الجامعة اللبنانية تصارع من أجل البقاء

تواجه الجامعة اللبنانية اليوم واحدة من أصعب الأزمات منذ نشأتها. فرواتب الأساتذة لا تكفي لتغطية تكاليف نقلهم إلى الحرم الجامعي، وميزانيتها لا تكفي لتأمين المصاريف التشغيلية. ما الذي تقوله لنا الأرقام؟

بدأ العام الدراسي في الجامعة اللبنانية متعثرًا، بعد مرحلة توقّف قسري عن العمل منذ آذار/مارس 2022 نتيجة الأزمة الاقتصادية التي كادت تُجهز على ما تبقّى من عوامل صمود في الجامعة الوطنية. بحسب قانون الجامعة، يبدأ العام الدراسي في جميع الكليات خلال الأيام العشرة الأولى من تشرين الأول/أكتوبر. غير أن مواعيد بدء التدريس تأخرت في معظم الكليات والمعاهد حتى منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وتفاوتت بين كليّة وأخرى مع إعلان إدارة الجامعة عن عودة التعليم الحضوري لثلاثة أو أربعة أيام أسبوعيًا. وقد ترافق العام الدراسي مع صعوبات كثيرة، أهمها ما يتصل بضعف رواتب الأساتذة التي لا تكفي لتغطية تكاليف نقلهم إلى الحرم الجامعي، وميزانيةٍ جامعيةٍ لا تكفي لتأمين مصاريفها التشغيلية.

وتواجه الجامعة اللبنانية تحديات تجعل قدرتها على الاستمرار بفاعليّة على المحك. إذ إنّ موازنتها تقلّصت عشرين مرة بحسب المستشار الإعلامي لرئاسة الجامعة د. علي رمال. وهي تحتاج راهنًا إلى ألف مليار ليرة لبنانية أو ما يعادلها على سعر صرف اليوم. علمًا بأن الموارد المتوفرة بحسب الميزانية الحالية لا تكفي لتغطية نفقات المازوت والورق ومعدات المختبرات. ولزيادة المداخيل، عمدت الإدارة في 31 تشرين الأول/أكتوبر إلى رفع رسوم التسجيل بمقدار نحو خمسة أضعاف. وقد أشار رمال إلى أن الجامعة موعودة بإضافة 400 مليار ليرة إلى ميزانيتها، فيما تبرعت منظمة "اليونيسف" بتركيب ألواح طاقة شمسية في جميع الوحدات الجامعية السبعين.

تدمير الجامعة: مصالح وزبائنية

يشير كتاب "قضايا الجامعة اللبنانية وإصلاحها"، من تأليف مجموعة من الباحثين (عدنان الأمين، أحمد بيضون، ملحم شاوول، أنطوان حداد، وخليل نورالدين)، إلى أن قرار تفريع الجامعة الصادر عام 1977 شكّل أولَ ضربة لها، حيث ترافق مع تعطيل مجلس الجامعة والمجالس التمثيلية والاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية. وقد سهّل التفريعُ حصولَ تداخل بين المجالين الأكاديمي والسياسي، ومهّد بالتالي للمحاصصة فيها بين القوى السياسية النافذة ولبسط بعض القوى سيطرتها على عدد من الكليات حيث أمكن لها ذلك، بالقوة العارية أحيانًا.

أما بعد الحرب الأهليّة، فإن واقع الجامعة أخذ يعكسُ سياسات الحكومات المتعاقبة التي دمّرت القطاع العام. وما رسّخ هيمنة أحزاب السلطة عليها كان القرار رقم 42 الصادر في 19 آذار/مارس 1997 في عهد رئيس الجامعة د. أسعد دياب، والذي نصّ على نقل صلاحية التفرّغ في الجامعة منها إلى مجلس الوزراء.  

لم يعد الوضعُ الماديُ للأساتذة مجرد مطلب، بل تحوّل إلى حاجة ملحّة لضمان استمرارية الجامعة

ويعتبر رئيس الجامعة اللبنانية السابق، د. عدنان السيد حسين أن أزمة الجامعة بدأت مع غياب مجلسها. إذ إن ملف تعيين العمداء معطلٌ في مجلس الوزراء بسبب الخلاف حول الحصص. وبغياب العمداء لا يمكن تشكيل مجلس للجامعة، علمًا بأن الأخير له دور محوري لجهة إقرار اتحاد الطلبة، ومتابعة الحاجات الأكاديمية، وحل المشكلات المتعلّقة بالصيانة وخلافها. 

ويعدّد السيد حسين التدابير المفترض اتخاذها لإنقاذ الجامعة اللبنانية؛ وبينها تكوين مجلس للجامعة، وتخصيص ميزانية منطقيّة، ورفع رسوم التسجيل، وتثبيت الأساتذة الكفوئين، وتحديد الملاكات والحاجات. وفي عملية قطع حساب قام بها السيد حسين وفريقه، تبيّن لهم أن الجامعة خسرت 130 مليار ليرة لبنانية من موازنتها بين عاميّ 2004 و2013.

ويشير السيد حسين إلى وجود نقص دائم في ميزانية الجامعة. فخلال العام الأخير له كرئيس للجامعة عام 2016، بلغت قيمة الموازنة التي طالب بتأمينها 350 مليار ليرة، لم ينل منها سوى 280 مليار ليرة. 

ويعدّد السيد حسين المشاريع الإنتاجية في بعض الكليات التطبيقية والمختبرات التي يمكن أن تساهم في رفع مدخول الجامعة، ومنها المركز الصحي الجامعي في "مجمع الحدث الجامعي" بين كليتي الصحة والطب، وكلية طب الأسنان، وخلاف ذلك. 

وبما أن الجامعة مؤسسة عامة مستقلة، فإن ذلك يعطيها صلاحية طلب تفرّغِ أساتذةٍ كل عام. وهناك حاجة لذلك بسبب النقص الناجم عن تقاعد أساتذة ومغادرة أو هجرة أساتذة آخرين، خصوصًا خلال العامين الماضيين. وقد صدر قرار التفرغ الأخير في عهد السيد حسين عام 2014. ومنذ ذلك الحين تقاعد أكثر من 600 أستاذ، ما أحدث نقصًا في الكادر التعليمي لبعض الكليات كالعلوم الاقتصادية، وإدارة الأعمال، والجغرافيا، والأدب الإنكليزي، والصحة العامة وغيرها.

ويؤكد السيد حسين أن الجامعة اللبنانية "لن تُقفل أبوابها" على اعتبار أن وجودها حاجة ضرورية، إذ إنها تضمّ نحو 80 ألف طالب لا يمكن احتواؤهم في سائر الجامعات بسبب عدم قدرة الكثير منهم على الانتساب إلى جامعات خاصة، بما فيها تلك الضعيفة المستحدثة، في ظل ضعف قدراتهم المادية. 

أزمة الجامعة اللبنانية والتعليم العالي

تطرح الأستاذة في الجامعة اللبنانية وفاء نون أسئلة كبيرة في خضم الأزمة الوجودية التي تعاني منها الجامعة، أولها ما يتصل بأهداف التعليم العالي، حيث تعتبر أن وظيفة الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة في لبنان باتت تتمثل بـ"تهجير الطلاب" عبر إصدار شهادات تخولهم إيجاد عملٍ في الخارج. فيما يفترض بها أن "تؤمن الحضور والاختلاط، وأن تيسّر النقاش العلمي مع الأساتذة، والنقاش الفكري والسياسي والديني بين الطلاب".

وتلفُت نون إلى أن نسبة كبيرة من أساتذة الجامعة غادروا البلد، تحديدًا في الكليات التطبيقية. أما من بقي منهم فقد خرق قانونَ التفرغ الذي تكمُن غايته أساسًا في تحقيق الأمن الوظيفي للأستاذ، حيث لا يحتاج معه إلى عمل إضافي. هكذا، بات عدد كبير من الأساتذة يجد نفسه مضطرًا إلى التدريس في جامعات خاصة ومدارس. أما المتعاقدون فوضعهم أكثر صعوبة  بسبب ضآلة رواتبهم والتباعد الزمني بين تقاضي راتب وآخر.

ولم يعد الوضعُ الماديُ للأساتذة مجرد مطلب، تقول نون. بل تحوّل إلى حاجة ملحّة لضمان استمرارية الجامعة. وفي حين ترافق التوقّف القسري للجامعة مع إطلاق رابطة الأساتذة شعار "أنقذوا الجامعة اللبنانية"، تتساءل عن الجهة التي يُراد إنقاذها منها، في ظل "هيمنة أحزاب السلطة على القرار الجامعي". 

وتلقي نون باللائمة على قسم من الأساتذة الذين ارتضوا حصر المطالب بـ"عناوين ضيقة"، واصفة الأمر بالـ"مجزرة المرتكبة بحق العمل النقابي". وتعتبر نون أن التحركات استُغلت من قبل أحزاب السلطة، وشكّل الطلاب وقود هذه التحركات. كما تلفت إلى قصر نظر الإدارة بتعويلها على قدوم طلاب جدد من الجامعات الخاصة، إذ إن هناك طلابًا سيغادرون الجامعة اللبنانية في المقابل، بسبب عدم قدرتهم على تحمل تكاليف التعليم الجامعي. 

 

* أُنجز هذا التقرير بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

                                                                    

برامج الدعم الاجتماعي في لبنان: ما هي ثغراتها؟

كيف تؤثر موافقة البنك الدولي على تمويل شبكة الأمان الاجتماعي في لبنان بمبلغ 300 مليون دولار إضافي على..

غادة حداد
جنّة الدَولرة تستثني الرواتب

كيف تنعكس دَولرة الاقتصاد اللبناني على العمال، وما تأثيرها على أرباب العمل والاقتصاد عمومًا؟ وفي ظلّ عدم..

غادة حداد
برامج الدعم الاجتماعي في لبنان: ضمادة على جرح نازف

تمكّن برامج الدعم الاجتماعي الكثير من الأسر الأكثر فقرًا في لبنان من تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش،..

غادة حداد

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة