شأنه شأن أستاذ الأساتذة طه حسين، كانت الترجمة لدى جابر عصفور جزءًا من مشروع ثقافي متكامل. ومثله، كانت قضية الترجمة في طليعة ما يهتمّ به نظريًا وعمليًا؛ كلّما كتبَ أو عملَ أحلّها محلًّا رفيعًا من كلّ ذلك.
وكما عرض طه حسين لمشروعه العملي الذي هو "لجنة التأليف والترجمة والنشر"، في كتابه النظري الاستراتيجي "مستقبل الثقافة في مصر" (1938)، كذلك قدّم جابر عصفور لمشروعه الأبرز والأبعد مدى، "المشروع القومي للترجمة"، بمقالة شهيرة، هي "نحو مشروع قومي للترجمة" (2000)، جمع فيها بين النظرية والتخطيط العملي، معيدًا إلى الأذهان، ومتجاوزًا في الوقت ذاته، لا سلفه القريب، طه حسين فحسب، بل سلفهما البعيد، رفاعة الطهطاوي، ومشروعه الذي تمثّل في "مدرسة الألسن"، وربما أسلاف آخرين أبعد بكثير، في تاريخ العرب وتواريخ غيرهم من الشعوب، حاولوا إقامة "منظومةٍ للترجمة" شغّالةٍ يحدوها أفقٌ فكري شاسع ووعي نظري ثاقب.
كما هو الحال لدى رفاعة الطهطاوي وطه حسين، كان وعي التأخّر عن الآخر (لا سيما الأوروبي) بالغ الحضور لدى جابر عصفور، غير أنَّ وطأة هذا التأخّر ومعناه الجوهري لم يعودا مسألة كميّة، مسافةً أو فاصلًا زمنيًا، يمكن تلافيهما بزيادة السرعة، بل باتا مسألة نوعية، استراتيجية، أو "تخلفًا" لا تكشف الأرقام وحدها عمق غوره وشدّة ثقله.
ولذلك كانت كلمة "التخلف" وعبارة "مجاوزة التخلف" شديدتي الحضور في مقالة جابر عصفور. ففي حين لم يكن قد اتضح للطهطاوي ما بين أوروبا وبلداننا من فارق "بنيوي"، وكان لا يزال، هو وأميره مـحمد علي، يأملان بتجسير الهوة بمجرد استعارة "العلوم البرّانية" أو "العلوم الاستعمالية"، كما يدعوها الطهطاوي؛ وفي حين لم يكن طه حسين بالبعيد عن ذلك كثيرًا؛ راح جابر عصفور يدرج الترجمة والعلاقة مع الآخر (لا سيما المتقدّم) في إطار أوسع هو السعي وراء "كلّ ما يثري الإبداع الذاتي"، بل في سياق أوضح بكثير هو سياق "الاستقلال السياسي والثقافي".
ولا شكّ أنَّ واقع حال العرب، وواقع التحليل النظري العلمي لتأخّرهم، بوصفه تطورًا بنيويًا للتخلّف، كما يقول سمير أمين، أو تطورًا رثَّا لبرجوازية رثّة، كما يقول أندريه جندر فرانك في سياق آخر، كانا قد اتضحا لجابر عصفور مزيدًا من الاتضاح قياسًا بسلفيه العظيمين. ما من إشارة في مشروع الطهطاوي تشير إلى حضور لغة أخرى يُتَرجَم منها غير اللغة الفرنسية. وديدن طه حسين أن نترجم عن اللغات الأوروبية، لا سيما الفرنسية.
أمّا جابر عصفور فمبدأه الأول، في التخطيط لمشروع قومي للترجمة، هو الخروج من أسر المركزية الأوربية الأميركية والتحرّر من إسار اللغتين الإنكليزية والفرنسية اللتين ظلت حركة الترجمة العربية أسيرتهما. وذلك في وعيٍ، لا نجده لدى سلفيه، لارتباط التبادل الترجمي بالحضور الاستعماري والمؤثرات الثقافية المصاحبة له. وهو، لذلك، لا يدعو إلى فكّ عزلة الترجمة العربية عن لغات بقية دول أوروبا التي لم نقع في هيمنتها الاستعمارية، أو التي حالت اللغتان المهيمنتان -الإنكليزية والفرنسية- بيننا وبينها فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى بقية لغات العالم الذي نحن جزء منه بالضرورة، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
وبذلك تُكسر ما يدعوها جابر عصفور "دائرة الهيمنة"، ويُقام توازن بين اللغات المترجَم منها على أساس تلبية كلّ منها لحاجة أو أكثر من حاجات مجتمعاتنا في ما يتصل بقضايا التنمية والتحديث والاستقلال السياسي والثقافي، وتُشاع المعرفة بأكثر من طريق للتنمية والتجديد، ويُقضى على وهم أنّ التقدم لا يتحقق إلا بطريق واحد دون غيره، أو مركزية ثقافة لا تعترف بحضور غيرها.
مضى عصفور ضدّ التيار، مؤكدًا أنَّ الدولة يمكن أن تلعب دورًا ثقافيًا، وأنَّ من الواجب إجبارها على لعب مثل هذا الدور بدلًا من الاكتفاء بهجائها
كانت الترجمة التي رادها الطهطاوي في عصر محـمد علي وأسّس لها، ترجمةً تقنية تخصصية، حاولت أن تستعير العلم التطبيقي الجاهز، متوقفةً عند نتائج العمل العلمي وثماره، ومهملةً ظروف إنتاجه. وتشير تجربة طه حسين وما تلاها من تجارب ترجمية عربية إلى هيمنةٍ للترجمات الأدبية والدراسات المتصلة بها في الأغلب الأعم، مع شيء من الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وهو وضع ترتب عليه ضمور حركة الترجمة في مجالات كثيرة من المعرفة الإنسانية، وعلى رأسها مجالات العلوم التطبيقية وما يتصل بها من معارف وعلوم بينيّة لا تتوقف عن التولّد أو التقدم.
أمّا جابر عصفور فكان يعي أخطار التقوقع في مجال واحد، وضرورة تحقيق التوازن بين المعارف الإنسانية في المجالات العلمية والفنية والفكرية والإبداعية، بحيث لا تتركّز الترجمة على مجال معين، بينما تظلّ بقية المجالات بعيدة عن دائرة الاهتمام. عادةً ما يقصد الأشقاء المصريون بصفة "القومي" ما نقصد به نحن السوريين "الوطني" أو "القطري" (مثلًا، يسمّي المصريون منتخبهم "الوطني" لكرة القدم "المنتخب القومي")، لكنّ ما يقصده جابر عصفور بـ"القومي" في عبارة "المشروع القومي للترجمة" هو الجهد الذي يجاوز قطرًا عربيًا بعينه، ويحتوي الأقطار العربية كلها أو جلّها، وهذا هو المبدأ الأخير بين المبادئ الأساسية لمشروعه القومي للترجمة (وهي 1- الخروج من أسر المركزية الأوربية الأميركية؛ 2- الانحياز إلى كلّ ما يؤسس لأفكار التقدم ويساهم في إشاعة العقلانية؛ 3- عدم التقوقع في مجال واحد؛ 4- ترجمة الأصول المعرفية من دون إغفال المنجزات الجديدة لحركة الإبداع والفكر العالميين؛ 5- الترجمة عن لغة الأصل مباشرة؛ 6- قومية الجهد).
وبالطبع، فإننا لا نجد عند محـمد علي وطه حسين مثل هذا البعد، بل نجد عكسه التام لدى محـمد علي الذي أراد تجاوز المرحلة الأولى من مراحل تطور الترجمة في عهده، وهي مرحلة المترجمين الشوام الذين ظهروا مع الحملة الفرنسية على مصر وكانوا طلائع المترجمين في عصره في الفترة بين 1822 و1831، أي حتى عودة بعثته الأولى من الطلبة المصريين في أوروبا.
وترجع أهمية الجهد القومي في الترجمة لدى جابر عصفور إلى أنَّ مشروعًا بطموح مشروعه وشموله الذي يوازن بين المعارف الإنسانية في المجالات العلمية والفنية والفكرية والإبداعية، ولا يقتصر على لغة دون لغة, أو يقع في نزعة المركزية الأوربية الأميركية، لا بدّ له من أن يقرن طموحه القطري بنزوع قومي يعين على تحقيق الغاية، ويفيد من الخبرات الكثيرة الموزّعة على امتداد العالم العربي.
لم يقتصر ما حققه جابر عصفور في "المشروع القومي للترجمة" الذي بدأه وهو أمين عام "المجلس الأعلى للثقافة" وواصله وهو رئيس "المركز القومي للترجمة"، على تحقيق ما عجز عنه مشروع "الألف كتاب الأول" الذي أطلقته "لجنة التأليف والترجمة والنشر" أو مشروع "الألف كتاب الثاني" الذي أطلقته "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، من تحقيق الألفية في الترجمة، إذ تجاوزها إلى آلاف عدّة قبل تركه المركز، بل تعدّاه إلى تحقيق قدر كبير ونوعيّ مما رسمه لمشروعه من مبادئ.
ومثل الطهطاوي وطه حسين أيضًا، كان جابر عصفور بحاجة إلى موقع أكاديمي ومركز في جهاز الدولة الثقافي كي يُخرج إلى النور مشروعه الذي خطَّط له ويحقق ما حققه. فمع صعود الدولة الوطنية في بلدان العالم الثالث بعد الاستقلال، سادت قناعة راسخة، منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين وحتى أواخر سبعينياته، بأنَّ للدولة الدور الأساس في توفير البنية التحتية على مستويات المجتمع كلّها، بما في ذلك الثقافة وإطلاق المشروع الثقافي، وذلك نظراً إلى البنية الاستعمارية المتخلفة الموروثة وطابع المشروعات الخاصة الجبان الذي يردعها عن الاستثمار في الثقافة والبناء الثقافي.
ومنذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، راحت هذه القناعة تتداعى مع إخفاق الدولة الوطنية وتوغّلها في إفساد الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة، حتى بات الكلام على دور ثقافي جدّي تقوم به الدولة ضربًا من المفارقة الزمنية والتناقض المنطقي. ولعلَّ أحد ضروب عظمة جابر عصفور هنا تتمثّل في أنّه يمضي ضدّ التيار، مؤكدًا بالقول والفعل أنَّ الدولة يمكن أن تلعب مثل ذلك الدور الثقافي، وأنَّ من الواجب دفعها، بل إجبارها، على أن تلعب مثل هذا الدور بدلًا من الاكتفاء بهجائها. وذلك هو المعنى الجوهري الذي ينطوي عليه عمل "المجلس الأعلى للثقافة"، في ظلّ أمانة جابر عصفور العامة له، ثمّ "المركز القومي للترجمة" في ظلّ رئاسته له.
والحال، أنَّ ذلك ما كان ليتمّ، ربما، لو لم تتكامل في جابر عصفور أدوار المفكّر والمعلّم والمخطِّط ومدير المشروع الثقافي الرفيع وممارس الترجمة هو نفسه، ولو لم ينطوِ على ما انطوى عليه من استجابة المثقف الأصيل لواقعٍ إشكاليٍ ومعقَّد ومُخَرَّب، هي التي تقف وراء هذا التكامل في شخص جابر عصفور، بعيدًا عن صبيانيات تجرّم الدولة برمّتها بتجريم سلطتها، خالطة بين الدولة والسلطة، وقاصرةً ردة فعلها إزاء الخراب على إطلاق المراثي أو الأهاجي غطاءً لانعدام الحيلة أو سوء الفهم.
أخيرًا، إذا ما كان ثمّة مجال لصوت شخصي صادر عن معرفتي القريبة بجابر عصفور وتعاوني مع مشروعه القومي للترجمة في ستة كتب إلى الآن (هي "موقع الثقافة" لهومي بابا، "الترجمة والإمبراطورية" لدوغلاس روبنسون، "علامات أُخِذَت على أنها أعاجيب: سوسيولوجيا الأشكال الأدبية" لفرانكو موريتي، "بؤس البنيوية: الأدب والنظرية البنيوية" و"نزع مادية كارل ماركس: الأدب والنظرية الماركسية" لليونارد جاكسون، وأخيرًا وليس آخرًا "النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت" لآلان هاو)، فإنّه يسعني القول إنَّها قليلة تلك المرّات التي أمكن فيها لتاريخنا العربي أن يجمع بين خيارات المترجم الفرد وتفضيلاته وضرورات الثقافة السائدة ومؤسساتها، بين وعي الفرد العلمي النقدي ووعي المؤسسة والمشروع الاستراتيجي المستدام.
ومن المؤكّد أنّ المشروع القومي للترجمة هو من أهم المواقع التي جرى فيها مثل هذا الجمع. وها هنا، بالضبط، وجدتُ نفسي، لا سيما أنَّ معظم الأعمال التي قمت بترجمتها تندرج في إطار الدراسات الفكرية النقدية. ولطالما كنتُ مقتنعًا، ولا أزال، بأن أكثر ما تحتاجه الثقافة العربية هو الدراسات العلمية والفكرية والمعرفية النقدية، من دون أدنى انتقاص من أهمية الأدب بشتى أنواعه.
وتنبع أهمية الصفة النقدية التي شغلني ويشغلني تعزيزها لديّ ولدى جمهور القرّاء في الثقافة العربية من أنَّ النقد هو مصدر إنتاج المعرفة وإعادة إنتاجها. وهو الذي يضع على المحكّ، في سياق إنتاجه المعرفة، ما يظن "الحسّ السليم" أو "الفهم الشائع" أنّه يقيني وصحيح. هذه الروح النقدية التي تفتك بالبديهيات المطمئنة هي، في رأيي، أشدّ ما تحتاجه ثقافتنا العربية في تبعيّتها من جهة وفي تمحور معظمها على الماضي بعقلية ماضوية من جهة أخرى.
ولا شكّ أنَّ "المشروع القومي للترجمة" هو أبرز المواقع المؤسسية التي أفسحت المجال أمام هذه الروح النقدية ومثال على النجاح المزدوج لكلّ من المترجم الفرد والمؤسسة الثقافية. تحية لجابر عصفور، المعلّم الكبير (بالمعنى الأرسطي لكلمة معلّم)؛ تحية لجابر عصفور الإنسان والصديق الأصيل؛ تَذَكُّرُ الثقافة العربية الدائم لك، ولو بنقدك من أجل الأفضل، هو دليل عافية تنعم بها، بخلاف نسيانك وإهمالك؛ أنا، على الأقلّ، لن أنساك ما حييت.