مفارقات جابر عصفور
يستعيد جابر عصفور رؤية الشيخ محمد عبده إلى التعليم، ويراهن عليها كاستراتيجية للتغيير. وإذ يبدو ذلك غريبًا في عصر تدهور فيه التعليم العربي والأكاديميا العربية، فإننا نكون أمام مفارقة أخرى من مفارقات جابر عصفور.
يستعيد جابر عصفور رؤية الشيخ محمد عبده إلى التعليم، ويراهن عليها كاستراتيجية للتغيير. وإذ يبدو ذلك غريبًا في عصر تدهور فيه التعليم العربي والأكاديميا العربية، فإننا نكون أمام مفارقة أخرى من مفارقات جابر عصفور.
(1)
مُتَبَحِّرٌ، مُنْغَمِسٌ في الحداثة، متضلّعٌ من آخر المناهج النقدية والاختراقات النظرية التي يطلع بها الفكر العالمي. ومع ذلك، فإنَّ موضوع كتابته الغالب هو قديمنا، من الصورة الفنية ومفهوم الشعر عند النقّاد القدماء، إلى استعادة الماضي ومرايا طه حسين المتجاورة. تلك مفارقة أولى من مفارقات جابر عصفور. أم أنها مفارقةُ واقعنا في حقيقة الأمر؟
ينظر الناقد والمفكّر الغربي، بل الإنسان الغربي عمومًا، إلى الوراء، فيجد أن هويته قد تغيرت كثيرًا، وأن المسافة قد شطّت به عن الماضي، وأن هذا الأخير لم يعد ينيخ بجثته على كاهله، فلا يكاد يعود إليه إلاّ ليختبر فعالية مناهج الحاضر وأدواته في تفحّص الظواهر، قديمها وحديثها، بعيدًا عن ذلك التمزق بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة، بين القديم والجديد، إلى آخر هذه الثنائيات التي نعيش فيها فصامنا ومأزقنا.
ينظر المفكّر والناقد العربي المعاصر إلى الوراء فيجده بقربه، وربما أمامه، يلقي بظلاله على الحاضر والمستقبل، فلا يعود إليه ليتفحّص فعالية أدواته ومناهجه في استكناه الظواهر وفهمها، بقدر ما يستخدم هذه الأدوات لإزاحة ثقل الأموات عن كاهل الأحياء كيما يتاح لهؤلاء أن يتنفّسوا ويحيوا. تلك مفارقة أولى من مفارقات واقعنا، لعلّ قلّة فحسب من مفكرينا المعاصرين هي التي تصدّت لها بتلك الجرأة والشجاعة التي أبداها جابر عصفور، وبذلك الإصرار على عدم المساومة ــــ وهو يزيل الثّقل الميت ــــ في التأكيد على أهمية جلاء عدّة الحاضر النظرية إذ تواجه الماضي ويكون عليها أن تثبت نجاعتها، ومن ورائها نجاعة الحاضر والمستقبل.
ليس المفكّر ولا موضوعه محلّ المفارقة الفعلي إذًا، بل الحاضر الذي تترجرج جثّة الماضي فوق كتفيه وهو يعدو هنا وهناك، دون أن يجد مثوى يواريها فيه، فيبدو كمن أصابته اللوثة. وفي تشريح هذه الجثّة، في القول إنّها حيّة أم ميتة، في التأكيد على نفيها بغية إثباتها أم في التأكيد عليها لنفي الحاضر والمستقبل، في كلّ ذلك تتفاوت أوزان المفكّرين العرب ومآلات نتاجهم. وفي كلّ ذلك يعلو وزن جابر عصفور وترجح كفّته، ربما أكثر مما يعلم هو نفسه.
أذكر مرة، أنه أشار إلى أهمية وجود المفكّر والناقد العربي في الفضاء المتروبولي الغربي، وما يتيحه ذلك من سبل للتألّق على النحو الذي أتاحه لإيهاب حسن وإدوارد سعيد، وكان رأيي أن ذلك يظلم المثقفين الوطنيين الذين يعيشون ويبدعون ويقاومون في بلدانهم، ويعلي من شأن المثقف المهاجر على حساب الثقافة الوطنية.
فالسؤال يبقى: كيف نزن الفكر في آخر الأمر، إن لم يكن بجسامة المشاكل التي يواجهها، وجسامة الظروف التي يواجهها فيها، وقدرته على أن يتكوّن جديدًا ويثبت أهليته كلما تصدى لمشكلة جديدة.
تتكامل في جابر عصفور أدوار المفكّر والمعلّم والمخطِّط ومدير المشروع الثقافي الرفيع
(2)
يستعيد الدكتور جابر عصفور رؤية الشيخ محمد عبده إلى التعليم، ويراهن عليها كاستراتيجية للتغيير. وإذ يبدو ذلك غريبًا في عصر تدهور فيه التعليم العربي والأكاديميا العربية ذلك التدهور الذي أودى بهما أو يكاد، فإننا نكون أمام مفارقة أخرى من مفارقات جابر عصفور. والوقوف في صفّ محمد عبده يشير ضمنًا إلى تشكّك على الأقلّ في رؤية الأفغاني الثورية.
غير أن الأمر لا يتعلق هنا باستعادة جدال قديم بقدر ما يتعلق بمشكلة يطرحها الحاضر. فقد رأينا ما آلت إليه "الثورات" و"الثوريون"، وما تمخّض عنه حرق المراحل، الذي لم يحرق فعليًا سوى الحاضر والمستقبل ليعود الماضي مثل عنقاء متوحشة تسدّ السُّبُل.
وبذلك يكون الرهان على التعليم رهانًا على الفعل المتراكم، على عَمَلِ النَّمْلِ البطيء، إنما الدؤوب والعميق، رهانًا على الأثر الأكيد الذي لابدّ للتعليم من أن يحدثه على الصعيد العقلي والاجتماعي والتقني، رهانًا على قوة العصر التي ينطوي عليها التعليم، وما تتيحه من فرص لوضع خرائط عقلية جديدة، وعلى الأقل رهانًا على الجدار الذي لابدّ أن يصدم به التعليم كل فكر مُفَوَّت وسلطوي.
هكذا، يُعَادُ الوَصْلُ بين ما هو إصلاحي وبطيء وتراكمي، وبين ما هو ثوري بالمعنى العميق والمكين، بمعنى إقامة التغيير على أرضية راسخة من العيش في العصر ذهنيًا وعمليًا مما يوفره العلم والتعليم على ذلك النحو الذي لا يضاهيه فيه أيّ شيء آخر. هكذا لا يكون التعليم عند جابر عصفور تلك العلاقة التلقينية بين الأستاذ والتلميذ، بل اندفاعة للخروج من زمنٍ دائري وعَيْشُ العصر على جميع المستويات.
وإذ يُطرح السؤال: من سيعلّم المعلّم؟ يُطرح معه أيضًا من سيضمن نظافة الثوري؟ وكيف نضمن ألاّ تكون العبارة الثورية مجرد جعجعة تخفي الجهل والتقاعس عما ينبغي أن يُعمل، ورغبةً خفية في اقتناص فرصة للتسلّط قد تتيحها الثورة.
بيد أن جابر عصفور لا يعيش ثقته بالتعليم وإيمانه به على مستوى فكري وحسب، بل على المستوى العاطفي والشخصي أيضًا. وأذكر أنه حين يريد أن يظهر حجم عاطفته تجاه أحد ما غالبًا ما يكون سبيله إلى ذلك مقدار الحب الذي يكنه لتلامذته.
(3)
مع صعود الدولة الوطنية في بلدان العلم الثالث بعد الاستقلال، سادت قناعة راسخة، منذ أواخر الخمسينيات وحتى أواخر سبعينيات القرن العشرين، بأن للدولة الدور الأساسي في توفير البنية التحتية على مستويات المجتمع كلها، بما في ذلك الثقافة وإطلاق المشروع الثقافي، وذلك نظرًا للبنية الاستعمارية المتخلفة الموروثة وطابع المشروعات الخاصة الجبان الذي يردعها عن الاستثمار في الثقافة والبناء الثقافي.
ومنذ أوائل الثمانينيات، راحت هذه القناعة تتداعى مع إخفاق الدولة الوطنية وتوغّلها في إفساد الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة، حتى بات الكلام على دور ثقافي جدّي تقوم به الدولة ضربًا من المفارقة الزمنية والتناقض المنطقي.
ومفارقة جابر عصفور هنا تتمثّل في أنّه يمضي ضدّ التيار، مؤكدًا بالقول والفعل أن الدولة يمكن أن تلعب مثل ذلك الدور الثقافي، وأن من الواجب دفعها، بل إجبارها، على أن تلعب مثل هذا الدور بدلًا من الاكتفاء بهجائها. ذلك هو المعنى الجوهري الذي ينطوي عليه عمل "المجلس الأعلى للثقافة"، في ظلّ أمانة جابر عصفور العامة له، خاصة "المشروع القومي للترجمة"، وذلك النتاج النوعي الضخم الذي أنتجه في فترة قصيرة نسبيًا، متنبّهًا إلى البعد القومي والإنساني التعدّدي، وإلى الآفاق التي يمكن أن يفتحها مثل هذا النشاط، بحيث يغدو أساسًا لعملٍ أرقى.
هكذا تتكامل في جابر عصفور أدوار المفكّر والمعلّم والمخطِّط ومدير المشروع الثقافي الرفيع. وكان يكفي مجدَه وطموحَه الشخصيين أيُّ واحدٍ من هذه الأدوار، غير أن استجابة المثقف الأصيل لواقعٍ إشكاليٍ ومعقَّد ومُخَرَّب هي التي أرى أنها تقف وراء هذا التكامل في شخص جابر عصفور، وهي التي تجعله غير عابئ ببعض التعليقات الصبيانية الهشّة التي تقتصر ردة فعلها إزاء الخراب العميم على إطلاق المراثي أو الأهاجي غطاءً لانعدام الحيلة أو سوء الفهم أو الأنانيات الصغيرة.
(4)
ويبقى، قبل وبعد المفكر والأكاديمي والمدير، جابر عصفور الإنسان، بما لديه من قدرة على الحب والسماحة والكرم، بحس الدعابة المرهف، وروح ابن البلد الأصيلة اللطيفة، وسهولة التنقّل من أعالي الفكر المجرد إلى النكتة اللطيفة الرخيّة، ومن التشدّد الفكري والإداري إلى كنف الصداقة والأخوة، والضحكة الطالعة من القلب، مفعمة بالذكاء والكِبَر.
تلك الضحكة، نحبُّ أن تبقى بيننا. جابر عصفور، تحية كبيرة لك، حيًّا وميتًا.