقاد المؤسسات والقيم والمعارف السائدة فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى إلهامِ معرفة جديدة وطرائق جديدة في التوصّل إليها. وهو لا يَكتفي بتحدّي الفروض الثقافية والمعرفية الذكورية وكَشْف تحيّزها، بل يَسمُ أيضاً ضَرْباً من الاستراتيجية السياسية والمعرفية الجديدة التي تُعيد التفكيرَ بالمعنى والقيمة الإنسانييْن كما يتجلّيان في مستويات المجتمع ككلّ وفي فروعه المعرفيّة جميعاً. 


صورة الغلاف من أعمال الفنانة الإيرانية شيرين نشاط 

السوريون: شعبٌ مذبوح أم مكوّنات محرومة من هوياتها؟

من قمعوا الشعب السوري ونهبوه كانوا حريصين على دفع هذا الشعب بالاتجاه الهوياتي المكوّناتي الطائفي، ما..

ثائر ديب
ميلان كونديرا: عن عنصريٍّ مبتذَل وفرائِسِهِ الفَرِحَة

غادر كونديرا الستالينية بعد إنهاء القوات السوفييتية في عام 1968 "ربيع براغ"، تلك الحركة من داخل الشيوعية..

ثائر ديب
شغّيلٌ من أرضِ عاملةٍ: في خطر غياب أمثال حبيب صادق

لعلّه لم يعد هناك كثيرون مثل حبيب صادق، لا بدَّ أن نعترف. بل إنّ أمثاله سوف يتلاشون إذا ما واصلت..

ثائر ديب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة