بمجرّد أن تكتب في محرّك البحث غوغل "الجفاف في العراق"، تغرق شاشة جهازك الإلكتروني بصور لتشققات في الأراضي التي كانت يومًا زراعية تقتات منها أعداد كبيرة من العائلات، بالإضافة إلى صور الأنهار والأهوار الجافة، تستلقي بما تبقّى فيها من مياه جواميسُ منهكة.
يقع العراق على الخطوط الأمامية لأزمة المناخ، وهو من أكثر الدول هشاشة في العالم لجهّة تأثّره بالتغيّر المناخي. إذ يعاني سكانه من الآثار الكارثية للجفاف وموجات الحر والعواصف الرملية والغبارية، بالإضافة إلى مشكلات تدهور التربة والفيضانات الناجمة عن ارتفاع مستوى البحر وشحّ المياه.
ووفقًا لتوقعات "مؤشر الإجهاد المائي"، الذي يقيس ندرة المياه العذبة وقدرتها على تلبية حاجات السكان، فإن العراق سيكون أرضًا بلا أنهار بحلول العام 2040. أما عام 2025، فستكون ملامح الجفاف واضحة في عموم البلاد، مع جفاف شبه كلّي لنهر الفرات باتجاه الجنوب، وتحوّل نهر دجلة إلى مجرىً مائي محدود الموارد. إذ تَسبًّب بناء السدود والجفاف بتقليص مياه النهرين الجاريين في العراق لنحو خمس كمّيّتها السابقة.
على خلفية أزمة الجفاف، تبادل العراق وتركيا العديد من الاتهامات، منها اتهام مسؤولين عراقيين تركيا بتقليص تدفّق مياه نهر الفرات إلى نصف المتّفق عليه في معاهدة 1987 عقب إنشاء سدّ أتاتورك، الذي خلّف نقصًا حادًا في منسوب مياه النهر الجارية في العراق، والذي تبعه إنشاء سدود أخرى ألحقت ضررًا إضافيًا بمنسوب مياه نهري دجلة والفرات.
في المقابل، نفت تركيا الاتهامات التي وُجّهت لها، مؤكّدة أنها لم تغيّر مجرى أيّ من النهرين. واعتبر سفيرها في بغداد في تصريح له العام الماضي أنّ على المسؤولين العراقيين أن "يُحسنوا إدارة الموارد المائية في بلادهم بدلًا من طلب المزيد المياه من تركيا"، فهي بدورها تعاني من مشكلات الجفاف ذاتها مع انخفاض معدّلات هطول الأمطار في 2022 بنحو 29% تحت المعدّل الطبيعي للعقود الثلاثة الأخيرة، بحسب الوكالة التركيّة للأرصاد الجوية.
وتعود جذور أزمة المياه العراقية - التركية إلى عشرينيات القرن الماضي. وبرغم الاتفاقيات الموقّعة بين الطرفين للتعاون في إدارة الموارد المائية لنهري دجلة والفرات وتحديد حصّة كل دولة، فإنّ المشاكلات المتعلّقة بواردات العراق المائية من تركيا ما زالت قائمة حتّى اليوم.
غير أن تركيا ليست الوحيدة المتّهمة بعرقلة تدفّق المياه. إذ كانت الموارد المائية القادمة من إيران تمثّل 35% من إجمالي ما يصل إلى بلاد الرافدين قبل العقدين الأخيرين، لكنّ إنشاء السدود غيّر من هذه المعادلة. وفي ما يخصّ هذا الجانب من الأزمة، أطلق حاتم حميد، الذي يترأس القسم الرئيسي لتصميم خطة المياه في وزارة المياه العراقية، تصريحًا قبل أشهر، قال فيه إنّ "هناك حوارًا مع تركيا برغم التأجيلات الكثيرة، أما مع إيران، فلا يوجد أيّ شيء".
نادرًا ما يجد المهاجرون من بيئتهم لأسباب طبيعية أنفسهم في وضع مريح بعد النزوح
ويُعّد شحّ المياه الحاصل في موسم 2020- 2021 الأسوأ الذي يصيب العراق منذ 40 عامًا. فقد كانت كميّات المياه المتدفّقة من تركيا عبر نهرَي دجلة والفرات غير كافية لبلاد تعتمد عليهما بشكل أساسي للريّ والشرب والمرافق الصحّية، الأمر الذي زاد من أهمية استثمار مياه الأمطار والمياه الجوفية. غير أن الأمطار ما برحت تأتي متأخّرة في السنوات الثلاث الأخيرة، وتنتهي باكرًا، وهو ما يعرقل عملية استثمارها في ريّ المزروعات. وقد دفع ذلك الكثير من المزارعين إلى حفر الآبار بشكل عشوائي وغير قانوني، الأمر الذي أدى إلى انخفاض شديد في جودة المياه ونسبتها.
وتأتي العواصف الرملية المتكرّرة وجفاف الأهوار، بالإضافة إلى تلف المحاصيل المتكرّر، لتشكّل أسبابًا إضافية لهجرة المزارعين من أراضيهم والانتقال نحو المدن والضواحي، التي تعاني أساسًا من بنى تحتية هشّة بفعل الحرب والنزاعات المسلّحة التي مرت على البلاد.
ونادرًا ما يجد الأشخاص المهاجرون من بيئتهم لأسباب طبيعية أنفسهم في وضع مريح بعد النزوح، تحديدًا النساء منهم، المنخرطات غالبًا في أعمال المنزل والزراعة. إذ يجدون صعوبة في تأمين عمل في البيئة الحاضنة الجديدة، خصوصًا مع العادات والتقاليد المجتمعية التي تحصر المرأة العراقية في دور محدّد، علمًا بأن الأمر ينطبق بطبيعة الحال على الرجال الذين أظهرت الدراسات صعوبة حصولهم على عقود عمل دائمة، أو حتى الاستفادة من الخدمات العامة.
جفاف الأهوار
"على حافة الأهوار، بدأ التاريخ البشري في العراق". هذا ما كتبه الرحالة البريطاني ويلفرد ثيسيغر Wilfred Thesiger الذي عاش مع الرُحّل العرب في الأهوار في خمسينيات القرن الماضي.
تعتبر الأهوار من أكبر البحيرات والمسطحات المائية في الشرق الأوسط، ومن أقدم المآوي الطبيعية في العالم. تنبسط في جنوب العراق حيث يلتقي دجلة والفرات، وكانت تغطي مساحة تقدّر بعشرين ألف كيلومتر مربع، وكان لها دور اقتصادي مميز مستمدّ من ثروتها المائية التي كانت مصدرًا للكثير من المواد الغذائية، ومكانًا مهمًا لتربية الجواميس وكذلك وجهة سياحية، كما كانت مأوى لمئات أنواع الطيور المهاجرة في فصل الشتاء. لكنّ الجفاف الذي سبّبه التغير المناخي يتضافر اليوم مع غياب التفاهم السياسي بين العراق وتركيا ليهدّد وجود الأهوار، التي تحيط بدجلة والفرات في جنوب البلاد.
يطلَق على سكان أعماق الأهوار "المعدان"، وتُشبه حياتهم حياة البدو الرحّل، ويعتمدون في معيشتهم على صيد الأسماك وزراعة الأرز وتربية الجواميس. وقد عانت هذه الفئة من الفقر المدقع بعد حرب الخليج الثانية عقب تجفيف السلطات العراقية الكثير من المسطحات المائية لأسباب قيل إنها أمنية، كما عانت من التمييز من قبل سكان المدينة والمزارعين في الريف، بسبب النظرة السائدة للأهوار بصفتها مكانًا خطيرًا يجتمع فيه الخارجون عن القانون. وقد تكوّنت هذه النظرة على مدار العقود الأخيرة بسبب لجوء معارضي النظام السابق من شيوعيين وإسلاميين وغيرهم إليها للاحتماء من بطش السلطة. أما اليوم، فيعاني سكان هذه المناطق من النزوح الإجباري لعدم قدرتهم على الاعتماد على الأهوار لتأمين سبل العيش.
استعصاء الحلول السياسية
بحسب تقرير لـ GEO-6 Global Environment Outlook صدر عام 2019 عن البرنامج البيئي للأمم المتحدة، احتل العراق المرتبة الخامسة من بين الدول الأكثر هشاشة في العالم، لجهة منسوب المياه المنخفض وتوافر الغذاء والحرارة العالية جدًا. ويُقدر البنك الدولي أنه بحلول العام 2050، سيرتفع متوسط درجات الحرارة بمقدار درجتين، وسينخفض معدّل هطول الأمطار بنسبة 9%.
وفي حال تعثّر التوصل إلى اتفاق مع تركيا وإيران لضمان حصّة العراق من المياه، ستتقلص المساحات المزروعة وتتفاقم مشكلة التصحّر، التي تؤثر بدورها على الاقتصاد العراقي وأمنه الغذائي، علمًا بأن الزراعة تؤمّن 3% من الناتج المحلي الإجمالي للعراق، فضلًا عن وظائف لنحو خُمس القوى العاملة في البلاد.
وتولي الخطة المائية السنوية للعراق أهمية لتوفير مياه الشرب أولًا، ومن ثم إمداد القطاع الزراعي وضخ مياه كافية للأهوار لتقليص نسبة الملوحة فيها. وفي العام الفائت، انخفضت نسبة إمدادات المياه إلى النصف. ومع انخفاض نسبة تدفق نهري دجلة والفرات بنسبة 40% في العقود الأربعة الأخيرة، بات يتعيّن على الدول الأربعة التي يمر النهران فيها (العراق وسوريا وتركيا وإيران) أن تتوصّل إلى حلول سريعة لإدارة الأزمة. ومن المتوقع أن يزيد هذا الانخفاض سوءًا مع ارتفاع درجات الحرارة بسبب التغير المناخي.
يدرك كل من العراق وتركيا، كما إيران، أن عليهم التعاون للحفاظ على توازن منسوب النهرين اللذين يعتمد عليهما عشرات الملايين لضمان بقائهم، لكن انسداد أفق التفاهم إلى الآن يقف في طريق الوصول إلى حل للمشكلة المستعصية. والعراق، وسكانه، هم أوّل ضحايا هذا الانسداد.