تحت شمس الظهيرة، تفترش أم سليمان الأرض مع أطفالها الثلاثة وجيرانها، بعد إخلائهم مع أكثر من 20 عائلة من مخيم الناصرية في محافظة البقاع من دون أسباب واضحة.
تُخبرُني المرأة الثلاثينية أنها نزحت مع أطفالها وعائلة زوجها من إدلب عام 2013، وانفصلت عنهم بعد وصولها إلى لبنان بأشهر عدّة بسبب عددهم الكبير قياسًا على حجم الخيمة الصغير، لكنّها عادت إليهم في النهاية بعد رحلة شاقة من تغيير المسكن.
تحكي لي أمّ سليمان عن تجربتها قائلة: "تعرّضت لمضايقات كثيرة أثناء بحثي عن مكان جديد في المخيم، على اعتبار أنّي أم وحيدة، إلى أن وجدت مكانًا صغيرًا. وبسبب عدم قدرتي على دفع الإيجار في غالب الأحيان، أصبحت أشارك سلّتي الغذائية التي تقدمها لنا المفوضية العليا للاجئين مع صاحب العقار، إلى أن قرّر طردي في النهاية".
توزّع اللاجئين السوريين في لبنان
منذ اندلاع الحرب السورية، فرّ نحو 5.5 ملايين لاجئ سوري إلى أوروبا ودول الجوار كالأردن والعراق ولبنان وتركيا. وفي حين تعيش أكثريتهم مع المجتمعات المضيفة في المناطق الحضرية وشبه الحضرية والمناطق الريفية، أو العشوائيات والأحياء الفقيرة، فإن جزءًا منهم يتوزع على المخيمات.
في لبنان، أحجمت الحكومات المتعاقبة عن تبنّي سياسة المخيمات للاجئين السوريين الهاربين من الحرب، كما حظرت إنشاء أماكن إقامة رسمية لهم. وتُركت للاجئين مهمة تأمين الملاجئ لأنفسهم عن طريق تشييد خيم أو منشآت نصف حجرية على أراضٍ زراعية مستأجرة، أو استئجار شقق في مباني سكنية لمن هم أيسر حالًا.
وتشير الأرقام الصادرة عن تقرير "تقييم جوانب ضعف اللاجئين السوريين" في لبنان لعام 2021، إلى أن 69% من اللاجئين يعيشون في منشآت سكنيّة في المناطق الحضرية وشبه الحضرية، في حين يعيش 22% منهم في منشآت غير دائمة كالمخيّمات غير الرسمية، و10% في منشآت غير صالحة للسكن من نوع آخر، كالأكشاك الزراعية، وغرف المحركات والمضخات، والأبنية في طور الإنشاء، ومرائب السيارات، والمزارع.
حملت هذه الظروف السكنية معها المزيد من التعقيدات والمخاطر على حياة اللاجئين. إذ بحسب الأرقام الصادرة عن التقرير المذكور، فإن عدد اللاجئين السوريين الذين يعشون في منشآت خطرة أو مكتظة أو لا تستوفي المعايير المطلوبة، ارتفع بنسبة 18% في 2020 بالمقارنة مع عام 2019، حيث سجلت الأرقام 40% عام 2019 و 58% عام 2020.
وتوزعت هذه المنشآت على معظم المناطق اللبنانية، إلا أن النسبة الأكبر منها تركزت في محافظات بعلبك والبقاع والجنوب، حيث تقيم غالبية اللاجئين السوريين.
وتُقيّم خطورة هذه المنشآت تبعًا لحالة الجدران والأعمدة المدمرة والمنشآت الآيلة إلى السقوط، بالإضافة إلى المرافق الصحية التي لا تعمل بشكل جيد أو لا تعمل نهائيًا.
وقد تظافرت هذه العوامل في بعض الحالات مسببة دمارًا لهذه المنشآت، خصوصًا المخيمات منها، على اعتبار أنها مصنوعة من مواد سريعة العطب لا تحتمل ظروف الطقس القاسية وسريعة الاشتعال أيضًا. ويُعتبر حريق مخيم قب الياس في شباط/فبراير من العام الحالي وحريق منطقة المرج الذي تبعه بشهر واحد فقط في منطقة البقاع، من الحرائق العديدة التي يُرجّح أن تكون ناجمة عن نقص معايير السلامة في تلك المخيمات. تُضاف إليها حوادث انهيار الخيم في الشتاء بفعل الثلوج والعواصف، خصوصًا في منطقة عرسال في محافظة البقاع، المعروفة بطبيعتها الجبلية وشتائها القاسي، حيث تصل درجات الحرارة إلى 10 تحت الصفر أحيانًا.
الاستقواء بالقانون
وتؤدي القوانين اللبنانية المتعلقة باللاجئين السوريين دورًا رئيسيًا في هذه المعاناة. إذ بحسب القانون الذي أصدره مجلس الدفاع اللبناني عام 2019، لا يُسمح للأساسات أن تزيد عن ارتفاع خمسة أحجار باطون، أي نحو متر واحد، للملاجئ في عرسال. و في النواحي الأخرى من البلاد، لا يمكن أن تتخطّى البنى الصلبة ارتفاع حجرَي باطون. كما لا يمكن أن تتضمن الجدران العلوية والأسقف سوى المواد الأقل حماية وعزلًا، كالخشب والشوادر، وهو ما يضاعف من هشاشتها وخطرها على قاطنيها.
تدفع هذه المخاطر - إلى جوانب عوامل أخرى - باللاجئين السوريين إلى تغيير أماكن سكنهم ونوعها بشكل مستمر. فبحسب تقرير "تقييم جوانب ضعف اللاجئين السوريين في لبنان"، اضطرت 15% من العائلات التي يقيم أغلبها في الجنوب إلى تغيير مساكنها في كل من عامي 2020 و 2021، لأسباب تعود النسبة الأكبر منها للإيجارات المرتفعة وعمليات الإخلاء العشوائية أو القسرية.
وقد أدّى انهيار قيمة الليرة اللبنانية وأزمة السكن الناشئة بفعل الانهيار الاقتصادي إلى ارتفاع غير مسبوق في بدل الإيجارات وغيرها من الاحتياجات المعيشية الأساسية في لبنان. ورافق ذلك تصاعدٌ في وتيرة خطاب الكراهية تجاه اللاجئين السوريين، وتزايد الضغط عليهم لإخلاء مساكنهم ودفعهم للعودة إلى سوريا في ظل ازدياد المنافسة على الخدمات والأعمال التي تحتاج إلى خبرات متواضعة. هكذا، ازداد عدد إشعارات الإخلاء الصادرة عن ملّاك العقارات أو السلطات المحلية بالمقارنة مع العام الفائت، بحسب تقرير المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
كانت أم سليمان واحدة من آلاف الذين طُلب منهم الإخلاء خلال مهلة زمنية قصيرة من دون وجود حلّ بديل أو مكان آخر يؤويها مع عائلتها. ولدى سؤالها عن تفاصيل قصتها، أشاحت بنظرها عني لثوانٍ محاولة ترتيب القصة في ذهنها، قبل أن تجيب باقتضاب: "بعدما بدأتُ العمل بمردود قليل جدًا، انتقلت إلى مكان يأكل العفن جدرانه، لكنّ بدل إيجاره كان مقبولًا. كنتُ أسمع سعال طفلي الصغير أثناء نومه وأبكي لأنّي غير قادرة على فعل شيء. العام الماضي، ترك لي صاحب المُلك ورقة عند الباب، تفيد بوجوب إخلاء المنزل خلال أسبوع لأسباب شخصية طارئة، على حد قوله".
إخلاءات قسريّة بالجملة
تنص المادة 11 من العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عن الأمم المتحدة على أن "الحق في السكن جزء من الحق في المستوى المعيشي الكاف للفرد وأسرته"، علمًا بأن القوانين اللبنانية لا تسمح للمؤجر بإخلاء المستأجر إلا بأمر قضائي، يحق للمستأجر الامتناع عن تنفيذه انطلاقًا من حقه في السكن.
وبحسب اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة، يدخل في إطار تعريف الإخلاء القسري عدمُ تأمين بديل يضمن حقّ السكن الملائم للمتضررين، وتنفيذُ الطرد من دون إمكانية الطعن في قرار الإخلاء ومن دون مراعاة الأصول، وعلى نحو يتجاهل التزامات الدولة الوطنية والدولية، أو حتى تنفيذ الإخلاء خلال الظروف الجوية الصعبة أو فترات انتشار الأوبئة.
لم تتوقف سلسلة الإخلاءات القسرية في المخيمات والمنشآت السكنية الأخرى للاجئين السوريين في لبنان منذ العام 2019، إثر إصدار مجلس الدفاع الأعلى أمرًا بهدم الأسقف الإسمنتية التي تأويهم وإعطائهم مهلة زمنية للامتثال للأوامر، يتولى بعدها الجيش اللبناني عملية الهدم. وبالفعل، قام الجيش حينذاك بهدم عدد من أسقف الخيم في منطقة بر الياس في البقاع من دون إنذار مسبق لمخالفتها قوانين البناء.
يحصل هذا فيما تعاني برامج الاستجابة الإنسانية المولجة بتأمين الملجأ للاجئين السوريين في لبنان، من تراجع التمويل في السنوات الأخيرة بشكل خاص. وبحسب "تحديث 2020 حول خطّة الاستجابة للأزمة في لبنان"، وهو جهد مشترك بين الحكومة اللبنانية والشركاء المحليين والدوليين لمعالجة احتياجات الفئات السكّانية الضعيفة في لبنان، كانت المجموعات التي تؤمّن الملاجئ بحاجة إلى 155.6 مليون دولار تقريبًا، لم يكُن قد تم تأمّين سوى 27 مليون دولار منها بحلول نوفمبر/تشرين الثاني من ذاك العام، أي 17% فقط.
ويرجّح مع هذا الشح في التمويل أن تستمر ظروف اللاجئين السوريين بالتدهور، في ظل إحجام المنظمات الدولية عن تأمين ما يكفي لسدّ احتياجاتهم الأساسية، وعدم تعاون السلطات اللبنانية معها للقيام بخطوات تخفف من حدة معاناتهم.
في الفترة الأخيرة، تعالت أصوات حقوقيين في لبنان مطالبة السلطات المحلية وأصحاب العقارات بضرورة وقف الإجراءات التعسفية بحق اللاجئين السوريين في ما يخص المسكن، والالتزام بالقوانين اللبنانية في حالات الإخلاء. كما أشار هؤلاء إلى ضرورة إعطاء المستأجرين مدة زمنية مناسبة تفصل بين إشعار الإخلاء والوقت المحدد لتنفيذه، بحيث تتيح للمستأجر تأمين مسكن بديل.
يتردد صوت هذه المطالبات الفردية في أروقة المنظمات الإنسانية والمجتمع الدولي، ويتم تجاهله إلى أن يختفي من دون أي تحرّك يذكر. فقد أصبحت صور العائلات السورية التي تبيت في العراء في ظروف قاسية وجغرافيات مختلفة، مادة بصرية مألوفة تستهلكها الأطراف السياسية المختلفة لخدمة أجنداتها وتراشق الاتهامات في ما بينها، إلى حين انتشار صور أخرى.
* أُنجز هذا التقرير بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.