صحفيون مخبرون: تهمة بلا لقمة

الصحافة في اليمن لم تعد مهنة المتاعب حتى، بل صارت مهنة يتاخمها التيه وتحدق بها مخاطر شتى، كثيرًا ما تنتهي بالاختفاء أو الموت.

كثيرًا ما يخطر في بالي سؤال حول وجود رصد على مستوى العالم للأشخاص الأكثر خوفًا. لقد بحثت عن الأمر في الواقع، ولم أعثر على مرادي بالضبط. لكن تجربتي في العمل الصحفي في اليمن تقودني إلى الظن أن الصحافيين والصحافيات هناك سيحتلون المرتبة الأولى في دراسة كهذه.

وفي بعض الأحيان، يطيب لي أن أعتقد أني أمتلك ميزة ما كصحفية يمنية مستقلة، برغم أن ذلك يتعارض مع الكثير من الحقائق التي تشير إلى العكس، والتي تثبت أن الصحفية اليمنية لا يمكن أن يكون لها أي مميزات حقيقية. بل إن الواقع يقول إن الأخطار التي تحدق بالصحفية اليمنية أشد من تلك التي يتعرض لها زملاؤها الرجال، فهي تعاني – عدا عن مخاطر العمل الميداني – من الابتزاز والاعتداء والتحرش، بحسب ما أكده تقرير أصدرته الأمم المتحدة هذا العام.

قد تكون الميزة الوحيدة لي كصحفية متمثلة بقدرتي على التواصل مع مصادر نسائية في قصص أو قضايا أعمل عليها. كثيرًا ما أتصل بالمصادر من دون الحصول على رد، ولكنني أستمر بالمحاولة. وعندما يصلني عبر الهاتف صوت امرأة، أشعر براحة مبدئية. فهي على الأقل ستنصت لي وقد أتمكن أحيانًا، خلال هذه المحادثة السريعة، من إقناعها بالتجاوب معي وإجراء مقابلة صحفية.

وإن اعتبرنا ما سبق ميزة، فهي تنتهي عند هذا الحد. فأنا، في آخر الأمر، رجلًا كنت أم امرأة، أعمل بالصحافة في اليمن، وتثار حولنا جميعًا الإشاعات والشكوك حيال انتماءاتنا ولصالح من نعمل. وكثر يعتقدون أننا نمارس التضليل والتدليس، وأن لدينا أهدافًا خفية لإثارة البلبلة. ولكني في الوقت نفسه، عندما أرى ناسًا عاديين يتعاملون مع الصحافة بحذر، أحاول أن أبرر لهم تصرفاتهم. فشدة ما نواجهه كيمنيين من رقابة وتضييق وترهيب في مختلف أوجه الحياة وفي ممارسة العمل الصحفي، يجعل الناس ينتقون الكلمات بعناية، ويحتفظون بالآراء الصادقة لأنفسهم.   

وللمسؤولين حصتهم الكبيرة في قهرنا أيضًا. قبل مدة، كنت ذاهبة لإجراء مقابلة – أو هذا ما اعتقدته – مع مصدرٍ يرى نفسه مسؤولًا عن شؤون المواطنين، وكان مكتبه يبعد عن منزلي مسافة لا تقل عن 15 كم. طرقت باب مكتبه، وإذ سمح لي بالدخول، عرفته بنفسي وأوضحت له سبب مجيئي واختياره للرد على أسئلتي. لكني فوجئت بردٍ لم أتوقعه أبدًا عندما قال إنه لا يدلي بأي معلومة إلا للجهات الرسمية. أما أنا فمجرد صحفية مستقلة، وقد تكون أهدافي من إجراء المقابلة غير نبيلة. وإذ خرجت من مكتبه أحمل إحباطي وقهري، فكرت كم من زملاء آخرين خرجوا مثلي من مكتبه يشعرون بمدى امتهان الصحافة في هذا البلد.

ما الذي يمكن للصحفي تقديمه للقراء من دون معلومات سوى الثرثرة الفارغة!

الصحافة في اليمن لم تعد مهنة المتاعب حتى، بل صارت مهنة يتاخمها التيه وتحدق بها مخاطر شتى، كثيرًا ما تنتهي بالاختفاء أو الموت. يكفي أن يرفض الصحفي موقفًا أو توجهًا ما كي يرى نفسه محشورًا في انتماءات متخيلة لا علاقة له بها. يواجه الصحفيون أينما كانوا مختلف الصعوبات في الحصول على ما يحتاجونه من معلومات أو بيانات، والصعوبات أو التحديات جزء من العمل الصحفي، ومن متعته أحيانًا. لكن الصحفي في اليمن لا يحق له أصلًا الحصول على أي معلومة. وإن حاول، فهو يسعى لتنفيذ مؤامرة تخدم أحد الجهات المتصارعة في هذا البلد وعليه. فما الذي يمكن للصحفي تقديمه للقراء من دون معلومات سوى الثرثرة الفارغة!

الصحفي شخص يرتاب منه كثيرون في اليمن اليوم. لهذا الجأ أحيانًا، أثناء الحديث مع الناس، إلى قول نصف الحقيقة عني، فأسألهم بلطفٍ حول موضوعٍ ما ثم أخبرهم أني مهتمة بكتابة القصص الإنسانية وجمع المعلومات عن الأحداث الراهنة وكتابة التقارير. أجد نفسي هكذا، أعرّف عن مهنتي اصطلاحًا دون ذكر كلمة "صحفية"و لأنها باتت تعني للآخرين التورط معي في أمورٍ هم في غنى عنها، ولأني، حينها، سأخسر أي تجاوب قد أحصل عليه.

لا يأتي هذا الخوف من الصحافي نفسه، بل إن منشأه في غالب الأمر هو ما قد يتسبب به التحدث مع الصحفي. يعتقد كثيرون اليوم في المجتمع اليمني أن الإدلاء برأيهم أو تقديم معلومة ما للصحفي سيضعهم في دائرة الخطر أمام السلطات. فإذا كان الصحفيون يواجهون ما لا يحصى من سجنٍ وقمعٍ وترهيبٍ، فالأدهى أن يخاف الناس مواجهة المصير ذاته.  

ولأن الصحافة تعمل مع الناس ولأجلهم، تصبح جميع تلك الشكوك والمخاوف حملًا مضنيًا يرزح تحته الصحفيون في اليمن، فيما يحاولون ممارسة عمل يعدّ من أكثر الأمور المعتادة في دولٍ أخرى. ولئن كنت أنا، وغيري كثر في هذه المهنة، نستمر في أداء عملنا، فلأننا اخترنا هذه المهنة، ولأننا نشعر بمسؤولية ما تجاه مجتمع نعيش فيه ونرى مشاكله ونريده أفضل، ولأننا لا نريد الاستسلام، ولا فقدان شغف البحث عن قصص والكتابة عنها.

"سبيستون": أثر ونوستالجيا

غمرتني حالة "نوستالجيا" هائلة فيما أتابع احتفال قناة "سبيستون" بالذكرى الثانية والعشرين لانطلاقتها. علت..

جهينة عبد المنعم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة