يوم الأحد قبل الماضي، وفي تقليدٍ بات أشبه بالروتين منذ عشرة أشهر، انطلقت في مدن إسبانية عديدة المظاهرات الداعمة لفلسطين والمطالبة بوقف الإبادة. ها هو علم فلسطين يرفرف من على جسر توليدو فوق نهر مدريد الّذي لا يبعد اليوم كثيرًا عنّي، وها هي قطع البطّيخ الأحمر توزَّع على المشاركين في أحد شواطئ أليكانتي، مدينتي السابقة.
في زيارتي الأولى إلى إسبانيا، اشتريت منشفة بحر دائرية كبيرة لها شكل شريحة بطيخ. لم أكن في ذلك الوقت أعرف رمزية الفاكهة الصيفية العزيزة هذه. رافقتني المنشفة في زياراتي إلى شواطئ سوريا وإسبانيا، إلى أن استقرّت معي في مسقط رأسها منذ خمس سنوات. الآن لم تعد تمثّل لي ما صُنعت من أجله فحسب.
في آخر زيارة لي إلى شاطئ سان خوان في أليكانتي، تأملت قمة جبل آيتانا، وكنتُ قد قرأت قبل أيام مقالة لصديقي نور دكرلي في "أوان"، يقول فيها إنّ "أشجار الكرز هي آخر ما يراه الهاربون من البلد عبر المعابر الجبلية الممتدة من جبال القلمون السورية حتى عرسال"، ما ذكّرني بأن آخر ما رآه رفائيل ألبيرتي من إسبانيا في رحلته نحو منفاه هو قمة جبل آيتانا، قبل أن يطلق لاحقًا على ابنته اسم آيتانا.
وفقًا لمقالة منشورة في كانون الثاني/يناير الماضي في صحيفة إشبيلية، هناك اليوم 32844 أنثى إسبانية تحمل هذا الاسم الذي وُلد مع ولادة آيتانا ألبيرتي 1941، الاسم الذي لم يظهر في السجلات المدنية حتى السبعينيات والانتقال من دكتاتورية فرانكو إلى الديمقراطية.
في تلك الزيارة الأولى إلى إسبانيا، حضرتُ معرض "إسبانيا والصحافة الأيبيرية: 40 عامًا من تاريخ الديمقراطية 1978-2018". على امتداد شارع "لا إكسبلانادا" الموازي لرصيف ميناء أليكانتي، المكتظ عادة بالسياح، انتصبت مختارات منتخبة من الصفحات الأولى الصادرة خلال سنوات الديمقراطية الأربعين.
رُحت أتجول بينها محاولة البحث عن مانشيتات للأمور التي تعنيني في الحياة: الشعر، كرة القدم، والشرق الأوسط.
وبالفعل مرَرتُ بخبر انطلاق كأس العالم 1982، حين كان منتخبي المفضّل يحظى بأفضل تشكيلة في تاريخه، وبصورة ياسر عرفات مع بيل كلنتون في حديقة البيت الأبيض قبل 25 سنة من وقوفي قبالة الصورة.
كانت المنشفة الجديدة في حقيبتي والشاطئ على بعد أمتار قليلة منّي.
يأخذنا ألكوبيرو في رحلة داخل سيرته: بمشهد القادمين من الريف ليودّعوا عبد الناصر، وبيد صدام التي فكّر بالاحتفاظ بها بعد إسقاط التمثال
أحاول أن أتذكر آخر ما رأيته من سوريا قبل أن أغادرها، فلا أفلح بالعثور في فراغات ذاكرتي على أي شجرة أو تلة، ولا حتى مقعد حديقة أو محادثة عابرة.
لحظة.. بلى أذكر نتفًا بسيطة من زيارة أخيرة إلى شاطئ وادي قنديل، وصورة على أرجوحة متهالكة تطلّ على البحر، وضحكات ربّما انتهت بدموع ــــ أو العكس ــــ تقاسمتُها مع صديقة بينما الماء يروح ويجيء بنا، طائرة ورقية نجحتُ على غير عادتي في أن أدعها تحلّق عاليًا.
هل يمكنني إذًا اعتبار أنّي أنهيت حكايتي هناك بالبحر وبدأتها هنا بالبحر؟
منذ عام 2000، انطلقت محاولاتي كي أعيش في دمشق: دراسة، عمل، حبّ، نزوح.. وكلّها باءت بالفشل لتقتصر علاقتي بالعاصمة على الزيارات التي كنتُ أحرص على عدم انقطاعها، كما حرصت لاحقًا على زياراتي لمدريد.
* * * * *
في الإهداء الذي خطه لي الصحافي توماس ألكوبيرو على كتابه الأخير في منتصف أيلول/سبتمبر 2023، كتب أنه سعيدٌ بلقائي في بلاد الشام الأخرى، وهو تعريبي حينها لاستخدامه عبارة:
Otro Levante
وذلك قبل أن أعود وأنتبه إلى أن مفردة " Levante" هي أيضًا مصطلح يُشار به إلى المناطق الإسبانيّة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، خصوصًا تلك المقابلة لمنطقة بالنسيا، أي حيث التقيت ألكوبيرو، وذلك ما عناه الرجل الكتلاني الثمانيني الذي يعتبر بيروت مدينته.
كنتُ وقتها أحضر حدثًا مخصّصًا لعرض كتابه. قبلها لم أكن أعرف شيئًا عن أقدم مراسل غربي في الشرق الأوسط.
الكتاب يحمل عنوان "ثمة شيءٌ لقوله"، ويأخذنا في رحلة داخل سيرته الغنيّة: فوّتنا معه آخر رحلة في تاريخ قطار الشرق السريع، وشاركناه رحلته في آخر تاكسي وصلَت من القدس إلى بيروت. مررنا بشغفه المبكر بكتابة القصص في طفولته في كتالونيا، وبعشاء مع ماركيز، وبمشهد القادمين من الريف ليودعوا جمال عبد الناصر، وبيد صدام حسين التي فكر ألكوبيرو بالاحتفاظ بها بعد إسقاط التمثال، وبياسر عرفات مشغولًا بإصلاح شريط الهاتف في مكتبه، وباحتلال بيت ألكوبيرو في بيروت الغربية بينما هو في دمشق هربًا من ضجيج الحرب، وبعودته ودعوته إلى فنجان قهوة من قبل السيدة التي احتلت بيته.. وبمحطات كثيرة امتدت حتى انفجار مرفأ بيروت 2020!
صورة الغلاف هي لرجل يحمل الكلاشينكوف، وهذا الرجل ليس إلا ألكوبيرو ذاته. والكلاشينكوف الذي في يده تعود ملكيته لشابٍّ فلسطينيّ هو من التقط له الصورة خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
يصف ألكوبيرو الكلاشينكوف بسلاح الفقراء. يخطئ أثناء المحاضرة بلفظ اسم السلاح، لأتمتمه مصحّحةً، والهتاف الشهير يدور في داخلي "ما في خوف ما في خوف.." لكن هل حقًّا مرّ يومٌ لم أكن فيه خائفة؟
من وجهة نظر ألكوبيرو"الخوف مثل الإيمان، تملكه أو لا تملكه، تؤمن أو لا تؤمن".
انتهى الكتاب بورودٍ على شرفة بيت ألكوبيرو في حمرا بيروت/مدينته بالاختيار، والمدينة التي كنت أحرص خلال إقامتي في سوريا على زيارتها أيضًا، من دون أن أفكر بأن أسكنها.
أخيرًا، وبعد 24 سنة من محاولة العيش في العاصمة أفلحت. وها أنا أكمل شهرين من حياة جديدة في دمشق، أقصد في مدريد. أيها الأصلح لأسمّيها مدينتي؟ حمص، مدريد، اللاذقية، دمشق، أليكانتي؟ أم أنّي لم أصلها بعد؟
في القصيدة التي كتبها ألبيرتي لابنته إيتانا يقول: "لا تنسي أنه حتى الهواء يمكن أن يتجرّد من أوراقه في الرحلة".
المفترض أنّي الآن أكتب عن الهجرة، لكن كل كتابة عن واحدنا صارت تذهب به نحو فلسطين، وكل كتابة عن فلسطين صارت تذهب نحو واحدنا. لم يعد هناك ما يصنع حدودًا بين ما أعيشه بشكل شخصيّ وبين ما يحدث على الطرف الآخر من المتوسط.
إيتانا ألبيرتي شاعرة أيضًا، ولها قصيدة بعنوان "التاسع من أغسطس"، تقول فيها:
اليوم هو عيد ميلادي
ومحمود درويش قد مات للتوّ
لقد قالها نيرودا بالفعل:
دماء الأطفال تسيل ببساطة
مثل دماء الأطفال في مدريد/في الفلوجة/ في بغداد/ في غزة / في الجولان
ما المهمّ في أين تسيل؟