برامج الدعم الاجتماعي في لبنان: ضمادة على جرح نازف

تمكّن برامج الدعم الاجتماعي الكثير من الأسر الأكثر فقرًا في لبنان من تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش، لكنها، معزولة عن سياسات اقتصادية ومالية إصلاحية، تصبح أقرب إلى برامج إحسان، على حساب الحلول المستدامة.

"يروّج الأغنياء إلى أسطورة شائعة مفادها أن الثروة تُنتَج بشكلٍ فردي قبل أن تجمعها الدولة من خلال الضرائب. في الواقع، كانت الثروة تُنتج دائمًا بشكل جماعي، ثمّ تخضع للخصخصة من قبل أولئك الذين لديهم القدرة على القيام بذلك: الطبقة الحاكمة".

يانيس فاروفاكيس

 

حين انفجرت الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان عام 2019، حمل ثقلها أبناء الطبقتين الدنيا والوسطى بالدرجة الأساس. وعوضًا عن البحث عن حلول فعّالة ومستدامة للخروج من الأزمة، اتجهت الحكومة إلى تبنيّ برامج الدعم الاجتماعي لمساعدة الفقراء. هكذا، راحت السلطة تتعامل مع الفقر كأمر واقع وطبيعي، وتبحث عن السبل الآيلة إلى الحد من الخسائر.

تعدّد البرامج

بعد انفجار الأزمة الاقتصادية والقيود التي فرضتها جائحة "كوفيد-19"، ارتفعت نسبة الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان حتى نهاية 2021 الى 82 في المئة، بعدما كانت 42 في المئة حتى أواخر عام 2019، بحسب الإسكوا. ومع تسارع وتيرة الانهيار، لجأت الحكومة اللبنانية إلى برامج دعم الأسر الأكثر فقرًا.

اليوم، تدير الدولة اللبنانية برنامجين للدعم؛ "البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرًا" و"برنامج أمان". وبحسب مصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية، فإن الغاية تتمثّل بـ"دمج البرامج لاحقًا، غير أن الأمر يتطلب جهدًا تقنيًا كبيرًا".

نشأ "البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرًا" قبل أكثر من 12 عامًا، إذ بدأ العمل به في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2011 بتمويل من البنك الدولي والحكومتين الإيطالية والكندية. وبحسب المصدر في وزارة الشؤون الاجتماعيّة، وصل عدد العائلات التي استفادت من البرنامج إلى 75 ألفًا، بعدما كان 30 ألفًا عند توقّف البرنامج إثر انتشار "كورونا". وللاستفادة من هذا البرنامج، يتوجّب أولًا التقدّم بطلب لدى مركز الخدمة الإنمائية في المنطقة التي تتواجد فيها العائلة المتقدمة، قبل قيام محقق اجتماعي بزيارة محلّ إقامة الأسرة للوقوف على حالها.

أما برنامج "أمان"، فقد أُقر في كانون الأول/ديسمبر 2021 وبدأ العمل به في منتصف آذار/مارس 2022، وهو مموّل عبر قرض من البنك الدولي بقيمة 46 مليون دولار، ويأتي كاستجابة طارئة لتبعات جائحة "كورونا" وللأزمة الاقتصادية التي دهورت القدرة الشرائية للبنانيين. ويُقسم البرنامج الى قسمين؛ الأول يتمثل بالدعم المالي الذي بدأ في آذار/مارس 2022، والثاني يتمثل بالدعم التربوي.

ويهدف برنامج "أمان" المالي إلى مساعدة 150 ألف عائلة لبنانية من الأكثر فقرًا، ويستفيد منه ما يصل إلى حدّ ستة أفراد في العائلة الواحدة. والمساعدة عبارة عن 20 دولارًا للفرد الواحد، و25 دولارًا لكل عائلة شهريًا لمدة عام كامل. وبحسب بيان صادر عن وزارة الشؤون الاجتماعية مطلع آذار/مارس 2023، فقد استفادت 76 ألف عائلة من البرنامج خلال العام المنصرم، علمًا بأن الوزارة ستستأنف تسليم الدفعات الماليّة للعائلات المستفيدة لمدة 6 أشهر إضافية ابتداء من 15 آذار/مارس الجاري، بعدما تمّ تأمين التمويل اللازم. ووفق البيان، بالإضافة إلى التجديد للمستفيدين القدامى، يستمر تنفيذ البرنامج لاستهداف 74 ألف أسرة جديدة.

آلية الدعم

يشرح المصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية آلية التسجيل واختيار العائلات التي تستفيد من برنامج "أمان" كالتالي: بدأ التسجيل في كانون الأول/ديسمبر 2021، لمدة شهرين، وانتهى في كانون الثاني 2022، وتجندت جمعيات ومؤسسات كشفية وافراد في المناطق لمساعدة الناس على التسجيل على منصة Impact - وهي منبر مشترك يجمع الوزارات والبلديات بغرض التقييم والتنسيق والمتابعة، علمًا بأن المنصة تهدف أيضًا إلى توفير الأدوات والأدلة لمراقبة عمل الإدارة المركزية والمحلية والتدقيق بها لضمان التوافق مع شروط البنك الدولي.

غير أن المعايير التي يُحدّد على أساسها الأكثر فقرًا ضبابية. فبحسب مصدر الوزارة، طُبقت في لبنان شروط البنك الدولي المعتمدة في دول مثل الهند والأردن ومصر، ومن بين المعايير إعطاء الأولوية للعائلات التي تحوي أطفالًا، وأشخاصًا يتجاوزون الـ 64 من العمر، وأفرادًا ذوي إعاقة، فضلًا عن العائلات التي تعيلها نساء.

وبعد انتهاء التسجيل، فُرزت العائلات التي تستوفي الشروط عن تلك التي لا تستوفيها، تلا ذلك تنظيم زيارات منزلية لـ 200 ألف عائلة من أصل 580 ألف عائلة مسجّلة، من قبل نحو 600 من موظفي وزارة الشؤون الاجتماعية وعدد من المتطوعين، على مدى ثلاثة أشهر. وقد بدأت عملية الدفع في منتصف آذار/مارس 2022، غير أن الموافقات لم تأتِ دفعة واحدة، إذ كانت مجموعة جديدة تنضم للعائلات المستفيدة كلّ أسبوع. 

أما الجزء الثاني من المشروع - أي المتعلق بالدعم التربوي - فيؤمن التكاليف المدرسية المباشرة لـ 87 أف طفل تتراوح أعمارهم بين 13 و18 عامًا، في التعليم العام والتعليم المهني والتقني، ابتداء من العام الدراسي الحالي  2022/2023، وذلك للحد من التسرب المدرسي لدى الأسر الأكثر فقرًا. وقد أطلق وزيرا التربية والتعليم العالي والشؤون الاجتماعية في حكومة تصريف الأعمال - عباس الحلبي وهيكتور حجار - الجزء الخاص بالدعم التربوي في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2022. 

فواز طرابلسي: الحديث عن الفقر غالبًا ما يتجاوز كونه نتاج عملية إفقار، لذلك فإن "الإجابة على سؤال الفقر كثيرًا ما تكون بالإحسان"

وتختلف قيمة المساعدة التربويّة بحسب الصف والمسار التعليمي، ويشمل المبلغ المساهمات النقدية المطلوبة من أولياء الأمور لمصلحة صندوق المدرسة وصندوق مجلس الأهل. ويُطلب من العائلات المستفيدة الحصول على إفادة متابعة أو إفادة تسجيل من المدرسة، وإدخال رقم التلميذ الموحد على منصة "دعم"، وتحميل هذه الإفادة على المنصة. وتتولى الوحدات المعنية في الوزارة التحقق من تسجيل التلامذة عبر نظام SIMS، وهو نظام معلومات يساعد في جمع بيانات المدارس الرسمية والتحقق من متابعة الحضور إلى المدرسة.

ولضمان عدم استفادة العائلات من البرنامجين، خضعت البيانات للتحقّق، ليتبيّن أن 40 ألف عائلة تم اختيارها في المرحلة الأولى من برنامج "أمان"، مسجلة أيضً في "البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقر"ا"، ما عرقل عمل الوزارة نحو ثلاثة أشهر، إلى حين إعادة فرز العائلات مجددًا. 

 

الإحسان مقابل الإفقار

نقلت الأزمة الاقتصادية فئات من اللبنانيين إلى طبقة الفقراء. يقول المؤرخ اللبناني فواز طرابلسي في مقابلة مع "أوان" إن الحديث عن الفقر غالبًا ما يتجاوز كونه نتاج عملية إفقار. ولهذا "جانب بشع"، كما يقول، على اعتبار أن "الإجابة على سؤال الفقر تكون بالإحسان"، أي بـ"عزله عن معالجة سائر قضايا المجتمع" وبـ"تحويله إلى حالة مرضية".

ويشير الباحث الاقتصادي في The Policy Initiative، حسين شعيتو، إلى أن برامج الدعم الاجتماعي هي أشبه بضمادة توضع على الجرح لوقف النزيف لفترة قصيرة، حيث تعطي الحكومة مبلغًا بسيطًا من المال يؤمن للعائلة أساسيات الحياة اليومية. وهذا - بحسب شعيتو - حل غير مستدام. إذ يفترض العمل على إنتاج حل يقوم على نظام ضريبي عادل، يؤمن مدخولًا للدولة بهدف تمويل الخدمات الاجتماعية. أما برامج الدعم الاجتماعي فهي آنية وتنتهي مع انتهاء المشروع. وعليه، فإن البرامج الحكومية الممولة من العائدات الضريبية هي أكثر عدلًا وضمانة، إذ تؤمن المردود من الضرائب على الأغنياء، وتحارب التهرب الضريبي، وهذه مشكلة في لبنان منذ ما قبل الأزمة.  

ولا يؤثر التهرب الضريبي على المستويين المالي والاقتصادي فحسب، بحسب شعيتو، بل ينعكس على الواقع الاجتماعي كذلك. إذ حين لا يقوم الأوليغارشيون بدفع الضرائب، يؤدي ذلك إلى تراجع القدرة المالية للدولة، ويحول ذون إنجازها المشاريع وتقديمها الخدمات الاجتماعية. ويحتاج حل كهذا إلى إرادة سياسية. غير أن النظام اللبناني، كما أكدت الأزمة، غير معني بإنتاج نظام ضريبي عادل ولا اقتصاد صحي. فالناس، وفق هذا النظام، زبائن يؤمن لهم تمويلًا وسكنًا لفترات قصيرة عبر مشاريع ممولة من الخارج، بغرض الحفاظ على ولائهم.

ويمكن الذهاب أكثر من ذلك، بحسب شعيتو، بالقول إن "البرامج المحلية هذه تعزز من سلطة النظام عبر المناطق، إذ ترسخ صورة مفادها أنه يؤمن للمواطنين أساسيات الحياة، برغم أن هذه المشاريع - في حقيقتها - ليست مبنية على منطق اقتصادي واجتماعي". ويلفت شعيتو إلى أن وجود هذه البرامج مفيد خلال الأزمة الراهنة، لكنها - على المدى الطويل - لا تقدّم حلًا لمشكلة الفقر.

وبحسب دراسة يعمل عليها شعيتو، فإن "الكثير من العائلات تلغي وجبات طعام لتتمكن من تأمين سائر الأساسيات، والكثير منها يشتري خبزًا أكثر ويقلل من اللحوم، وهذا [التقشف] ينعكس سلبًا على الطلاب وعلى إنتاجية العاملين".

يولّد هذا النمط نوعًا من الاستقرار الاجتماعي، لكنّه نوع من الاستقرار الذي ينطوي على سيئات كثيرة. فبحسب شعيتو، "بات هناك تصور مفاده أن الأمور تسير بشكل جيد طالما أن المواطنين قادرون من تأمين أساسيات الحياة"، وأصبح هذا على حساب تقديم أو دعم "تصوّر لشكل النظام الذي يريدونه"، بما في ذلك "السياسات المالية والنقدية القادرة على نقل البلد إلى واقع أفضل". 

 

* أُنجز هذا التقرير بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

برامج الدعم الاجتماعي في لبنان: ما هي ثغراتها؟

كيف تؤثر موافقة البنك الدولي على تمويل شبكة الأمان الاجتماعي في لبنان بمبلغ 300 مليون دولار إضافي على..

غادة حداد
جنّة الدَولرة تستثني الرواتب

كيف تنعكس دَولرة الاقتصاد اللبناني على العمال، وما تأثيرها على أرباب العمل والاقتصاد عمومًا؟ وفي ظلّ عدم..

غادة حداد
الجامعة اللبنانية تصارع من أجل البقاء

تواجه الجامعة اللبنانية اليوم واحدة من أصعب الأزمات منذ نشأتها. فرواتب الأساتذة لا تكفي لتغطية تكاليف..

غادة حداد

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة