إعادة توطين السوريّين في ألمانيا: رحلة لجوء و"اندماج" عابرة للدول

"بس تطلع بالطيّارة، ما عاد حدا بيعرف عنّك شي"؛ هذا تعبير غازي عن بداية رحلة لجوئه وحيدًا من لبنان إلى ألمانيا.

ورقةُ "سجلّ عدليّ لبنانيّ" هو الخيط الذي ما زال يربط رحلة غازي على مدى أكثر من عقد: هربٌ من حرب سوريا إلى لبنان، وهربٌ من اللجوء في لبنان إلى ألمانيا، ومحاولة التأقلم مع مجتمع جديد وبيروقراطيّة معقّدة.

بعد ثماني سنوات من دخول ألمانيا، لم يسلم غازي من استعادة حياته في لبنان وعلاقته معه، فأصبحَ "شغله الشاغل" التفكير بطريقة (شرعيّة أو غير شرعيّة) لتأمين سجلّه العدليّ من لبنان، حتّى لا يخسر فرصة عمل مهمة له في إحدى الولايات جنوب غرب ألمانيا.

 ليس سهلًا على اللاجئ السوريّ في لبنان أن يحصل على أوراق رسميّة أو ثبوتيّة في ظلّ إجراءات بيروقراطيّة متعبة، أو رهن "الواسطة"، لا يخلو عمل بعض الموظّفين فيها من العنصريّة الملموسة في المجتمع اللبنانيّ، والتي ترتكز إلى أسس سياسيّة واجتماعيّة مسقطة. وليسَ سهلًا على اللاجىء السوريّ في ألمانيا، كأيّ لاجىء آخر، أن يندمج ويستقرّ بسهولة، من دون المرور بيروقراطيّة قد تطول الإجراءات فيها لسنوات عدّة، فتصبح رحلة اللجوء طويلة وشاقّة بين البلدين.

إعادة التوطين

قبل 14 عامًا، كانت متابعة الدراسة الجامعيّة العليا طموحًا لغازي إثر دراسته الهندسة في سوريا، قبل أن يصبحَ لاجئًا في لبنان بعد الحرب. لم يكن يتوقّع أن يحقّق هذا الطموح بعد 7 سنوات عاش غالبها كلاجئ في لبنان. ولكن لم يكن تحقيقه ذلك بسهولة رحلة الطائرة التي أقلّته هو وزوجته وابنتهما من بيروت إلى ألمانيا في حزيران 2015.

رحلة غازي من لاجىء في لبنان إلى مقيم في ألمانيا هي واحدة من آلاف الرحلات التي خاضها أفرادٌ وعائلاتٌ سوريّة بدأتُ في العام 2013 وما زالت مستمرّة حتّى العام 2025 بحسب تصريحات رسميّة ألمانيّة. لم تكن ألمانيا الوجهة الوحيدة للاجئين من لبنان، ولم تكن أسباب الرحلات واحدة. فمن بين الذين حصلوا على فرصة السفر أشخاصٌ ذوو حالة صحّيّة حرجة أو هاربون من تهديد أمنيّ أو هاربات من عنف زوجيّ أو أسريّ، أو طالبو علم. لكنّ الجامع بين الحالات كلها هو إجراءات السفر وصفة اللجوء في لبنان وألمانيا على حدّ سواء.

تُصرّح منظّمة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين في لبنان لـ"أوان" أنّه "حتى الساعة، هناك نحو 107 آلاف لاجىء "بحاجة إلى إعادة توطين في بلدان ثالثة، بسبب أوضاعهم الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة الهشّة أو حاجتهم الملّحة لرعاية صحّيّة غير متوفّرة في لبنان".

أدت منظّمة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين في لبنان دورًا أساسيّا في عمليّة تسهيل سفر السوريّين المسجّلين لديها إلى ألمانيا، فهي الجهة التي تدرس ملفّات السفر للاجئين وترسلها إلى البلد المستضيف، أي ألمانيا في هذه الحالة، وتتابع الإجراءات التي تتبع قبول ملفّ اللجوء، أو ما يسمّى حاليا بـ"إعادة التوطين إلى بلد ثالث". ولمنظّمة الهجرة الدوليّة دورٌ أيضًا في الحصول على بعض الأوراق الأساسيّة للملفّ فضلًا عن التواصل مع الولايات الألمانيّة المستقبلة للاجئين.

في العام 2013، بدأ برنامج إعادة التوطين الألمانيّ لاستقبال مؤقّت لـ4000 لاجئ سوريّ من لبنان، حتّى يصبح بإمكانهم "أن يعودوا إلى بلادهم آمنين". وفي أيلول من العام نفسه، أقلعت أوّل دفعة من اللاجئين في لبنان تضمّ 107 سوريّا كانت قد حدّدت من قبل منظّمة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين ومنظّمة الهجرة الدوليّة. 

يحمد غازي الله أنّه نجا من الانجراف في معاملات وأوراق رسميّة - للاجئين السوريّين في لبنان، بما تحملُه من بيرقراطيّة ومشاكل إداريّة يعاني منها الجميع في لبنان، وممّا قد يُضاف إليها حين تكون المعاملات متعلّقة باللاجئين.

سُجّل غازي كلاجئ لدى منظّمة الأمم في العام 2013 وتلقّى اتّصالًا في العام 2014 يسألُه عن رغبته في السفر إلى ألمانيا، فوافق على فكرة السفر، وبالتالي على بداية التحضير لمرحلة جديدة، تبدأُ أوّلًا في إجراءات السفر التي استمرّت أكثر من عام قبل الإقلاع إلى ألمانيا.

ساعدت منظّمتا الأمم المتّحدة والهجرة الدوليّة غازي على الحصول على الأوراق المطلوبة من الأمن العام أو عدليّة بيروت أو وزارة الصحّة اللبنانيّة، وصولًا إلى حجز موعد له لدى السفارة الألمانيّة في بيروت ومرافقته لتقديم الطلب. وعند تخليص معاملات السفر، كانت ابنة غازي ما زالت صغيرة ولا تملكُ من الأوراق الثبوتيّة إلّا وثيقة ولادة قدّمها غازي للأمم المتّحدة، فمنحتها جواز سفر للّجوء الإنسانيّ، حتى استطاعت العائلة أن تسافر سويّة.

"بس تطلع بالطيّارة، ما عاد حدا بيعرف عنّك شي"؛ هذا تعبير غازي عن بداية رحلته وحيدًا لمواجهة ما ينتظره في ألمانيا، بعد انتهاء دور المنظّمتين المذكورتين.

في النصف الأوّل من العام 2019، أطلقت ألمانيا برنامج إعادة توطين اللاجئين "نيست" (اختصار لكلمة "بداية جديدة" في الألمانيّة)، بهدف تأمين موطن للاجئين السوريّين في دول الأردن ومصر ولبنان وإثيوبيا، ليس باستطاعتهم البقاء في تلك البلاد لأسباب ذكرنا بعضها سابقًا. على الأقلّ، يُمنح المستفيدون إقامة لثلاث سنوات قابلة للتجديد، ويمكنهم الحصول على تصاريح عمل ودورات لغة عند وصولهم إلى ألمانيا. وبحسب ما أفادتنا به منظّمة الأمم، فإنّها قدّمت ملفّات لـ8034 لاجئًا يعيشون في لبنان لإعادة التوطين في العام الماضي، ليكون لبنان البلد الثاني عالميّا الذي يقدّم ملّفات إعادة التوطين. ولكنّها تشير إلى أنّ هذا العدد قليل مقارنة باحتياجات إعادة التوطين المتوقّعة لأكثر من مئة ألف سوريّ في لبنان.

لم يكن لغازي حريّة اختيار البلد الذي "سيُعاد توطينه فيه" أو حرّيّة اختيار المكان في ذلك البلد. فالسوريّون الوافدون من لبنان ودول اللجوء الأخرى (تركيا والأردن تحديدًا) يُفرزون إلى ولايات مختلفة بحسب "الطلب".

ولكلّ ولاية حصّة من عدد اللاجئين، وقد يحصل أن تطلب إحدى الولايات عددًا محدّدا ليعيش فيها. ومن اللافت أنّه بعد الحرب في أوكرانيا ولجوء عدد كبير من الأوكرانيّين إلى ألمانيا، أصبحت بعض الولايات تطلب الاستغاثة لعدم قدرتها على استقبال عدد إضافيّ من اللاجئين (من السوريّين على وجه خاصّ)، كونها باتت تستخدم المدارس والملاعب كمخيّمات لهم. 

إذًا، يختلف استقبال اللاجئين بحسب الولايات. فمثلًا، أعلنت ولاية برلين وحدها عبر قرار لمجلس الشيوخ ضمن برنامج القبول الإنسانيّ عن منح 500 مكان على مدى خمس سنوات (من العام 2021) للاجئين سوريّين معترف بهم في لبنان وبحاجة إلى حماية أو حلول دائمة. ووصلت الرحلة الأولى من لبنان وعلى متنها حوالي 100 سوريّ في كانون الأوّل/ديسمبر 2021، والرحلة الثانية في حزيران/يونيو 2022 وعلى متنها 108 سوريًّا "من بينهم عائلات بحاجة لمساعدة طبيّة وأولاد يعانون من صعوبات سمعيّة". وإضافة إلى برنامج إعادة التوطين، منح مجلس الشيوخ الفرصة أمام السوريّين المقيمين في برلين لدعوة أقربائهم إلى برلين، ومن بينهم اللاجئون في لبنان. ومن المتوقّع أن يغادر مخيّمات اللجوء 300 سوريّ إلى برلين تحديدًا قبل نهاية العام، بعد إعلانها استقبال 300 لاجئ من لبنان حصرًا.

تجربة البيروقراطيّة والاندماج

يخبرنا غازي عن "الخطوات الإجباريّة في حياة السوريّ في ألمانيا"، فيذكر أوّلها تعلّم اللغة الألمانيّة حتّى مرحلة متقدّمة، وهو ما يسمّى بمساق اندماج الذي يتبع التسجيل في "مركز العمل" حيث تسجّل غازي وزوجته. هذا المركز هو المحطّة الأولى التي يمرّ عليها جميع السوريّين الذين قدموا إلى ألمانيا إمّا كلاجئين عبر الأمم المتّحدة أو بطريقة أخرى من ضمنها غير القانونيّة.

بعد التسجيل، تلقّى غازي وزوجته ما يسمّى بمعونات مادّيّة حتّى يُسمح لهم بالعمل أو الدراسة رسميّا بعد إتمام تعلّم اللغة. بمعنى آخر، وبحسب غازي: "المركز مسؤول عنّا حتّى نوقف على إجرينا". وهنا تبدأ مرحلة تسوية الملفّ،  فعند وصول غازي إلى ألمانيا، كأيّ لاجىء قادم دخل أراضيها، أجرى مقابلة أولى أو ما يعرف بمحكمة أولى حيثُ يُدرس طلب اللجوء. بعد الموافقة عليه، يدعى الشخص إلى محكمة ثانية حيثُ يُواجه قاضيا ويُسأل عن سبب سفره إلى ألمانيا. وعندها تقرّر المحكمة نوع الإقامة التي ستمنحها، والتي قد تكون إقامة سنة (ما يسمّى بإقامة حماية) أو أكثر من ذلك.

ولا ينفي غازي استنزاف هذه الإجراءات للوقت والجهد والقيود التي تضعها الإقامة التي حصل عليها (مدّتها سنتان)، بحيث تمنع السوريّ من العمل المستقل أو "فتح مصلحة" خلال السنوات الخمس الأولى في ألمانيا، وتسري المدّة ذاتها على تقديم طلب إقامة أو جنسيّة. ومن المفروض على أيّ لاجىء سافر عن طريق الأمم المتّحدة أن يسعى لتحصيل جواز سفر (عبر السفارة السوريّة في ألمانيا أو من سوريا، علمًا بأنّ من يمنح صفة اللاجئ في ألمانيا يمنع من الدخول إلى الأراضي السوريّة ضمانًا لحمايته). وبرغم كل الإجراءات البيروقراطيّة، تابع غازي وزوجته تحصيلهما العلميّ في ألمانيا. 

تصف منظّمة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين إعادة التوطين بـ"حلّ محدود لكنّه رئيسيّ للأشخاص غير القادرين أن يعودوا إلى ديارهم". وتذكر المنظّمة أنّ معايير اختيار الأشخاص لمشروع إعادة التوطين إلى بلد ثالث هو تعرّضهم للخطر أو الأذّيّة الجسيمة في لبنان أو في سوريا. وتراعي المنظّمة عند تقييم المخاطر "السياق المحلّيّ وتوافر الحماية القانونيّة والمادّيّة، وإمكانيّة الوصول إلى الخدمات الضروريّة، واحتمالات العودة بأمان إلى وطنهم ومبدأ وحدة الأسرة". ولكن يقتصر اختيار المنظّمة على الأشخاص المسجّلين كلاجئين لديها، ممّا يحرم كلّ من ليس مسجّلًا (لأسباب تشمل إجراءات حكوميّة أو توقّف المنظّمة عن تسجيل اللاجئين لسنوات عدّة) من فرصة السفر إلى ألمانيا أو أيّ دول أخرى تفتح باب استقبال اللاجئين السوريّين. 

ختم الأمن العامّ اللبنانيّ منعًا لدخول الأراضي اللبنانيّة لمدّة خمس سنوات على وثيقة سفر غازي وغيره من السوريّين الخارجين من لبنان ضمن برامج إعادة التوطين أو القبول الإنسانيّ في دول أوروربيّة وأميركيّة. فأصبح السوريّ المغادر من لبنان غير قادر على العودة إليه أو إلى بلده، وعليه أن يعيش تجربة البيروقراطيّة الألمانيّة بهدف "الاندماج" وإيجاد بلد قادر على استقباله. وبرغم ذلك، وبعد سنوات عدّة من مغادرة لبنان (ومنع العودة إليه في بعض الحالات)، يبقى غازي وغيره كثر من السوريّين في ألمانيا يحتاجون إلى أوراق رسميّة من لبنان، ويجهدون في البحث عن وسيلة لذلك ولو كلّقتهم مبالغ كبيرة.

* أُنجز هذا التقرير بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

الهجرة من لبنان: هروب من مجهول إلى آخر؟

يخرج معظم المقيمين في لبنان منه قسرًا وهربًا من واقعه الاقتصاديّ الكارثيّ، وإن كانت نسبة منهم تسافر..

ماهر الخشن
الرعاية الصحيّة لكبار السنّ في لبنان: العجز في النظام لا في العمر

همّ التأمين الصحّيّ يكون مضاعفًا لدى فئة كبار السّنّ، ليس فقط لحرج أوضاعهم الصحيّة، إنّما لأنّ الجزء..

ماهر الخشن
لبنان: عينُ الرقابة على المحامين

أصبح قرار منع المحامين من الظهور إعلاميًّا دون أخذ إذن النقيب موضوعَ رأي عام عن قمع الحرّيّات في لبنان،..

ماهر الخشن

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة