معاركُ صغيرة خارج النّص وخارج التصنيفات

كيف مرّت تلك الأيام بحساب زمنٍ تقليدي؟ كيف تتسع ساعات اليوم الأربع والعشرون لكلّ تلك الحياة؟ وكيف كنتِ وسط كل هذا، تنتكسين أمام تلك الخيبات الصغيرة التي كانت تؤلمك؟

تجلس الفتاتان متقابلتين، يفصل بينهما الزمن. ثمّة حوارٌ مؤجّل بينهما تأخّر عشرين عاماً أو أكثر.

الزمن أداة القوة في ملعب صاحبة السن الأكبر، التي تبادر نحو محاورتها: كنتُ صغيرة، فتاةً جامعيةً أحلامها أقوى من مساحة هذا الوطن، أحلامها في السياسة والحب والعمل والشقاوة.

كيف امتدت نهاراتك أطول من ساعاتها؟ كيف كنت تلتهمين الوقت؟ محاضراتٌ في الجامعة، ندوات، اجتماعات، مخيمات، تنظيم رحلات، سهرات، ساعات في المسرح وفي السينما، نزهات عند الكورنيش، مواعيد مع الأصدقاء في مقاهي بيروت ونقاشات تحتدّ وتهدأ، امتحاناتُ الجامعة، تفوّقٌ في الدراسة، عمل في الصحف المهمة، تدريبات في تلفزيونات، ثم تظاهرات ولقاءات وتكوين وحدات شبابية مستقلة، وطبع مجلة مطلبية، ومواجهات، وسهرات تنتهي مع طلوع الصباح، ولقاءات مع الأصدقاء من كل الوطن العربي.

كيف مرّت تلك الأيام بحساب زمنٍ تقليدي؟ كيف تتسع ساعات اليوم الأربع والعشرون لكلّ تلك الحياة؟ وكيف كنتِ وسط كل هذا، تنتكسين أمام تلك الخيبات الصغيرة التي كانت تؤلمك؟ "لم تكن تلك الخيبات صغيرة"، سترد الشابة قبل عشرين عاماً، "كانت حوادث مؤلمة، ولا داعي لاستنفار سيف الزمن وتجاربه المتراكمة. لنرمِ عقد التفوق جانباً، لقد كانت خيبات مؤلمة".

يحتدم الحوار بين الفتاتين اللتين يفصل بينهما زمنٌ عمره عشرون عاماً أو أكثر. تستعيد الأكبر سناً المبادرة. ستقول لمحاورتها: أذكرك تبكين في المساء، بعيداً عن العيون، يوم قال لك مدير التحرير إنك ممنوعة من تغطية الأخبار في القصر الحكومي، لأنك شاركت دائماً في تظاهراتٍ ضد رئيس الحكومة العتيد. تذكرين ابتسامته الساخرة ونظرة الاستعلاء، وهو يختم "هذه المواجهات تصلح للرجال أكثر". يومها كنت تحلمين بتوجيه صفعة له. كنت وحيدة أمام جبّارين يملكان الكثير من السلطة والمال، وهذا ما تكرهينه. ثم جاء يومٌ آخر، ذلك الصباح حين كان اسمك سيحلّ للمرة الأولى على الصفحة الأولى، وصلتِ إلى المكتبة قبل صاحبها، انتظرته عند الباب، ولما ناولك الجريدة، لم يكن اسمك موجوداً في ذلك العدد أصلاً. بعد ساعات في الجريدة، اكتشفت أن موضوعك تم تأجيله لصالح تحقيقٍ عن سباق حيوانات أعدته زميلة، تطوّر أفكارها بالنقاش مع سكرتير التحرير، جالسةً أمامه على طاولة مكتبه بتنورتها القصيرة. كنت واثقة أنك لن تخوضي تلك الحرب بالأدوات نفسها، يومها اختلطت الهزيمة بالنصر داخلك؛ لن يجرّك أحد إلى ملعبه. في ذلك المساء، اكتشفتِ وصفتك السحرية ضد الشعور بالاختناق. أدرتِ محرك السيارة لتسير بك في الطريق الساحلية من بيروت إلى جبيل، يصدح من مذياعها صوت أم كلثوم كمرهمٍ يبلسم جرحك. ومنذ ذلك التاريخ لم تتخلّي، أياً كان الوجع، عن هذا الدواء.

أذكرك تحاربين رغبةً داخلية بالصراخ في وجه الجميع، جميع من حاولوا كسر صورتك الخارجة عن نماذج يرتاح لها الممسكون بالسلطة

ثم رمتك الأيام بحقلٍ مزروعٍ بالمواجهات. تقرّب منك زملاء وكالوا المدائح، ولما رفضتِ مسايرتهم صرت بالنسبة لهم كالأعداء، وحاولوا التجريح بك. جاء من يقول لك مجدداً إن الساحة لا تتسع لأنثى تحمل موقفاً سياسياً مناقضاً لأصحاب رأس المال، ولا يتسع لأنثى لا تعرف مسايرة مديرها، ولا يتسع لأنثى ثائرة إن لم تكن "حَسن صبي"، ولا يتسع لأنثى طموحة إن لم تردد كالببغاء أقوال أصحاب الحلّ والربط في المؤسسة. كان مدير التحرير يشطب كلمة "عروبة" من مقالاتك، والناقد السينمائي يشطب اسمك من سجل كتاب صفحاته، ورئيس مجلس الإدارة يرميك بمهام تحرير صفحات لا سياسة فيها ولا ثقافة ولا علوم، وكان عليك أن تخوضي هذه المواجهة، لا من باب التحدي لهم، بل من باب الرضا عن الذات.

أذكرك تشعرين بالاختناق كل يوم، أذكرك تحاربين رغبةً داخلية بالصراخ في وجه الجميع، جميع من حاولوا كسر صورتك الخارجة عن نماذج يرتاح لها الممسكون بالسلطة. كما كنت تصرخين في التظاهرات دفاعاً عن النقابات القديمة، وسكان الأحياء الفقيرة، ووجه فلسطين والعالم العربي خارج التسويات. كنت تمشين بعنادك الموصوف في طريق رسمتها لنفسك، تتعثرين قليلاً وتكملين السير، وعيونك شاخصة نحو الضوء المشعّ في سماءٍ لم تكن يوماً بعيدة. تتقدمين وفي ذهنك صوت المغني الفرنسي يردد بإيقاع سريع: "لا ننسى أبداً... إننا نراكم".

بعد عشرين عاماً أو أكثر، سقطَت من الحوار الكثير من التفاصيل. الفتاتان لا تجلسان متقابلتين، ولا متجاورتين، فالزمن لا يهدينا مقعداً نستريح عنده على الكورنيش قبالة البحر، إنه كنهر غدار يسير بسرعةٍ تقطع الأنفاس.

أنظر إلى الخلف عشرين عاماً. لم تعد تلك الخيبات الصغيرة مؤلمة، أعرف أنها كانت محاولات معارك تافهة. أدرك اليوم أن المسايرة هي الاسم الحركي لتنازلاتٍ كبيرة. أضحك ساخرة لدى قراءتي أو مشاهدتي أصحاب وصاحبات التجارب المعلّبة وهم يرمون الجمهور بخطاباتٍ "نسويّة"، كذبهم لم يعد يزعجني، وأصواتهم انخفضت من محيطي. أحمل داخلي تلك الفتاة التي كبرت خلال عشرين عاماً أو أكثر، لتدرك أن الثبات خارج التصنيفات المغشوشة أفضل نصيرٍ للأنثى. 


بؤساء فرنسا الجدد... العشب القاحل للصراع طبقي

على مدى السنوات العشرين الماضية، كان سياق العنف من قبل الجهات الأمنية والاقتصادية يزداد سوءًا ضد فقراء..

بيسان طي
قضية اللاجئين السوريين في لبنان: تأملات في مساوئ خطاب الحب والكراهية

يريد الخطاب الكاره إعادة اللاجئين السوريين الى بلادهم بأي طريقة، الحجة الأكثر تداولاً هي أن ثمة مناطق..

بيسان طي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة