يوم قتلت الدولة شمالها

تغيب الدولة الراعية عن شمال لبنان، وتحضر سطوتُها الأمنية في شوارع طرابلس، عاصمة هذا الشمال. عند كلّ مفترقٍ دوريةٌ للجيش. تبدو المدينة أشبه بالثكنة العسكرية الكبيرة لزائريها، بعدما وُسمت بالـ"الخارجة عن القانون" في أذهان كُثر.

يقول الطرابلسيون إن ما يحدث في البلاد عامةً، يبدأ قبل أشهر في طرابلس. طوابير البنزين ظهرت في شوارع المدينة قبل أشهر من اندلاع أزمة المحروقات الصيف الماضي. كذلك ظهرت الإشكالات الناجمة عن سعي الناس إلى الحصول على ربطة الخبز. تستحوذ المدينة ومحيطها على الاهتمام مع كلّ خبر يُنشر عنها وعن الظروف المعيشيّة فيها، بينما يلوك المسؤولون، نوابًا ووزراء، حديثًا مكررًا عن الإهمال والفقر الذي يعيشه شمال لبنان. لكنّ ما يُقال دوريًا في هذا الصدد، يتجاوز كونه مجرّد كلام مستهلك، إذ تعكسه اليوم وقائع وأرقام مرعبة.

فقر "من نوع آخر"

بحسب أرقام "إدارة الإحصاء المركزي"، ارتفعت البطالة في شمال لبنان من 14 في المئة عام 2019 إلى 32.3 في المئة عام 2022. ووفق تقرير لـ"الإسكوا" حول الفقر المتعدد الأبعاد صدر عام 2021، ثمة مليون عائلة في لبنان تعاني من الفقر، 137 ألفًا منها موجودة في شمال لبنان، و76 ألفًا في عكار، بينما تعاني 50 ألف عائلة من الفقر المدقع في منطقة الشمال و40 ألفًا في منطقة عكار.

 

ويشير بحث لـ"الإسكوا" إلى أن نسبة الأسر المحرومة بلغت 87 في المئة في منطقة التبانة – السويقة عام 2015. أما الحرمان الشديد فوصلت نسبته إلى 52 في المئة، بينما بلغت نسبة الحرمان الاقتصادي 95 في المئة. وتختلف هذه النسب بين منطقة وأخرى في طرابلس بطبيعة الحال، فعلى سبيل المثال، تبلغ نسبة الأسر المحرومة في منطقة البساتين (منطقة الضم والفرز) - وهي منطقة ميسورة نسبيًا - 19 في المئة، ونسبة الحرمان الشديد 5 في المئة، والحرمان الاقتصادي 47 في المئة.

ويرى الخبير في مجال التنمية والسياسات الاجتماعية والمستشار الإقليمي لـ"الإسكوا"، أديب نعمة، أن الفقر في منطقة الشمال يترافق مع تهميش متعمّد من قبل الدولة، سبقته سطوة أمنية فرضها النظام السوري إبان الوجود العسكري السوري في لبنان. غياب السند عن سكان المنطقة، سواء تمثل بالدولة أو الأحزاب أو العشائر، وضعها خارج الحسابات السياسية والاقتصادية، وهو ما دفع أبناءها إلى الهرب عبر البحر بحثًا عن حياة أكثر عدلًا. ويلفت نعمة إلى أن "التهميش المتراكم هو الذي أدّى الى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي وإلى زيادة نسبة الفقر في المدينة، علمًا بأن فقر طرابلس من نوع خاص، إذ بخلاف الأرياف الزراعية البعيدة، يؤدي الاكتظاظ السكاني دوره في جعل حياة سكانها أكثر صعوبة. كما أنه فقرٌ ناجم عن ظروف معيشية وخدماتية سيئة، وكذلك عن شعور بالظلم والتمييز". غير أن عكار، جارة طرابلس، تعيش  بدورها حالة تهميش مطلق، بل تكاد أحداثها تسقط من الذاكرة. لا ذكر اليوم، مثلًا، لضحايا انفجار صهريج المازوت الذي أودى بالعشرات في بلدة التليل العام الماضي.

يعود نعمة إلى تاريخ إهمال منطقة الشمال، الهامشية في معادلة المركز والأطراف. يقول إن وضع المنطقة تحسّن خلال مرحلة الحكم الشهابي في ستينيات القرن الماضي، لكنّ الشمال سرعان ما عاد إلى موقع المهمش اقتصاديًا وسياسيًا، خصوصًا بعد اتفاق "الطائف".

كانت سكة الحديد تمرّ في المنطقة الصناعية بطرابلس، وظلّ القطار يعمل حتى أوائل الحرب الأهليّة قبل أن يتوقف نتيجة كثرة التعديات عليه. كذلك أُنشأت في طرابلس مصفاة للنفط تعد الأكبر في لبنان، ثم توقفت أيضًا بسبب المعارك التي دارت بين حركة "التوحيد الإسلامي" وأبو عمار من جهة، والجيش السوري من جهة أخرى في الثمانينيات.

قبيل اندلاع الحرب الأهلية، حصلت تحوّلات اقتصادية دراماتيكية في طرابلس، تمثل أهمها بإغلاق مصانع في منطقة البحصاص جنوب المدينة. كانت المنطقة تضم مطاحن ومعامل نسيج وحديد وخشب ومرطبات، يعود تأسيس بعضها إلى ثلاثينيات القرن الماضي. أغلقت هذه المصانع تدريجيًا تحت تأثير التحوّلات التي عصفت بالاقتصاد اللبناني، بعدما مال بشكل متزايد نحو قطاع الخدمات وتمركز في بيروت: "لمسنا هذا التحول مباشرة في طرابلس، ورأيناه بأم العين مع بناء منتجعات سياحية بدل المصانع المغلقة"، يقول نعمة.

 

كانت هذه المصانع توظّف آلاف العمال المنظّمين نقابيًا، وكانت نقاباتهم قويّة ومؤثرة. إذ عند كلّ دعوة إلى تنظيم إضراب، كانت المدينة تقفل برُمّتها. وكانت حافلات تخصّ المصانع تنقل مئات من العمال من أحيائهم الفقيرة كلّ صباح (الميناء، القبة، باب التبانة...) إلى أماكن عملهم، وكان هؤلاء العمال يداومون لفترات متواصلة أحيانًا. لكن مع إقفال المصانع، تحوّل هؤلاء العمال إلى سائقي أجرة أو بائعين متجولين. ونجم عن التهميش تَشَكُل عصابات ومجموعات مسلحة يسهل اختراقها من قبل أجهزة الاستخبارات المتعددة، خصوصًا بعد اندلاع الحرب الأهلية. 

ضُربت الطبقة الاجتماعية العاملة الواعية والمنظمة. هُمش دورها وتآكلت مع الوقت. وراح نسيج المدينة الاجتماعي يتغيّر، حتى فقدت طرابلس دورها في الاقتصاد الوطني، وفي التأثير بديناميات البلد الاجتماعية والسياسية.

العقارات في طرابلس

تشير أرقام "الإحصاء المركزي" إلى أن 79.1 في المئة من المساكن في عكار هي عبارة عن شقق، فيما 20 في المئة منها منازل مستقلة وفيلات. أما في طرابلس، فـ 98 في المئة من المساكن هي شقق، و0.9 في المئة منها منازل مستقلة وفيلات. ويبدو الفرز الطبقي واضحًا في طرابلس، بخلاف عكار، حيث منازل الفقراء تتداخل مع الفيلات والشقق الفخمة. في طرابلس، يسكن الأغنياء غالبًا في منطقة الضم والفرز. وهذه المشاريع، بحسب نعمة، هي جزء من المنطق القائم على المضاربة العقارية. كانت هذه المنطقة ممتلئة ببساتين الليمون. ولم يكن الطريق بين طرابلس والميناء موجودًا في الماضي. علمًا بأن توسّع "أحزمة الباطون" في طرابلس كان مدروسًا، من دون أن ينفي ذلك أن بعض التوسع العمراني ذاك كان عشوائيًا، كما هو الحال في منطقتي القبة وأبي سمراء، والذي لم يأت على حساب الليمون والزيتون فحسب، بل أيضًا على حساب الأبنية التراثية الجميلة مثل "السيتي كومبلكس" ومدرسة "الليسيه" وقبلها مدرسة "الطليان". وقد وقعت عشرات الأبنية ضحية هذا التوسع، فأُسقط مبنى "الريفولي" وسواه، وأُغلقت دور السينما على يمين بولفار طرابلس ويساره. بهذا المعنى، ماتت المدينة. كانت أم كلثوم تأمّها في السابق، كذلك كان يفعل الكثير من الفنانين الأجانب الذين غنوا في دار الأوبرا.

 

بين طرابلس وعكار

تنقّل الناسط سعيد السمان، ابن مدينة طرابلس، بين أحياء عدة منها. سكن في "مار مارون" و"شارع عزمي" و"ساحة الدفتار" و"الثقافة" و"النجمة"، وعاد مؤخرًا الى شارع "مار مارون". حفظ المدينة جيدًا، وتأقلم معها إلى حد بات معه قادرًا على التعامل مع أي جديد يطرأ. يعتبر سعيد أن الخوف الحقيقي هو من الجيش، خصوصًا بعد اندلاع "انتفاضة 17 تشرين"، فسعيد خسر شقيقه فواز برصاص الجيش خلال الاحتجاجات. 

بعد تغيير مكان سكنه مرات عدة، لاحظ سعيد صعوبة في السكن حاليًا في طرابلس بالمقارنة مع ما كان عليه الوضع سابقًا. علمًا بأن كلفة الإيجار ما زالت متدنية قياسًا على مدن لبنانية أخرى. إذ يمكن استئجار شقة بنحو 400 ألف ليرة لبنانية في الشهر في المناطق الفقيرة، برغم أن بدلات الإيجار بدأت تتحول إلى الدولار في قلب المدينة. وتشهد طرابلس ظاهرة انهيار أبنية خاصة في منطقة دار الحديد، ويعود ذلك إلى منع ترميمها إلا ربطًا بإجراءات بيروقراطية معقّدة، تحتاج إلى تخصيص مبالغ مالية يصعب على القاطنين تأمينها. علمًا بأن سكان هذه الأبنية لا يتركونها لأنهم قد يجدون أنفسهم بلا مأوى في حال إقدامهم على ذلك، ما يدفعهم إلى تفضيل التعرض لمخاطر ناجمة عن انهيارها.

وتُظهر مقارنة طرابلس بعكار تشابهًا بين المنطقتين لجهة تفشي البطالة وضعف التأمينات الصحية الرسمية والخاصة، إذ يستفيد 56.9 في المئة من سكان عكار من تأمينات الجيش والقوى العاملة، مقابل 19.4 في طرابلس. والنسبة الكبيرة في عكار غير مفاجئة، إذ إن المنطقة تُعتبر "خزان الجيش"، وهذا واقع الحال منذ زمن طويل، بحسب نعمة. يضيف: "في العادة يمضي الشاب بضع سنوات في المدرسة ومن ثم ينضم إما إلى الجيش أو إلى الدرك. قريتا عندقت والقبيات في عكار تحويان بضعة آلاف من العسكريين مثلًا. مسيحيو الأطراف عامةً يدخلون الى الجيش، وبسبب ضرورة الحفاظ على التوازن داخل الجيش بين المسيحيين والمسلمين، فإنهم يحصلون على أفضلية القبول في المؤسسة العسكرية، وبالتالي يحصلون على وظيفة وراتب شهري".

 

يشرح نعمة طبيعة العلاقة بين طرابلس وعكار قائلًا إن طرابلس كانت العاصمة الفعلية للشمال في مجالات الصناعة والتجارة. إذ كانت، إلى جانب مصانعها، تضم أسواقًا قديمة ومدارس كبرى، وكان أبناء بشري وزغرتا ينتقلون في الشتاء إليها بهدف تعليم أبنائهم في مدارس المدينة، وبعضها كان ذائع الصيت مثل "الفرير" و"الآباء العازاريين" و"الليسيه" و"الروم" و"مدرسة الاميركان". وفضلًا عن كون طرابلس مركزًا تعليميًا واستشفائيًا، كان سوقها الكبير يُستخدم جزئيًا للتبادل الزراعي، خصوصًا مع مناطق المنية وعكار والضنية، وكان الناس يأتون إلى أسواقها من كل حدب وصوب للتبضع وللاستفادة من الحِرف الموجودة فيها، كالنجارة وخلافها.

بموازاة ذلك، كان وضع عكار أفضل بقليل قياسًا لما هو عليه اليوم، لأسباب عدة يتصل بعضها بالقدرة على تصريف منتجاتها الزراعية محليًا في طرابلس، وكان الأمر نفسه ينطبق على منطقة الضنيّة. لكن عكار كانت دائمًا تعد أفقر المنطقتين نظرًا إلى طابعها الريفي.

على أطراف "النظام"

بعد ضرب الصناعات في طرابلس واندلاع الحرب الأهلية، أُقصي عدد من سكان المدينة عنها، أولهم المسيحيون المنحدرون من زغرتا وبشري. ووقعت حوادث أليمة، خصوصًا على الحواجز، كمجزرة داريا عام 1976، وهو ما دفع الكثير من أهالي زغرتا وبشري إلى مغادرتها نهائيًا.

في الثمانينيات، بدأ نوع ثان من المشكلات يبرز بين السوريين وأبو عمار، وأخذ الاشتباك الفلسطيني - السوري طابعًا طائفيًا، ما أدى إلى نزوح معظم العلويين من داخل طرابلس إلى منطقة جبل محسن، في مقابل نزوح غير العلويين من جبل محسن إلى طرابلس. ونتيجة الاشتباكات التي وقعت داخل المدينة، تعطل دور أسواقها الداخلية، ومعها تعطلت الحياة الاجتماعية إثر توقف النشاطات والندوات. وبلغت هذه الأزمة ذروتها مع سيطرة حركة "التوحيد الإسلامي" على المدينة لنحو سنتين، مؤسسة بذلك أول "إمارة إسلامية" في تاريخ لبنان. وقد ترافقت هذه الأحداث مع نمو المنتجعات السياحية خارج المدينة، حيث بات الكثير من المقتدرين ماليًا يفضلون السكن في شاليهات على البحر، أو في ددّه وضواحي طرابلس. وقد ضاعف هذا الأمر من إهمال المدينة وحاجاتها، إذ تقلّص الاهتمام بمشكلات بناها التحتية وما تسببه هذه المشكلات من انقطاع في المياه والكهرباء.

وبرغم أن الشمال كان أول منطقة تخرج من الحرب، إلا أن ذلك لم ينعكس ازدهارًا عليها لأنها، بحسب نعمة، قبعت على أطراف نظام الطائف. وقد ظلت ظاهرة رفيق الحريري خارج طرابلس وعكار، إذ لم يكن "مسموحًا" له التمدد إلى هناك. وتعاملت الوصاية السورية مع طرابلس ومحيطها بطريقة مختلفة عن تعاملها مع غيرها من المناطق، فلم تُمنح أيًا من مطالبها الإنمائية.

 

هكذا، بقي الشمال، وطرابلس خصوصًا، منطقة "احتياط"، حتى بالنسبة لتيار "المستقبل"، وكذلك لكثير من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى. وراحت تتحوّل إلى صندوق بريد لتبادل الرسائل، ولتأمين الحشود في ذكرى 14 آذار مثلًا، فيما كان الكثير من أهلها يُشغّلون، باعتبارهم فقراء، في الحراسة والمطاعم وسوى ذلك.

وبقيت طرابلس متمايزة عن بقية المناطق حتى خلال "انتفاضة 17 تشرين" 2019، حيث تظاهر الكثير من أبنائها ضد أقطابها السياسيين، ونُظمت مسيرات منددة بفعاليات المدينة. لكن هذه التحركات أضعفت المدينة أكثر، يقول نعمة، لأنها أخفقت في إنتاج قيادات بديلة، في الوقت الذي زعزعت فيه العلاقةَ بين الطرابلسيين وزعامات المدينة، وباتت وضعيةُ الأخيرين في النظام اللبناني هشة، ما عطّل قدرتهم على التفاوض مع أقطاب النظام الآخرين بغرض تحقيق مكاسب جزئية.

برغم كل ما سبق، يرى نعمة أن أي خطة لبناء اقتصاد منتج يجب أن تنطلق من طرابلس، "فالمنطقة الصناعية التي تمر بها سكة الحديد لا تزال موجودة وفارغة، والعقارات وهياكل المصانع مهجورة أيضًا. كما أن أسعار العقارات في طرابلس وضواحيها زهيدة. والأمر نفسه ينطبق على القوى العاملة والبنى التحتية الموجودة في المدينة". ويضيف أنه لعكار دور أساسي في هذا السياق، على اعتبار أنها تتضمن مساحات تسمح ببناء منشآت، وفيها مطار يمكن استخدامه وتطويره، أما على الحدود بين طرابلس وعكار في منطقة البداوي والمنية، فهناك أيضًا محطة كهرباء… وكذلك مصفاة للنفط.

* أُنجز هذا التقرير بدعم من “صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان” Journalists for Human Rights.

                                                                    

برامج الدعم الاجتماعي في لبنان: ما هي ثغراتها؟

كيف تؤثر موافقة البنك الدولي على تمويل شبكة الأمان الاجتماعي في لبنان بمبلغ 300 مليون دولار إضافي على..

غادة حداد
جنّة الدَولرة تستثني الرواتب

كيف تنعكس دَولرة الاقتصاد اللبناني على العمال، وما تأثيرها على أرباب العمل والاقتصاد عمومًا؟ وفي ظلّ عدم..

غادة حداد
برامج الدعم الاجتماعي في لبنان: ضمادة على جرح نازف

تمكّن برامج الدعم الاجتماعي الكثير من الأسر الأكثر فقرًا في لبنان من تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش،..

غادة حداد

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة