"دُرّة" مشافي الأطفال في سوريا: خدمات ناقصة و"بهدلة" في الانتظار

سوء حال المرافق الصحية عقب اثني عشر عامًا من الحرب لا يقتصر على المدن الصغرى أو المحافظات البعيدة، فمشفى الأطفال بدمشق الذي يُعد "الأكمل" في مجاله يعاني بدوره الكثير من الصعوبات.

على كرسي حديقة في ساحة المواساة بدمشق، جلست وجد (اسم مستعار) تتناول فطورها، متشاركةً لقيماتها البسيطة مع صالحة، وهي سيدة قادمة من القامشلي، جمعتهما العاصمة وقدرُ انتظار حفيدين طورَ العلاج في مستشفى الأطفال الجامعي.

بدأت رحلة وجد قبل أكثر من شهر مُنطلقة من مدينة البوكمال في أقصى الجنوب الشرقي لمحافظة دير الزور، وعلى ذراعيها حفيدتها المولودة حديثًا. وبرغم وجود قسم للأطفال في "مشفى الأطفال والتوليد"، فهو يقدم خدمات منقوصةً مثل جميع مشافي المحافظة، ويعاني من نقص في الكوادر الطبية. ويبدو أن قرار مجلس الوزراء السوري في شباط 2021 إرسال عشرين طبيبًا من مختلف الاختصاصات بشكل شهري إلى دير الزور لم يقدم حلًّا جذريًّا للواقع الصحي، ولم تجد وجد علاجًا ناجعًا لحفيدتها المصابة بخرّاج في النخاع الشوكي، ما جعل مستشفى الأطفال بدمشق وجهةً لا بدّ منها "وإن طال السفر".

يشكّل المشفى المذكور مقصدًا للعديد من الحالات من مختلف المحافظات، وهو مشفى تعليمي يتبع وزارة التعليم العالي، ويضم 445 سريرًا. كما أنه الحكومي الوحيد المتخصص بالكامل بعلاج الأطفال في مختلف الاختصاصات من أمراض الكلى إلى معالجة السرطانات وغيرها.

تشرح وجد أنها اضطرت إلى اصطحاب الطفلة دون والدتها، لأن الأخيرة لم تكن قد شُفيت بعد من تبعات الولادة القيصرية، ولم تكن السيدتان تظنان أن رحلة العلاج ستطول، وأن ملابس الصيف التي حملتها معها لم تعد تفيدها اليوم لمواجهة برد الشتاء القارص!

تتشارك وجد وصالحة المعاناة نفسها. فالأخيرة تنقلت بحفيدتها نحو شهرين بين المشافي الخاصة في القامشلي، لكن الأطباء لم يعرفوا تشخيصًا للحالة. لا يوجد في مدينة القامشلي مشفى حكومي متخصص في أمراض الأطفال، بل قسم في المشفى الوطني، بخدمات صحية محدودة، وطاقة استيعابية منخفضة (70 سريرًا).

التنقل بين المشافي الخاصة وعيادات الأطباء، بنفقاته الباهظة، لم يُثمر في نهاية المطاف. بل تفاقمت الحالة سوءًا، وأصاب الشلل ساقي الطفلة (سنة وتسعة أشهر). لذلك، اصطحبت صالحة ابنتها وحفيدتها إلى مشفى الأطفال في العاصمة، حيث اكتشف الأطباء وجود خرّاج في النخاع الشوكي، يحتاج عملًا جراحيًا.

الأهل على الأرصفة

التشرّد وغياب المأوى كان أيضًا قاسمًا مشتركًا بين الجدتّين والعشرات سواهما. توضح وجد أنها ذاقت الأمرين في ساعات مكوثها الطويل نهارًا وليلًا على الأرصفة، كما نامت في بعض الأحيان على الكراسي في ممرات المشفى، وسط ظروف بالغة الصعوبة بسبب الازدحام، وعدم ترحيب القائمين على المشفى بهذا الوضع.

يمكن النقر على الخريطة لعرضها بالحجم الكامل

 

أما صالحة، فتصف ظروف إقامتها في الفترة الأولى بـ"البهدلة". كانت مضطرة للنوم في بهو المشفى حينًا، وفي حديقة المشفى حينًا، تلفّ أغراضها بحذر خوفَ ضياع أي شيء في مكان يعج بالغرباء، كما تعرضت للطرد مرات عديدة. في نهاية المطاف، اهتدت كلٌّ من السيدتين على حِدة إلى مركز خيري مخصص لمرافقي الأطفال المقيمين في المشفى. يقدّم المركز حلًّا ناجعًا لمشكلة النوم، لكن تُحصر ساعات الاستقبال فيه بين الخامسة مساء والتاسعة صباحًا. أما المشفى فلا يُسمح بدخوله للزوار سوى ساعتين في اليوم، ما يعني أن نزلاءه من نساء ورجال مضطرون إلى التشرد ساعات طويلة خلال النهار، وهي معضلة كُبرى خاصة للمسنين والمسنات في أيام الشتاء.

استُحدث المركز المذكور في منطقة كيوان القريبة من مشفى الأطفال قبل نحو عامين، من قبل "جمعية الشباب الخيري"، ويوفر النوم بالمجان، وبعض سبل النظافة من استحمام ومراحيض وأدوات تنظيف. تقول سالي الجنن مشرفة المركز، إنه يضم عشر غرف بسعة 52 سريرًا، وأحيانًا في فترات الضغط يمكن أن يتسع لخمسة عشر شخصًا إضافيًّا بعد وضع "فرشات" على الأرض.

كذلك يوفر المركز خدمات إضافية، مثل السلال الصحية المقدمة من منظمة الهلال الحمر، وأحيانًا يقدم خدمات طبية شخصية لذوي الأطفال المرضى بالاستعانة بالفريق الطبي للجمعية، وقد يساعد في تأمين بعض الخدمات للأطفال المرضى، وفقًا لشروحات الجنن، التي تقدم مثالين سابقين هنا: تأمين "إبرة العامل السابع" لأحد الأطفال وتكلفتها 850 ألف ليرة سورية، وتأمين تكلفة التصوير بالرنين المغناطيسي لطفلة أخرى بتكلفة 550 ألف.

آلية الإقامة في المركز ليست معقدة، فهي كما تشرح الجنن تتطلب إبراز بطاقة مراجعة أو بطاقة زيارة للمشفى، والبطاقة الشخصية لصاحب/ة العلاقة، ثم يتثبت القائمين على المركز من حالة الطفل عبر أحد موظفي المشفى، ولا يُشترط تحديد مدة لإقامة الأهالي في المركز طالما كان أطفالهم في المشفى. أما إغلاق أبواب المركز نهارًا، فتوضح أنه يتعلق بأعمال التنظيف والتعقيم اليومي.

"بعض الشر أهون من بعض"..

تظل ظروف وجد وصالحة - برغم بؤسها - أفضل من سيدات أخريات يمضين الليل والنهار على الرصيف المجاور للمشفى بانتظار شفاء أطفالهن. بالقرب من باب المشفى تمتد شاخصة طويلة تُخبر عن وجود صالة لإقامة أهالي الأطفال المقيمين في داخل المشفى، وعلى باب هذه الصالة وقفت شابة تصيح غاضبة بسبب رمي حاجياتها الموجودة في الداخل، واضطرارها إلى وضعها على الرصيف، في وقت كانت على وشك دخول المشفى لزيارة طفلتها المريضة.

تقول الشابة إنها تنام منذ نحو عشرة أيام على الرصيف أمام باب المشفى أو "داخل غرفة الإيواء هذه، التي لا تختلف في انعدام نظافتها وتدفئتها عن الرصيف". وتوضح أنها اضطرت للقدوم إلى دمشق لعدم وجود حواضن كافية في محافظتها درعا، حيث يوجد قسم للأطفال في مشفى درعا يضم 23 سريرًا فقط، أما حواضن الأطفال فعددها 7 فقط، لهذا يوضع في بعض الأحيان طفلان من حديثي الولادة في حاضنة واحدة!

أمام الضغط الكبير، لا يخلو العمل من أخطاء طبية أو تعرض بعض الأطفال للعدوى

الحال ذاتها تنطبق على وعد (اسم مستعار) القادمة من السويداء، فهي تنام منذ نحو أسبوع على الرصيف رغم البرد والمطر، وتؤكد أن سبب مجيئها للعاصمة عدم وجود حواضن مجانية في محافظتها. تقول وعد إنها تشعر بالذل آلاف المرات يوميًا، فأغراضها تُرمى داخل غرفة الإيواء أو خارجها، أما النظافة فـ"سيئة للغاية، لا يمكن حتى استخدام الحمام" تؤكد الشابة، ثم توضح أنها مضطرة إلى التحمل لانعدام البدائل.

أما فاطمة (اسم مستعار) فقدمت من حلب، برغم وجود مشفى متخصص للأطفال هناك. تخبرنا أن التشخيص كشف إصابة طفلتها بالسرطان، ولعدم توافر العلاج أُرسلت الطفلة في سيارة المشفى، وتبعتها جدتها ووالدتها إلى دمشق. تقول الجدة: "وضعنا المادي سيئ للغاية، ولا يمكنني الإقامة في فندق أو استئجار شقة، لهذا أمضي أيامي بالتسكع في الشوارع إلى حين السماح بالزيارة، وفي الليل أبحث عن قطعة كرتون أنام عليها".

أجهزة معطلة وأدوية غائبة

سوء حال المرافق الصحية عقب اثني عشر عامًا من الحرب لا يقتصر على المدن الصغرى أو المحافظات البعيدة، فمشفى الأطفال بدمشق الذي يُعد "الأكمل" في مجاله يعاني بدوره الكثير من الصعوبات. وبحسب شهادات من داخل المشفى، هناك نقص هائل في كثير من الأدوية خاصة الإسعافية منها، ما يضطر الأهالي لتأمينها على نفقتهم، الأمر الذي ينطبق على الفحوصات الشعاعية أيضًا بسبب تعطل معظم الأجهزة الأساسية، كجهاز الرنين المغناطيسي وجهاز التصوير الطبقي المحوري، وأجهزة الإيكو، وجهاز الأشعة التنظيرية.

الحال في المخبر ليست بأفضل، إذ لا يمكن انجاز كثير من التحاليل المخبرية بسبب قِدم الأجهزة، ونقص المواد التشغيلية والمحاليل الكيميائية الأساسية، فضلًا عن الحالة السيئة لمعظم الأجهزة والبنى التحتية في العنايات المشددة، وغرف العمليات، وغرف المرضى، مع نقص في المواد الطبية الخاصة بالإسعاف وأمراض القلب، ما ينعكس سلبًا على سرعة تنفيذ بعض العمليات الجراحية. علاوة على نقص في عدد الفنيين المخبريين، والممرضات العاملات، ومساعدات التمريض مقارنةً بعدد الأطفال المرضى.

أمام الضغط الكبير، لا يخلو العمل من أخطاء طبية أو إصابات جديدة يتعرض لها بعض الأطفال بسبب العدوى، فأحمد القادم لمعالجة ابنه المريض بشلل الحبال الصوتية، اكتشف علة ابنه في دمشق، بعدما عجز عنها أطباء حلب، وحين استبشر خيرًا بإمكانية الشفاء بعد بلوغه الشهر السادس من العمر، فوجئ بإصابة صغيره بجرثومة خلال وجوده في العناية المشددة. فيما يشكو بعض ذوي الأطفال سوء المعاملة داخل المشفى، وعدم توافر الراحة النفسية للأطفال.

تلخص صالحة قائلة: "أكثر ما أتمناه انتهاء معاناتنا في المشفى والظروف السيئة التي نعيشها فيه، حتى لو بقيت شهرًا بأكمله أنام في الشارع".