منتصفَ التسعينيات، مدينةُ جونية كانت في حيرة من أمرها. فهي من جهة تغرق في "إحباطها المسيحيّ"، وفي الوقت عينه تشارك بكثافة في مهرجانات الانتخابات النيابية والبلدية، بعد التّوبة عن مقاطعة الانتخابات التي تبِعت الحرب الأهليّة. وأين الإحباط من المهرجانات! أما أهلها فساخطون على رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري إذ يرَونه يسرق "الدور المسيحي" عبر الارتماء في أحضان رئيس الأم الحنون فرنسا في شوارع بيروت، في الوقت عينه الذي فيه ينعمون بتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، وتحسّن قدراتهم الشرائية، وفوائد مصرفية وعقارات لا ينضب خيرها، وMall جديد يُبنى على حائط Mall قديم، ونهار للاستهلاك فيما الليل مش للنوم، أصله الليل للسهر. كلّ ذلك ولبنان قاب قوسين من ربيعه الموعود، بينما سنوات المراهقة تتحكم بحواسي، وكلّ اجتهادي ينصبّ على اختصار هذه المرحلة الانتقالية الفاصلة عن الرجولة. كيف تصبح رجلاً في أسرع وقت؟ إجابتان تمكّنت منهما: إشعال سيجارة، وقراءة كتب عن الحرب الاهلية من مكتبة الوالد، وعن بطولات أمرائها الذين "دوخوا" العالم الذي يدور برمّته حول دهائهم. في الوقت الذي كان فيه البالغون يهربون من ذاكرتهم المضرجة بالدماء من خلال أنماط من الاستهلاك والترف، تشبه ما يشاهدونه في أفلام الغرب، كانت الحربُ أكثر إغراء لمراهق يقرأ بين صفحات الكتب أن الباشا فعلاً باشا. بعد أكثر من عقدين من الزمن، لا تزال آفتا التدخين وكتب الحرب حاضرتين في معاناتي اليومية، تماماً كآفتي هروب البالغين من الحرب وهروب سائر المراهقين نحوها. يريد أهل السلطة أن نقتنع بأن الحرب لم تنته، إذ إن الدماء حاضرة في الذاكرة عقاباً لكلّ خروج عن الطاعة باسم مستقبل آخر مختلف. وكثيرة هي دلالاتهم على استمرار روحيّة الحرب في آليات حكم أمرائها للسلم. من نأي كلّ واحد منهم بنفسه عن أي محاسبة، إلى تزعّم مناطق جغرافية وإدارتها عوضاً عن الدولة، إلى احتلالهم مرافق الدولة ومؤسساتها وسرقتهم وظائفها، إلى التذكير بحضورهم المسلّح عند كل حاجة. لكن على الرغم من استدلالاتهم كلّها، لا يهدّد بالحرب من هو قادر عليها. ليس من أولئك العاجزين وهم في السلطة مصدرُ الخطر من تجدّد الحرب. فمن جهتهم، بلى، الحرب انتهت. فغياب السلطة التي نريد لا تعني غياباً للسلطة، وغياب صورة الدولة التي نتخيل لا يعني غياباً للدولة، وكذلك غياب السّلم الذي نستحق لا يعني غياباً للسلم بالمطلق. الخوف فقط من نتائج الحرب فينا نحن. الخوف من نتائجها على تعريف السياسة في أذهاننا، كما لو كانت حقاً تُختزل بالصراع المجرّد على السلطة، بعيداً عن مصالح الناس والمجتمع، وكذلك من اقتناعنا بعدم قدرتنا على التحكم بمصائرنا، وبأن مصائبنا كلّها من الخارج، وبأن لا حول لنا ولا قوة إلا على واحد آخرَ منا. الخوف من نتائج الحرب على سلّم قيمنا، حيث لا حقّ إلا للقوة، ظالمة كانت أم مظلومة، ولا انحناء إلا أمام جامع المال، أكان مصدرُ جمعه بغاء أم بلاغة، ولا حقّ للفرد ولا كرامة تجاه سلطته، بل حقوقٌ وكرامةٌ جماعيةٌ تأكل من ناسِها لتدوس على أي آخر بانتظار الرد. الخوف من نتائج الحرب على سلوكياتنا وتوزّعنا بين بالغ يهرب من الحرب عبر الغرق في الملذات الآنية من ملهى ومقهى، ومراهق لا يرى في البلوغ إلا شبقاً لدورة دماء جديدة. من دروس التوقف عن التدخين درسٌ مفاده أن المشكلة ليست بالسجائر، بل في ما يستدعي الإدمان في نفس المدخّن. لقد أصبحتُ رجلاً فعلاً، وحان الوقت للتوقف عن السعي وراء الرجولة. والحرب انتهت فعلاً، وحان الوقت للتوقف عن الهروب منها بما يدفعنا إليها.
من ملف "لبنان: حربٌ لم تنته"