حين زرت مدريد للمرّة الأولى، لفتت نظري طوابير طويلة يصطف فيها البشر في انتظار أمرٍ ما، أمرٍ كان مجهولًا بالنسبة لي حينذاك. فالطابور لا يفضي إلى معلمٍ سياحيّ أو فعاليّة ثقافيّة أو رياضيّة. وفي حال كنتَ قادمًا من البلاد التي أتيتُ منها، لا بدّ أن يخطر لك أيضًا أنه لا يفضي إلى مخبزٍ أو مكتب تحويل نقود أيضًا.
أتممتُ ثلاث سنوات في إسبانيا. قبل أسبوعين كان الكريسماس الرابع الّذي أمضيه بعيدًا عن عائلتي الكبيرة. قرّرتُ في العام الماضي أن أندمج - ولو شكليًّا - في التقاليد الإسبانيّة، علّني أحيي شيئًا من بهجة الميلاد في قلبي وقلب عائلتي الصغيرة.
مظاهر العيد في المدينة التي أسكنها، كما في كثير من المدن الأوروبية، تبدأ منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني. تدخل لتشتري غرضًا على السّريع، فيفتح لك بابَ السوبرماركت صوتُ خوسيه فيليثيانو صارخًا في وجهك Feliz Navidad.
الشوارع تضاء والأشجار تُزيَّن، أكشاكُ الميلاد تنتشر هنا وهناك، والساحات تصير مدنَ ملاهٍ صغيرةً حمراء وخضراء. تماثيلُ ضخمة ليوسف النجار والعذراء مريم والطفل يسوع، تصبح قبلة الناس.
في هذا العام، أُضيفت إليها تماثيل للملوك المجوس الثلاثة يتحلّقون حول المهد، وعدد من الملائكة بفساتين ملوّنة تأخذ استراحتها في شوارع المدينة.
أحبّ يوسف النجار. من بين شخصيات الكتاب المقدس أجده الأكثر تفانيًا. كان يكدح من أجل عائلته بصمت، ويهرب بها بصمت، ويودّع وحيده بصمتٍ أيضًا. لطالما أحببتُ عمّي منصور النجار في كتاب القراءة، ربّما كانت قصيدته الوحيدة التي كان المنشار فيها يضحك. ولديّ خال نجّار أحبّه أيضًا. في المرات القليلة التي دخلت ورشته تشبّعت برائحة النشارة.
حضرت قبل أيام فيلم بينوكيو الجديد على "نتفلكس" من بعد قراءات ومشاهدات نسخ مختلفة من هذه القصة الملهمة، منذ الطفولة وحتّى اليوم. لكن الأمر الذي لم أعره اهتمامًا من قبل، هو رمزيّة أن يكون والد بينوكيو نجّارًا، وارتباط الخلق بهذه المهنة الرّائعة. في مشهد مؤثّر من الفيلم، يقف بينوكيو في الكنيسة أمام تمثال خشبيّ ليسوع المسيح على الصليب، ويسأل والده: لماذا يحبه النّاس ويكرهونني، وكلانا من الخشب؟
صحيح أنّك في هذه البلاد تُزجّ داخل الأجواء الميلاديّة مبكرًا، إلاّ أنّ دخول الكريسماس بشكلٍ رسميّ لا يحدث حتى الثاني والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، يوم يجري سحب اللوتو الأشهر والأكبر في البلاد: el Gordo.
في هذا اليوم، يقوم أطفال مدرسة سان إلديفونسو في مدريد بغناء الأرقام الفائزة، بعدما تمرّنوا كثيرًا على السّرعة بتلاوة أرقام من خمس خانات برتم معيّن. في الماضي، كانت هذه المدرسة للأيتام، لكن تلاميذها اليوم هم من أطفال مدريد أو القاطنين فيها. تخيّل: كان الفائز يُبشَّر بتغيّر أرقام حسابه البنكيّ من قبل أطفالٍ فقدوا عائلاتهم.
أحبّ منطقة المحطة، فهي تدخلني مدريد وتخرجني منها.. دائمًا ما كانت العلاقة بيني وبين هذه المدينة على هذا النّحو، متأرجحةً بين الارتماء والهروب
في هذه الدورة، كانت البطاقة الفائزة تنتهي بالرقم 90. قرأت في إحدى الصحف أن أحد الفائزين انتقى هذا الرقم لأنه ينتهي بعمر والده المتوفى لو كان على قيد الحياة اليوم. كان هذا ما دأب الرجل على فعله طيلة حياته: يشتري بطاقة تنتهي برقم يماثل عمره، إلى أن رحل قبل عامين. فكّرت بأن ذلك الرجل قد قضى عمره يحاول أن يترك إرثًا لابنه، وأنّ الموت لم يستطع إيقافه. "هزمتك يا موتُ.." محبّة الآباء.
يحرص الإعلام على رصد مثل هذه القصص المؤثرة وأحيانًا قصصٍ أخرى طريفة، مرتبطةٍ برحلاتِ اختيار الرقم الفائز من قبل الأشخاص العشرة الأكثر حظًّا في البلاد.
في يوم 21 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، قررت أن أقف في واحد من تلك الطوابير الطويلة، وأشتري بطاقتي للمرّة الأولى كي أكفّ ولو ظاهريًّا عن العيش كزائرة ضجرة طوال الوقت، حقيبتها جاهزة من أجل العودة إلى البيت، وأتتبّع تقاليد البلد الّذي أسكنه، ابتداءً من هوس ناسه باللوتو. وقفت أتأمّل الأرقام المتبقيّة المعروضة وقرّرتُ أن آخذ البطاقة المحجوبة عنّي، أردت للأمر أن يكون قدريًّا بشكلٍ كامل.
نامت في تلك الليلة داخل حقيبتي بطاقة لوتو عيد الميلاد التي تحمل صورة للوحة "العذراء والطفل في المجد" لـ كارلو ماراتي، المعروضة في متحف برادو في مدريد. تحمل البطاقة أيضًا رقمًا عشوائيًّا شاركني إيّاه تسعة أشخاص غرباء، لا أعرف إن كانوا قد شاركوني أحلام تلك الليلة ذاتها أم لا. في الحقيقة، هو حلم واحد أن أفوز وأشتري بيتًا للعائلة، أن أشتري وقتًا مع العائلة، وليالي كريسماس قادمة برفقتهم.
لم يغنِّ واحد من الأطفال رقمي العشوائي، والبيت الّذي تعمّر في رأسي، ذهب مفتاحه إلى أحدٍ آخر. ليست أوّل مرّة أخسر فيها بيتًا على أي حال.
فكّرت أن أبحث عن التسعة الّذين صاروا شركائي في الخسارة لنشرب معًا نخب الحظّ السّيئ، أو ربما الشوكولا الساخنة ونغمّس فيها التشوروس في مقهى رصيف ترتدي النادلةُ فيه قبعة بابا نويل. هكذا أدّعي أنّني واحدة منهم. كلّ الّذي خسرته سعر عُشر البطاقة، فيما أتابع طقوس العيد بأمانة شديدة.
البطاقة الرابحة في سنة 2021 بيعت في محطّة قطارات أتوتشا في مدريد، أي أن الفائزين العشرة كانوا غالبًا من المسافرين. وبما أنّي كنت من المسافرين، ربّما تصادمت أكتافنا في الزحام، لكن لم يخطر في بالي حينها أن أشتري حلمًا عابرًا وأهشّمه لاحقًا.
أحبّ منطقة المحطة، فهي تدخلني مدريد وتخرجني منها. دائمًا ما كانت العلاقة بيني وبين هذه المدينة على هذا النّحو، متأرجحةً بين الارتماء والهروب. كما أن المحطة قريبة من منطقة المتاحف الّتي أحبّ أن أمضي وقتي فيها.
أتأمّل العذراء على اللوحة تضع طفلها في حضنها وتمسكه بيديها. لا أذكر الوقت الذي توقفته قبالتها في المتحف، وتخيّلت أنّي وطفلتي نصلح أحيانًا لأن نكون داخل لوحة، كلّ أم وطفلها كذلك.
بينما أقلّب لوحات فيها يوسف النجار، لفتتني واحدة فيها الطفل يسوع يناول يوسف سلّةً تحتوي أدوات النّجارة. لوحة تصوّر يومًا عاديًّا لأب عاديّ ولابنٍ مثل كلّ الأبناء في صغرهم، يحبّ مهنة أبيه.
لم أستطع بعد أن أفهم كيف يختار النّاس مهنهم بثقة، فها أنا أقترب من الـ40 ومازلت أبحث عن مهنةٍ أرغب بممارستها فعلًا. كانت لديّ مهنة في السابق، لكن رغم مزاولتي لها لاثنتي عشرة سنة، بقيت طوال الوقت أتعامل معها على أنّها مؤقتة. وحين تركتها ومضيت، لم يترك الأمر فجوةً إلاّ في سيرتي الذاتية. أحبّ الكتابة وأخاف أن أشتغل عندها. لا أعرف ما المسمّى الأفضل للكتابة في حياتي، هي موجودة فحسب.
سوف تنتهي عطلة الأعياد قريبًا، ويعود الناس إلى أشغالهم بينما أتابع محاولات إيجاد عمل. تلك المحاولات التي تعمّق شعورك بأنك غريب.
في ليلة رأس السنة، جريًا على التقليد الإسباني، انتظرت دقات الساعة الاثنتي عشرة، حتى آكل حبة عنب مع كلّ دقّة. كان الطعم الحلو للحظّ يذوب في فمي.
غدًا، ليلة عيد الغطاس في بلادي. عادة في هذه الليلة تجتمع نسوة العائلة كي يحضّرن عجينة القراص، وهو نوع من الحلويات خاصّ بهذا العيد، ومن الممكن تكراره في فترات ثانية من السنة في عائلتي، أثناء التحضير لإجازة الصيف في المدينة الساحلية القريبة. كانت المفضلة لدي تلك الأقراص الصغيرة الحجم منها، تسميها جدتي بحابيح. إلى اليوم، حين أخرج من مياه البحر - أيّ بحر كان - بعد غياب الشمس، طعم الملح على شفتيّ، أبحث عن جدتي على الشاطئ كي تناولني بحبوحة. أمسكها بأصابعي التي جعّدها طول التبلّل، وألوكها مع حبيبات الرمال الذهبية العالقة على يدي. كان اسم الشاطئ الرمال الذهبية.
لا أشجار في شارع بيتنا حتى تعلَّق عليها العجينة وتبارك في الليل كما هو التقليد المتّبع تاريخيًا لهذا العيد. كانت أمي تترك شجرة عيد الميلاد مضاءة في هذه الليلة، بينما نحن نيام. لم أفهم كيف يحتاج "نور العالم" إلى ضوء خافت يقوده إلى بيتنا. كان حينها يسكن في قلبي، أو هكذا كنت أظنّ.
كنّا نحظى أحيانًا بزيارة سريعة من الكاهن كي يرشّ البيت بالماء المقدس.
أيضًا، كانت تحضَّر في هذه الليلة القطايف المحشوة بالقشطة والجوز، ويجلب بابا معه العوامات والمشبّك.
أمّا هنا، في إسبانيا، فسوف يحتفلون بالملوك المجوس الثلاثة، ويتبادلون الهدايا إحياء لذكرى الهدايا التي جلبها المجوس للطفل يسوع "الذهب والمر والبخور"، من بعد أن دخل بابا نويل بيوتهم من مدخنة الميديا الأميركية، وجلب لهم هدايا مبكرة.
في العام الماضي، جلبت الهدايا لزوجي وابنتي ولي، وحلوى الروسكون التقليدية. كانت حبة الفول المجفّفة المخبأة في داخلها من نصيبي، من تكون من نصيبه عادة يتوجب عليه أن يدفع ثمن الحلوى، لكنّي من اشتراها بالأصل، قلت: ليس جديدًا عليّ أن أدفع ثمن ما دفعت ثمنه أصلًا.
في سنتي الأولى هنا، حضرت الكرنفال الاحتفالي السنوي. كانت ابنتي تنمو في داخلي. انحشرت بين أطفال المدينة وعائلاتهم. قلت ألتقط شيئًا من الهدايا والسكاكر التي سيرمينا بها الملوك أثناء مرورهم، وأحتفظ به لابنتي. غدًا سوف أدعها هي تقوم بالمهمّة، بعدما استعارت يدي لكتابة رسالتها لهم في هذا العام.
في صغري لم يُتح لي أن أكتب رسائل لبابا نويل، أخبره فيها كم كنتُ فتاةً صالحة، وكم أستحقّ الهدايا التي سيجلبها لي. لطالما عرفت أنّه خرافة، حتّى إننا في حفلات المدرسة كنّا نتراهن حول من يرتدي زيّه في هذا العيد. سوف أحاول هذه المرّة أن أراسل غيره.
أعزائي المجوس، أريد مهنةً تحبّها ابنتي، ورحلة قصيرة إلى شجرة بيتنا، لست بحاجة إلى نجمٍ يهديني، شكرًا.