"كانوا مفكريني ملبوسة من جنّي": الاكتئاب عند اللاجئين السوريين

برغم دور خدمات الصحة النفسية في التخفيف من حدة أعراض الاكتئاب على المدى القصير، فإن المصابين به من اللاجئين السوريين يحتاجون إلى تغييرات حقيقية على المستوى المعيشي والقانوني لتحسين وضعهم النفسي على المدى الطويل.

بابتسامة خجولة وعيون حائرة، استقبلتني هدى وطفلها الأصغر في منزلها الحجري البسيط في البقاع شرق لبنان، حيث تعيش وحيدة مع أطفالها بعد وفاة زوجها في حادث أليم أثناء عمله.

تعاني هدى، أو "أم ريما" كما تفضّل أن نناديها، من اضطراب ما بعد الصدمة وأعراض اكتئاب حاد شلّت قدرتها على العمل أو التواصل أو الحركة لمدة طويلة، قبل أن تدرك بالصدفة عن طريق أحد مجموعات "فيسبوك" الخاصة باللاجئين السوريين حول العالم، أن ما يحدث معها سببه نفسي، لا فيزيائي أو ميتافيزيقي كما أخبرها من حولها.

تشرح لي قائلة: "بدأت أختبر الأعراض بعد خسارتي طفلتي نتيجة القصف الذي دمّر منزلنا، وتسبب بنزوحنا من سوريا إلى لبنان. بقيت لنحو سنتين داخل الخيمة خائفة من كل شيء حولي وغير قادرة على القيام بأبسط المهام، أبكي ابنتي وأحلم بها أثناء النوم وخلال اليقظة، إلى أن قرأت قصة إحدى النساء اللاجئات في ألمانيا التي اختبرت ما أعاني منه بالضبط بعدما فقدت طفليها في الحرب السورية، فتواصلتُ معها ونصحتني باللجوء إلى أحد المختصين النفسيين".

نحو ربع اللاجئين يعانون من الاكتئاب

بحثت دراسة نشرتها  مجلة BMC Public Health العِلمية في أسباب انتشار أعراض الاكتئاب، وهو اضطراب نفسي منهك وشائع بين اللاجئين السوريين في لبنان، وارتباطاته السريرية والاجتماعية الديموغرافية، وأفادت بأن شخصًا واحدًا تقريبًا من بين كل أربعة لاجئين سوريين في لبنان تظهر عليه أو يختبر أعراض اكتئاب متوسطة إلى حادّة.

يستدعي الاكتئاب بين اللاجئين انتباهًا خاصًا بسبب تداعياته طويلة الأمد، التي يمكن أن تعيق الأداء الاجتماعي والشخصي والمهني للمريض وسائر العوامل التي تتيح له أن يكون منتجًا ومستقرًا.

منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، فرَّ نحو ستة ملايين لاجئ باتجاه الدول المجاورة وأوروبا، وأشارت المعطيات التي أتاحتها دراسات سابقة إلى ارتفاع في مستوى الاضطرابات النفسية بين مجتمعات اللاجئين السوريين بشكل عام، إلّا أنها تفاوتت بين الدول النامية والمتقدّمة. فكانت معدلات انتشار الاكتئاب أقل في الدول المتقدمة مما هي في الدول النامية، حيث رُصد الاكتئاب في نحو 14.5% من العينة المدروسة من اللاجئين السوريين في ألمانيا، في مقابل 37.4% في تركيا و43% في لبنان. 

ويعزو البعض هذا التفاوت في النتائج إلى القدرات المحدودة للدول النامية في التعامل مع الحاجات الصحية للفئات الهشّة، وإلى الظروف المعيشية السيئة للاجئين في غالبية هذه الدول. وتعدّ أحوال اللاجئين بعد النزوح والآفاق المستقبلية لهم في البلد المضيف، عوامل مهمة لحمايتهم من اضطرابات الصحة النفسية أو قابلية التعرّض لها. لذلك، فإننا نجد أن حالات الاكتئاب في لبنان تتناسب بشكل طردي مع تردّي أحوال اللاجئين فيه.

وقد اختبر معظم اللاجئين، بوصفهم أشخاصًا هاربين من مناطق نزاع، أحداثًا صادمة نفسيًا وأشكالًا مختلفة من الخسارات أو التمييز أو الظلم أو العنف، التي بدأت بالتراكم في الحرب وخلال رحلة النزوح وما تلاها. وعرّضهم هذا الأمر إلى احتمالات أعلى للإصابة بالاضطرابات النفسية بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى، وزاد من تعرضهم إلى مشكلات جسدية. ويعدّ اضطراب الاكتئاب الحاد واضطراب ما بعد الصدمة واضطرابات القلق أخرى أكثرَ ما يؤثر على الصحة النفسية للاجئين السوريين حول العالم بحسب الدراسة.

النساء أكثر عرضة من الرجال

رصدت دراسات عديدة معدلات انتشار أعلى للاكتئاب بين النساء بالمقارنة مع تلك الموجودة لدى الرجال في مجتمعات اللاجئين السوريين في لبنان وغيره من الدول. ويعود هذا الفارق إلى أسباب عدة، أبرزها الزواج المبكّر أو القسري للفتيات في المخيمات، واضطرارهن في الكثير من الحالات إلى تحمل مسؤوليات عائلية أكبر من قدرتهن، كالإعالة وتربية الأطفال. كما أن النساء بشكل عام، وفي سياقات اللجوء بشكل خاص، أكثر عرضة للتحرش والعنف الجنسي والجسدي من أقرانهن الرجال. وترفع هذه الضغوط المحتملة من قابلية الإصابة بأعراض متوسطة إلى حادّة من الاكتئاب. 

وإلى جانب الجنس، ثمة عوامل أخرى ترفع من مخاطر الإصابة بالاكتئاب لدى اللاجئين السوريين في لبنان، كالوضع الاجتماعي والمهني والفئة العمرية. كذلك فإن البطالة ووفاة الشريك الزوجي من العوامل بالغة التأثير على الصحة النفسية. وتُظهر النتائج الخاصة بالفئة العمرية أن الأشخاص الذين يتجاوزون سن الـ 45 هم الأكثر عرضة للاكتئاب بالمقارنة مع الفئات العمرية الأخرى. ويعود هذا الأمر إلى أسباب عدّة، أهمّها أن الأشخاص الأكبر سنًا كثيرًا ما يُنظر إليهم باعتبارهم الرافعة المادية والمعنوية لعائلاتهم، خصوصًا في المجتمعات التي تميل إلى المحافظة. وقد أدت خسارتهم هذه الوضعية بسبب ظروف الحرب إلى شعور الكثير منهم بالوحدة والعجز. كذلك فإن أفراد هذه الفئة العمرية يعانون في كثير من الأحيان من أمراض مزمنة سابقة تستدعي المزيد من الرعاية الطبية. 

جنّ وجنون و"بدائل علاجيّة"

أدى توافد أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين إلى لبنان وازدياد الطلب على خدمات الرعاية الصحية مع انتشار فايروس "كورونا" ومن ثم انفجار 4 آب 2020 إلى تعطيل نظام الرعاية الصحية الهشّ في البلاد، فأصبح عاجزًا عن تلبية الاحتياجات الصحية الأساسية لقطاعات واسعة من السكان. وقد أثّر هذا العطب في النظام الصحي على إمكانية الوصول إلى خدمات الصحة النفسية التي باتت الحاجة إليها أكثر إلحاحًا مع توالي الأزمات.

ويواجه اللاجئون السوريون صعوبات أكثر من غيرهم في الوصول إلى هذه الخدمات لأسباب اجتماعية/ثقافية كالخوف من الوصمة الاجتماعية والتمييز وغياب المعرفة بأهمية الصحة النفسية، وكذلك لأسباب مادية ولوجستية، بينها ما يتصل بندرة الخدمات الموجودة في المناطق الريفية وصعوبة التنقل المرتبطة بها. 

وتؤدي هذه الأسباب دورًا في إفساح المجال للبدائل العلاجية غير العلمية أو الموثوقة. فتحكي لي هدى مثلًا عن تجربتها مع أحد مشايخ المخيم الذي لجأت له بغرض علاجها من الاكتئاب قائلة: "عيلة زوجي كانوا مفكريني ملبوسة. يعني من جنّي. فأخدتني مرت عمي لعند شيخ قالتلي إنه بجيبوا المجانين من مخيمات بعيدة لعنده قد ما شاطر. صرت إبكي وصرّخ حتى غميت ورجعوني عالبيت. زاد وضعي سوء بعد هديك الحادثة".

وتقدم وزارة الصحة اللبنانية بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمات غير حكومية محلية ودولية خدمات صحية أولية مجانية للاجئين المسجلين في المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، بينها خدمات تتصل الصحة النفسية. لكن، برغم ذلك، ظلّت العوائق المادية تشكل سببًا رئيسًا يحول دون وصول اللاجئين السوريين، المسجلين وغير المسجلين، إلى هذه الخدمات.

"أهم شي يكون فيه منو بديل لبناني أرخص من الأجنبي. حتى الرخيص بطّل رخيص. صرت إجبر حالي اشتغل ساعات أطول حتى إقدر إتعالج. كانت أصعب سنين حياتي"، تجيب هدى لدى سؤالها عن أدويتها وطرق تأمينها. 

وبرغم دور خدمات الصحة النفسية في التخفيف من حدة أعراض الاكتئاب على المدى القصير، فإن المرضى يحتاجون إلى تغييرات حقيقية على المستوى المعيشي والقانوني لتحسين وضعهم النفسي على المدى الطويل. وفي لبنان، ثمة الكثير من العوامل التي ما زالت تعيق ذلك.

جفافُ بلاد الرافدين

وفقًا لتوقعات "مؤشر الإجهاد المائي"، فإن العراق سيكون أرضًا بلا أنهار بحلول العام 2040. أما عام 2025،..

سارة خازم
لاجئون بلا مسكن

في الفترة الأخيرة، تعالت أصوات حقوقيين في لبنان مطالبة بوقف الإجراءات التعسفية بحق اللاجئين السوريين في..

سارة خازم
لعنة لا تنتهي…

وصلتُ إلى بيروت بعد سنتين من الانقطاع عنها. وجدتُ المدينة التي كانت معشوقتي الأولى أيام الزيارات..

سارة خازم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة