في أولى تجاربها الفيلمية، عربيًّا، أعادت شبكة "نتفلكس" تدوير الفيلم الإيطالي Perfect Strangers (أخرجه باولو جينوفيز). الشريط الذي عُرِض، للمرة الأولى، عام 2016، تحوّل إلى أنموذج اقتبست منه سينمات فرنسا وتركيا والمجر واليونان وروسيا والصين وكوريا الجنوبية وغيرها.
النسخة العربية من الشريط الذي دخل "كتاب غينيس للأرقام القياسية" باعتباره الفيلم الأكثر تجديدًا في التاريخ، بواقع 18 نسخة، حملت عنوان "أصحاب ولا أعز"، أخرجها وسام سميرة، بطولة منى زكي، إياد نصار، عادل كرم، دياموند بو عبود، فؤاد يمين، بالإضافة إلى جورج خباز ونادين لبكي.
ما إن أصبح الفيلم متاحًا على منصات العرض، حتى انقسم مشاهدوه، وفق اصطفافات حادة، فهذا يحتفي بالعمل، وذاك يذمه فنيًا، وآخر يحذر منه باعتباره أداةً في حروب الجيلين الرابع والخامس، ويعتبره حصان طروادة الآتي لتدمير "منظومة القيم".
حكائيًا:
نحن أمام دراما حُجرة. هذا الصنف من الحكاية يحتاج نسّاجًا فوق العادة لصناعة قصة متماسكة لا هنّات فيها. فالشخصيات تلعب ضمن حيّز مغلق، حيث لا مجال للتنويع والتقافز بين البيئات، الأمر الذي يجعل الصراع، كله، يُبنى من وعلى جزئيات حدثيّة صغيرة، تحلّ ثانيًا في سلم الأهمية بعد الحوار، الذي يشكل حجر زاوية هذا النوع من الأفلام (راجع Carnage، لرومان بولانسكي مثلًا). الحوارات مستوردة. أخذٌ وردٌ معلّب لا يخضع لعملية تبييء، فيخسر، بدرجة ما، خصوصية الزمان والمكان اللذين يحكمان الحكاية.
أصدقاء يتكاشفون عبر لعبة الهواتف المفتوحة، ويقررون قول الحقائق كلها، فتجيء التبعات مدمرة، وتؤدي إلي تفسيخ العلاقات ورفع الغطاء عن الوحل الخبيء، الأمر الذي يجعل المشاهد يقول، في نهاية العمل، إن الكذب قد ينجي، وإن الصدق، في عصر بيع الشهوة، هو حمقٌ أكثر منه شجاعة.
لكنّ السؤال الجدير بالطرح هنا هو "ماذا سيكون مصير هذي العلاقات التي كان أصحابها سينجون بها، مرحليًّا، إن هم كذبوا وراوغوا أثناء تناول العشاء؟ هل سينجح الكذب، على الدوام، في ستر عيوب من يدعون أنهم أصحاب ولا أعز؟"
وربما تكون هذه المشكلة القيمية الرئيسة في الفيلم الذي يعرّي حقائقنا ووجوه ظلنا، فيكاشفنا مع الجزء المظلم من ذواتنا، لكنّه يقترح الكذب حلًا وستارًا، من دون أن يبحث في جدوى حلول بديلة، كأن يكون واحدنا أكثر صدقًا منذ البداية، فلا يُضطر للكذب أصلًا.
فنيًّا:
اشتغل وسام سميرة بمنطق اللازم والكافي لتنفيذ حكاية بسيطة ذات عوالم عادية. لا كوادر مدهشة، ولا تشكيلات استثنائية، ولا عضلات تفرد لأجل تصوير المشاهد، وإنما شغلٌ بسيط يحتفي بالممثلين الذين لعبوا، أيضًا، في حدود المطلوب، وقدم، غالبيتهم ما تحتاجه الحكاية من دون شطحات أدائية.
أن يعجبك أداء منى زكي، وأن يشبعك لعب إياد نصار، فهذا بات من العاديات بالنسبة لممثلين بهكذا رصيد، لكنّ ما يستحق أن يضاء عليه، برأيي، هو الحضور الاستثنائي لجورج خباز، الذي أخذ استراحة من خشبة "شاتو تريانو" ومن التمثيل بأفعال عريضة تصل دلالاتها إلى المتفرجين في آخر صف من كراسي المسرح، وأخذ ينشط أمام الكاميرا، ما بين سينما وتلفزيون، وفق شرط أداءٍ غريب، نسبيًا، عن جمهوره.
يؤدي نجم فيلم "غدي" بحساسية وهدوءٍ في "أصحاب ولا أعز"، وربّما يكون مشهد المكالمة التي دارت بينه وبين ابنته المراهقة، أكثر علامات النسخة العربية تميزًا. فؤاد يمين، أيضًا، نجح في مفاجئة الشارع الذي اعتاد عليه في قميص البرامج الساخرة. يؤدي الممثل اللبناني بما يلزم لتقديم شخصية غير نمطية لشاب مثليّ. حضوره خجولٌ مصحوب بصوت مستعار، يخدم النموذج الذي فاجأ عموم رفاقه، في آخر الحكاية، بهويته الجنسانية.
أما خالد مزنّر فيخدم، موسيقيًا، بصورة تحافظ على هوية شغله ذاتها. فمن شاهد "سكر بنات" و"هلأ لوين" و"كفرناحوم"، سيدرك، وبإنصات بسيط، أنها تنتمي للمزاج الموسيقي ذاته الحاضر في "أصحاب ولا أعز".
وكما جرت العادة بُعيد عرض فيلم أو مسلسلٍ يضم مشاهد جريئة، أو شتائم، أو حتى إيحاءات "فوق العادة"، يَظهَر فصيلٌ غاضب يطالب بإنزال أشد القصاص بكل من شارك في هذا العمل الذي يهدف إلى النيل من منطومة القيم العربية، وتفسيخ فضيلتها.
من هذه الزاوية، أطلّ علينا برلمانيون مصريون يهاجمون الفيلم ويتوعدون بملاحقة بطلته، منى زكي، قضائيًا، بسبب مشهدٍ خلعت فيه قطعةً من ثيابها الداخلية، من دون أن تكترث بـ"شرف الأمّة" و"شرف البلاد" و"شرف الشعب" وشرفّيات كثيرة يعتقد المدافعون عنها أنّها، كلّها، مرتبطةٌ بسروال داخلي.
الهجوم طال أيضًا الممثل المصري أحمد حلمي، زوج منى زكي، حيث أفردت له "الهاشتاغات" الغاضبة حصّة باعتباره ساكتًا عن "الرخص" الذي قدمته زوجته، الأمرُ الذي دفع نقابة الفنانين المصريين إلى إصدار بيان تدافع فيه عن زكي، وبالتالي عن عموم الفنانين الذين يقدمون دراما لها الخصوصية ذاتها، وتقول، من خلاله، إنّها "لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي اعتداء لفظي أو محاولة ترهيب معنوية لأي فنان مصري أو النيل منه نتيجة عمل فني ساهم فيه مع مؤلفه ومخرجه".
يمكننا أن نُشرّح أسباب الهجوم "الأصوليّ" على "أصحاب ولا أعز" من زاويتين اثنتين. الزاوية الأولى لها علاقة بما يمكن أن ندعوه، اصطلاحًا، بنظرية الشُّرُفات. فالمهاجمون يُشبهون شخصًا يقف على شرفة بيته، ويطالع الحيّ الذي يسكنه، ثمّ يقول "هذه هي البلاد.. كل البلاد"، من دون أن يتنبّه إلى عوالم وفكرٍ وبيئات مختلفة ربّما تكون موجودة في شارعٍ آخر.
المدافعون عن الفضيلة يعتبرون أنّ قيمهم معيارية، وأنّ ممنوعاتهم هي ممنوعات الكلّ، وأنّ ما يوافقون عليه هو المرجع، وأنّهم أصحاب الحق في رسم الصِّراط الذي تسير عليه الدنيا، فيُقصون كلّ آخر، ويلوّحون بسيوف العيب والحرام في وجه كلّ ما "يخدش حياءهم"، مع العلم أنّ إحصائيات كثيرة تُشير إلى أنّ واحدًا من أعلى صبيبات المشاهدة للمواقع الإباحية مصدره الشرق الأوسط (الشرق الأوسط ذاته الذي هزّه مشهد الـ"آندروير" وكلمة خرا وشخصية مثليّة).
الزاوية الثانية تتمثّل في خجل الشوارع العلمانية والتنويرية وما يلف لفها بالتعبير عن نفسها. فكلّما ثار حماة الفضيلة، وجد "الآثم" نفسه مضطرًا لتقديم تبريرات أو حتّى اعتذارات لأولئك الذين ساءهم سلوكٌ خارج عن "المرجع" و"الأصول".
هنا، نستطيع أن نبحث طويلًا في جدوى الفنِّ المهادن الذي يسعى أصحابه للعب في مساحة آمنة، خوفًا من غضب الأكثرية، وهذا ما يمكن أن نناقشه في مراجعةٍ مستقلة.
المدافعون عن الفضيلة يعتبرون أنّ قيمهم معيارية، وأنّ ممنوعاتهم هي ممنوعات الكلّ