عن البدائل المجتمعية في سوريا

يمكن تعريف نماذج اقتصادية محلية تستجيب للحاجة إلى تحويل العمل الإغاثي القصير الأمد، المبني على مشاريع صغيرة للمجتمع المدني السوري، إلى عمل تنموي يعتمد على الاكتفاء الذاتي القابل للتوسع.

نقف على مفترق طرق في مشهد سوري، أقل ما يوصف به هو أنه عاصفة شبه مكتملة ومرشحة للازدياد. نبحر كمجتمع من دون منارة أو يابسة تلوح في الأفق، وتتلاطمنا الأمواج؛ من حرب طويلة، إلى جائحة "كورونا"، وضغط اقتصادي، وأمراء حرب، وعقوبات اقتصادية أحادية الجانب، وتجنيد لشبابنا في صراعات الآخرين، واضمحلال للطبقة الوسطى، وتغير في خريطة النخب الاجتماعية بفعل اقتصاد الحرب، ونزف للأدمغة والمجتمع الفتي، وتشتت اجتماعي للعائلة السورية، وتردٍ لأبسط حقوق العيش ومتطلباته، وبروز ظاهرة الطوابير، وأزمة مصرفية في لبنان، وانهيار لسعر صرف الليرة اللبنانية والسورية معاً، وتبخر لمدخرات السوريين، وانسداد في الأفق السياسي من ماراتون التفاوض السياسي إلى اللجنة الدستورية، حتى أصبحنا ورقة في مفاوضات الآخرين وتفاهماتهم. تلك العاصفة الخاضعة لحسابات إقليمية ودولية، مع كل سيناريوهاتها الممكنة، وأخذًا بالاعتبار النماذج السابقة التي أنتجتها الآليات الدولية في المنطقة من لبناني وعراقي وفلسطيني، تطرح مدى قدرة المجتمع السوري (أو المجتمعات المحلية ما دون الوطنية التي أفرزها الصراع)، على التفكير بما يتجاوز ضغط اللحظة. فهل يبقى، والحال هذه، أي هامش من المرونة المجتمعية لاستعادة مناعتنا التنموية؟

 إعادة تخيّل السياق

خلال سنوات الحرب السورية، تغيّر المشهد الإنساني - التنموي مراراً، وواجهت الحوامل المجتمعية المتنوعة الكثير من التحديات، فأضحت المبادرات المجتمعية إما رد فعل قصير المدى على الواقع، أو استجابة لأجندات الممولين من المنظمات الدولية. وهي لم تتمكن من إنتاج بنى تحتية وشبكات موارد ليُبنى عليها لاحقاً. لكن، في المقابل، برزت فرص كثيرة ساهمت في توليد طاقة اجتماعية إيجابية تقوم على رأسمال مجتمعي سوري قادر على التجاوب مع الأزمات. و قد تفاوتت قدرة رأس المال المجتمعي هذا وكفاءته في الداخل والخارج، وفقاً للفرص المتاحة لجهة بناء القدرات والتمويل، والمساحات المتوفرة، إلى جانب تحدي تسييس العمل الإنساني والتنموي. وما إن استتب مشهد الصراع السوري بعض الشيء، حتى سارع اللاعبون الأساسيون إلى سحب البساط من تحت القوى المجتمعية التي حمت مرونة المجتمعات المحلية خلال سنوات الحرب الطاحنة، وهي التي نابت وظيفياً عن القطاعَين الحكومي والخاص في تحمل أعباء تقديم الخدمات في أشد لحظات الصراع مرارةً. هكذا، خسرت القوى المجتمعية تلك زخمها بحجة إعادة تنظيم الفضاء العام وترتيب الأولويات، وهو ما أثر سلباً على الطاقة الاجتماعية الإيجابية المتأتية من المرحلة السابقة. ومع تفشي جائحة "كورونا"، خسرت القوى المجتمعية مزيدًا من طاقتها الإيجابية السابقة، وبات عليها ابتداع وسائل متجددة لمواجهة الظروف الطارئة. في المقابل، صدرت مجموعة من التعليمات الحكومية حول التعامل مع الجائحة، استخدمت خطابًا ظلّ متقدمًا عن الممارسة الحقيقية بأشواط، فظهرت تعابير من قبيل: فرق الحماية المجتمعية، ولجان الأحياء، والفرق التطوعية، والجمعيات الأهلية، ومنظمات المجتمع المدني، ولامركزية الاحتياجات. بهذا، عززت الجائحة فكرة المسؤولية المجتمعية، والحاجة إلى بنى تحتية محلية قادرة على الاستجابة للتحديات الآنية والمتوقعة، لكن من دون أن يفضي ذلك إلى نتائج ملموسة.

يمكن تعريف نماذج اقتصادية محلية تستجيب للحاجة إلى تحويل العمل الإغاثي القصير الأمد إلى عمل تنموي يعتمد على الاكتفاء الذاتي القابل للتوسع

في موازاة ذلك، أجهز تدهور سعر صرف الليرة السورية على جزء آخر من مرونة المجتمع، وترافق مع رفع الدعم الحكومي عن الكثير مما تبقى من أساسيات الحياة. وفي هذا السياق، تركّزت الموارد المتبقية حول مراكز الثقل في جغرافيا الصراع، أي بعيداً عن الأطراف. ومع تزايد التحديات الاقتصادية للسوريين في الشتات (بسبب "كورونا")، الداعمين لعائلاتهم في الداخل، تناقص الرافد المالي الناجم عن هذا الدعم، وهو الذي يشكل كتلة مالية لا يستهان بها، وظهر فقراء جدد في الداخل ممن خسروا وظائفهم ومدخراتهم، وجلهم من الطبقة الوسطى المتلاشية أصلاً. ما سبق ترافق مع تهميش المهمشين ومن عزلة الريف، باستثناء بعض الجيوب الحدودية، وهو ضاعف من حجم الفجوة الرقمية بين المجتمعات المحلية، لا لجهة القدرة على الوصول إلى المعلومات فحسب، بل كذلك لجهة القدرة على وصل الموارد بالطلب والاحتياجات المحلية، ومعالجة الخلل في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية. وبرز سؤال محوري في هذا السياق: أين نحن من العقلية القادرة على إدارة نظام إيكولوجي للاستجابة، يتمثل بشبكة متفاعلة من الموارد البشرية، والأنشطة، والسياسات، والقوانين، والشركاء، والداعمين، وقنوات التواصل والتمويل، لتحقيق عائد أفضل على الاستثمار الاجتماعي ضمن المشهد القاتم؟

هل ثمة بدائل مجتمعية؟

ثمة شرط لازم لاستدامة أي حيوية اقتصادية محلية، يتمثل بتطوير الاكتفاء الذاتي وتوسيعه نحو الجوار المباشر. وقد نتمكن، في هذا الإطار، من تعريف نماذج اقتصادية محلية تستجيب للحاجة إلى تحويل العمل الإغاثي القصير الأمد، المبني على مشاريع صغيرة للمجتمع المدني السوري، مموّلة من المنظمات الدولية، إلى عمل تنموي يعتمد في خطواته الأولى على الاكتفاء الذاتي القابل للتوسع، وذلك من خلال بناء اقتصاد بديل، واقتصاد ظل، واقتصاد مدوّر، واقتصاد أخضر، واقتصاد منزلي، ونماذج مركبة منها جميعًا. ينبغي في هذا السياق خلقُ مساحات حوارية تُغلّف الحيوية الاقتصادية المحلية المنشودة. إذ من شأن هذا أن يؤسس لتفاهمات حول تبادل الموارد والرساميل المجتمعية، فيكسر تنميط المجتمعات المحلية لنفسها ولنظيراتها، مما يساعد على تجاوز الإرث القديم أو تراكمات الحرب. لقد غيّرت هذه التراكمات البنى المجتمعية إلى الأسوأ، بفعل تدمير كثير من المؤسسات المجتمعية الوسيطة، الأهلية والخيرية، وكذلك المخزون العائلي، وهو ما أفضى إلى ضياع بعض مفاتيح التوافق الاجتماعي السابق - بغض النظر عن مآخذنا عليها - بحيث بات تعويضها يشكل إحدى المعضلات التي تحول دون مراكمة جهود تصالحية وبناء شبكات أمان اجتماعي بالحد الأدنى. نعم، يمكن أن تساعد الروافع الاقتصادية على تطوير المرونة والقدرة على الصبر، لكنها لن تُصلح - وحدها - ما أفسدته المأساة السورية وما ألحقته من تشوّهات بالمنظومة القيميّة تحت سطوة أمراء حرب. يعني هذا أن الفرصة ستضيع من أيدي السوريين ما لم تتكامل الجهود الاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية، ضمن نماذج مجتمعية محليّة جديدة، يتوجب بناء مهاراتها الجماعية لمواجهة المشهد الناشئ. يبقى السؤال حول كيفية رأب الصدوع في بنية المجتمعات المحلية، المقيمة والنازحة واللّاجئة والمهاجرة، وكذلك حول فُرص تسهيل تدفق المعرفة بالفرص الاقتصادية المتاحة، وكذلك بالتحديات والاحتياجات والموارد المتوفرة محليًا. بمعنى آخر: كيف يمكن أن نفكّك نتائج الإقصاء الاجتماعي الناجم عن الحرب (حتى لو استمرت هذه الحرب بأشكال مختلفة)؟ وكيف يمكن أن نسهّل تنمية نماذج اقتصاد محلي أكثر إنصافًا وضمانًا لاستمرار المجتمع السوري؟ وكيف لنا أن نطوّر لامركزية التفكير، وأن نضع حلولًا أكثر ملاءمة للاحتياجات المحليّة المتنوعة، وفقًا للممكنات القائمة على قلتها؟

تصوّر ما

إن أيّ سيناريو لحلّ سياسي للأزمة السورية سيواجَه بالضرورة بحقيقة وجود مجتمع مشتت تحكمه مصالح وجهات محلية مدعومة إقليميًا ودوليًا، لا تجمعها روابط وطنية حقيقية. وسيكون من الصعوبة بمكان توجيه الخدمات والموارد الوطنية لدعم الاحتياجات المتفاوتة بين منطقة وأخرى من دون إطار وطني واتفاق سياسي للتشبيك. أما أكبر التحديات فيتمثل في بناء أدوات حوكمة محلية متشابهة (للحيلولة دون تشرذم البلاد وتقسيمها)، مع ضرورة التعامل بواقعية مع الظواهر القيادية المحلية التي أفرزتها الأزمة. ولعلّ أحد أهم الأولويات الأساسية يتمثل اليوم بالعمل على تطوير إطار للإدارة المحلية كأحد المداخل التي ستحتاجها سوريا للخروج من الأزمة في لحظة سياسية مناسبة. إن بناء مجال عام، تنموي وتشاركي، معزز بالإعلام التنموي الخاص والعام وشبكات التواصل الاجتماعي، من شأنه أن يوفّر آليات أفضل للوصول إلى المجتمعات المحلية، وأن يستنفر طاقاتها الكامنة لتكوين رأسمال مجتمعي سوري والاستثمار فيه. كما من شأن هذا الإعلام التنموي أن يضمن جزءًا مهمًا من تحسين متوسط الوعي المجتمعي، عبر توفير قدر من المعلومات والممارسات المجتمعية الإيجابية. كذلك فإن بناء التجانس بين السياسات المطبقة يتطلب ترابط الاستراتيجيات والإجابة على جملة من الأسئلة؛ ما هي العتبة التي يفكر بعدها الشباب بترك العمل المجتمعي والهجرة؟ وهل ثمة آليات لتعويض تلك الحوامل أو رفدها؟ وما هي الظروف والعوامل المحفّزة على العمل في التنمية المجتمعية المحلية، وما هي الظروف والعوامل المنفّرة؟ وما هي الآليات اللازمة لاستدامتها وتطويرها ضمن إطار وطني؟ من شأن التجانس في السياسات أن يولّد ثقافة جديدة لمبادرات مجتمعية قادرة على تطوير أدواتها الرقمية والتواصل في ما بينها، في جو من التكامل بدلًا من التنافس. ومن شأن ذلك أن يمهد لبناء سلم أهلي من القاعدة إلى أعلى الهرم، من خلال الانطلاق من المعاناة المشتركة، وتحويل المكاسب المحلية للفئات المتنازعة إلى رأسمال سياسي يتم تداوله في إطار وطني، من خلال عملية تسمح ببناء عقد اجتماعي مختلف والتأسيس لدستور جديد، يومًا ما. لقد تجرأ بعض السوريين على الحلم بنهاية هذه الحرب، لكننا اليوم نجد أنفسنا أمام واقع مرير: هل نحن قادرون على أن نكون مؤتمنين على كرامة بعضنا، وعلى أن نتبادل الأمل؟ هل لنا أن نراجع أخطاءنا والبقع العمياء في السنوات العشر الماضية، بمعزل عن التموضع السياسي في هذه اللعبة اللانهائية؟ قد نتجاوز سردية الحرب يومًا ما، ويُتاح لمن تبقى منّا أن يروي سرديات جديدة جامعة. فهل نحن قادرون على تهيئة المسرح لهذا الاحتمال؟   من ملف: "عن غدٍ سوريٍ لا يأتي"