جنّة الدَولرة تستثني الرواتب

كيف تنعكس دَولرة الاقتصاد اللبناني على العمال، وما تأثيرها على أرباب العمل والاقتصاد عمومًا؟ وفي ظلّ عدم اندراجها في سياق خطة شاملة، هل تزيد من مخاطر عزلة لبنان الماليّة؟

يعمل حسين في مؤسسة صناعية متخصّصة بحلول الطاقة من المولّدات الكهربائية والطاقة البديلة، لديها، إلى جانب الفرع الرئيسي في لبنان، أربعة فروع حول العالم.

تبلّغ موظفو المؤسسة قبل شهرين قرارها تغييرَ آلية دفع الرواتب، والتي كانت تقوم على دفع نصف الراتب بالدولار الأميركي ونصفه الآخر على سعر صرف 17 ألف ليرة لبنانيّة للدولار (سعر الصرف الحقيقي كان يبلغ نحو 87 ألف ل.ل. عند إعداد هذا التقرير). 

كانت النسب هذه تختلف قليلًا بين قسم وآخر في الشركة، لكنها كانت واضحة. أما الآلية المُستحدثة التي أُعلن عنها، فشابها الغموض. وحين جاء موعد تحصيل الرواتب آخر الشهر، فوجئ الموظفون بتدني قيمة رواتبهم بنحو 200 دولار.

وبعد محاولات عدّة للحصول على إجابات من الإدارة، تبيّن أن الراتب بات بالليرة اللبنانية، يُضاف إليه بدل نقل ومبلغ بالدولار مدرج تحت عنوان "مساعدة اجتماعية"، لا يدخل في أساس الراتب، ولا ضمن التعويضات، ولا تدفع الشركة ضريبة عليه.

جمعية الصناعيين: لن تعود الأجور كالسابق

بدأ تطبيق قرار التسعير والدفع بالدولار الأميركي في السوبرماركت في شباط/فبراير الماضي بناء على قرار وزارة الاقتصاد. وجاء القرار بهدف الحدّ من التلاعب في الأسواق لجهة التباين في تسعير البضائع. 

وفي حين بدا المشهد شبيهًا بواقع ما قبل الانهيار، على اعتبار أن اللبنانيين كانوا معتادين على التعامل اليومي بالدولار، فقد طالت الدَولرة القطاعات كافّة باستثناء الأجور. وبرغم التعديلات التي طرأت على الحد الأدنى للأجور، فضلًا عن الزيادات والمساعدات الاجتماعية، إلا أن الحد الأدنى اليوم يقلّ عن 100 دولار أميركي، فيما كان قبل الأزمة يساوي 450 دولار.

يؤكد نائب رئيس "جمعية الصناعيين" زياد بكداش أن الجمعية ليست ضد مبدأ دَولرة الرواتب، خصوصًا في ظلّ غياب سيناريو واضح لما سيؤول إليه سعر صرف الدولار، الذي "يمكن أن يصل إلى 500 ألف ل.ل. ويغدو معه الحد الأدنى للأجور 50 مليون ليرة". وفي حال عاد سعر الصرف للانخفاض، يقول بكداش، "لا يمكن العودة إلى الوراء وتخفيض الرواتب، لذلك، فالأفضل اعتبار الحد الأدنى للأجور 100 دولار أميركي عوضًا عن 9 ملايين ل.ل.".

مع ذلك، يرفض بكداش مقارنة الوضع بما كان عليه قبل عام 2019 لأن "رقم المبيعات انخفض بما بين 40 و50 في المئة، وبالتالي، فإن الرواتب لن تعود حكمًا كما كانت عليه في السابق، ومن كان يعيش بألف دولار شهريًا، يستطيع اليوم أن يعيش بـ 500 أو 600 دولار". ويضيف قائلًا إن الرواتب في القطاع الخاص تتراوح بين 40 و70 في المئة مقارنة بما كانت عليه قبل الأزمة.

وقد اتّبعت المؤسسات الخاصة سياسة رفع الرواتب بطريقة غير مباشرة عبر ما يسمى "المساعدات الاجتماعية"، وذلك، بحسب بكداش، بسبب عدم القدرة على التنبؤ بتبدلات سعر الصرف، علمًا بأن هذه الزيادات لا تدخل في أساس الراتب ولا تُحتسب ضمن اشتراكات الضمان الاجتماعي. وفي حال تحسّن الوضع الاقتصادي، تُلغى هذه المساعدات ولا تبقى المؤسسات ملزمة بها.

ويؤكد بكداش أن ارتفاع الكلفة التشغيلية ظلّ محدودًا بالنسبة للصناعيين، إذ إنهم معفيّين من الضريبة الجمركيّة بنسبة 90 في المئة، غير أن الضريبة على القيمة المضافة (TVA) ارتفعت بفعل احتسابها على سعر منصة "صيرفة"، وهو ما شكل عامل ضغط على الصناعيين. وبرغم عدم ممانعة الصناعيين دفعها، إلا أنهم لا يجدون مبررًا لزيادتها نظرًا لضعف الخدمات أو غيابها، من كهرباء وماء ومواصلات وإنترنت.

الفقراء يدفعون الثمن

أقرّت الحكومة اللبنانية في 18 نيسان/أبريل الفائت رفع الحد الأدنى للأجور إلى 9 ملايين ل.ل.، وبدل النقل إلى 250 ألف ل.ل. عن كلّ يوم حضور، ورفع سقف المرض والأمومة بمقدار الضعفين. وبحسب وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم، فإن هذه الزيادة خاضعة للمراجعات تبعًا لتقلبات سعر صرف الدولار. 

ولدى المقارنة بين عامي 2020 و2023، يظهر ارتفاع الرقم القياسي لمؤشر الاستهلاك (الذي يقيس معدل التغير في أسعار السلع والخدمات بين فترتين زمنيتين) حتى آذار/مارس 2023 إلى 2784 نقطة، بعدما بلغ 230 نقطة عام 2020.

وبحسب "الإحصاء المركزي"، بلغ التضخم حتى عام 2022، 171.2 في المئة. وبحسب دراسة لـ"الدولية للمعلومات"، ارتفعت كلفة المعيشة بمقدار 196 في المئة حتى بداية شهر نيسان/أبريل من هذا العام بالمقارنة مع تشرين الأول/أكتوبر الفائت، وخلُصت الدراسة إلى أنّ كلفة معيشة الأسر تتراوح بين 39 مليون ليرة و77 مليون ليرة شهريًّا بالحدّ الأدنى، من دون احتساب كلفة الصحّة والاستشفاء. وتعكس هذه الأرقام ارتفاع كلفة المعيشة وتآكل أجور المواطنين، وهو ما يصفه الخبير الاقتصادي د. كمال حمدان بـ"الحرب على الفقراء لتحميلهم نتائج الانهيار الاقتصادي".

يربط الكاتب الاقتصادي علي نور الدين أزمة الرواتب بكيفية تعامل السلطة مع الانهيار، إذ تحاول الأخيرة "أن تجد معالجات لكل فئة على حدة، لتؤمن قوة تفاوضية أكبر مع الطبقة العاملة بمعزل عن السياق الأوسع لجميع هذه المعالجات". في المقابل، فإن غيابَ حركة نقابية قويّة ومتماسكة يُضعف لقدرة على المواجهة وفرض الأولويات في النقاش السياسي المتعلق بتوزيع الخسائر، في ظلّ هيمنة أحزاب السلطة على النقابات وإبطال دورها.

في الخطط الماليّة الحكوميّة، وآخرها تلك قدّمتها حكومة ميقاتي وقبلها حكومة حسان دياب، ثمّة تركيز مفرط على الخسائر المصرفية البالغة 73 مليار دولار، وتوزّع الخسائر على الدولة والمودعين، فيما النقاش السياسي والإعلامي ينصبّ بغالبه حول إعادة انتظام القطاع المالي. بحسب نور الدين، يُغفل هذا النقاش الكتلة الكبرى من الخسائر المجتمعية، وأبرزها تلك المتعلقة بالقدرة الشرائية والأجور، خصوصًا أجور القطاع العام (الأقل مرونة من أجور القطاع الخاص)، فضلًا عن رواتب التقاعد والتعويضات التي انخفضت قيمتها بنحو خمسين مرّة.

وفي حين يرى نور الدين أن المساعدات المُقدّمة إلى جانب الرواتب تعكس غياب الرؤية حيال كيفية تصحيح الأجور وقيمة التعويضات ليتمكّن المواطنون من استعادة قدرتهم الشرائية، وينطوي على تفضيل خيار التوفير على أصحاب العمل في القطاع الخاص (نظرًا لعدم احتساب المساعدات ضمن تعويض نهاية الخدمة)، فإن المطلوب اليوم، بحسب نور الدين، وضع خطط اقتصادية تبحث في كيفية استعادة دور القطاع العام، عبر تصحيح الأجور وميزانية المؤسسات العامة بهدف تأمين عدالة اجتماعية للعمال وتحصين دور شبكات الحماية الاجتماعية، من خلال المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية والمستشفى الحكومي والقضاء وسائر المؤسسات الرسميّة.

اتساع الفجوة الطبقية

اعتبر صندوق النقد الدولي في بيان له إثر زيارة وفده الأخيرة إلى بيروت أن الدَولرة ستؤدي إلى زيادة الطابع غير الرسمي للاقتصاد، ما يقلّص مجال تحصيل الضرائب ويفرض المزيد من القيود على الإنفاق من الموازنة العامة، ويساهم في ترسيخ الأنشطة غير المشروعة في الاقتصاد. ومن دون الإقرار بفجوة القطاع المصرفي الكبيرة والتصدي لها بمصداقية، لن يكون بوسع البنوك تقديم الائتمان الكافي لدعم الاقتصاد، وسيستمر تحمّل صغار المودعين خسائر فادحة، بينما تظل الودائع الكبيرة وبعض الودائع المتوسّطة محبوسة إلى أجل غير مسمى.

لم يأتِ قرار وزارة الاقتصاد بدَولرة الأسعار بناء على خطط مالية، بحسب نور الدين، بل بضغط من نقابة المستوردين ونقابة أصحاب السوبر ماركت "لأنهم أرادوا تثبيت هامش ربحهم بالدولار، فيما كان الاستيراد يتم وفقًا لقيمة سعر الصرف في حينه". وهو يرى أن المطلوب كان تعديل الحدّ الأدنى للأجور عبر تحويل رواتب القطاع الخاص إلى الدولار، أو اعتماد سلّم متحرك للأجور تبعًا لتغيّرات سعر الصرف. كما يؤكّد على ضرورة دفع الضرائب وفق سعر الصرف الفعلي في السوق، أي سعر السوق الموازية.

ويختم نور الدين قائلًا إنّ الدَولرة، كما تُطبّق اليوم، هي آلية لإعادة توزيع المداخيل والثروة بسرعة وبشكل بالغ الإجحاف بحق الفئات الأقل قدرة على مواءمة أجورها مع انخفاض سعر الصرف، وهي بذلك تؤدي إلى نقل فئات كبيرة من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الفقيرة، وتسهّل تحويل الاقتصاد اللبناني تدريجيًا الى اقتصاد نقدي، ما يزيد من مخاطر تبييض الأموال والأنشطة غير المشروعة، ويهدّد موقع لبنان في النظام المالي، ويزيد من عزلته المالية.

 

* أُنجز هذا التقرير بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية" UNDEF ومنظمة "صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

برامج الدعم الاجتماعي في لبنان: ما هي ثغراتها؟

كيف تؤثر موافقة البنك الدولي على تمويل شبكة الأمان الاجتماعي في لبنان بمبلغ 300 مليون دولار إضافي على..

غادة حداد
برامج الدعم الاجتماعي في لبنان: ضمادة على جرح نازف

تمكّن برامج الدعم الاجتماعي الكثير من الأسر الأكثر فقرًا في لبنان من تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش،..

غادة حداد
الجامعة اللبنانية تصارع من أجل البقاء

تواجه الجامعة اللبنانية اليوم واحدة من أصعب الأزمات منذ نشأتها. فرواتب الأساتذة لا تكفي لتغطية تكاليف..

غادة حداد

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة