لبنان: عينُ الرقابة على المحامين

أصبح قرار منع المحامين من الظهور إعلاميًّا دون أخذ إذن النقيب موضوعَ رأي عام عن قمع الحرّيّات في لبنان، خصوصًا إثر استدعاء محامين معارضين لقرار مجلس النقابة لاستجوابهم، والتهديد بشطبهم من النقابة.

 

"أنا ما حد بيقدر يتمرّد عليّي، وما حدا بيقدر يضغط ولا حتّى يمون عليّي"؛ بهذه الكلمات وصف ناضر كسبار نفسه، بعد أشهر من انتخابه نقيبًا للمحامين في بيروت في تشرين الأوّل/أكتوبر 2021. كرّر كسبار جزءًا من هذه الجملة في تصريح إعلاميّ أخيرًا بعدما قرّر ومجلس نقابة بيروت تعديل نظامها لمنع المحامين من الظهور إعلاميًّا دون أخذ إذن النقيب في 3 آذار/مارس من العام الحاليّ 2023.

أصبح هذا التعديل موضوع رأي عامّ عن قمع الحرّيّات، خصوصًا حرّيّة المحامين، بحيث لم يكتفِ النقيب بهذا القرار، بل تلته استدعاءات لاستجواب محامين معارضين لقرار مجلس النقابة أو مخالفين له، وتهديدٌ بشطب اسمهم من النقابة. من أصدر هذا القرار ــــ الذي يُخضع المحامين إلى رقابة مسبقة و"ملاحقة مسلكيّة" في حال الاعتراض ــــ هو النقيب نفسه الذي قال فور فوزه بمنصبه في العام 2021: "نحنا ديمقراطيّين ويا ريت كلّن بيتشبّهوا فينا، ونحنا رح نشتغل بكلّ محبّة نقابيًّا". وكان كسبار، الذي يعرّف عن نفسه بـ"المستقلّ"، قد فاز بمنصبه بـ1530صوتًا بعد منافسة مع المحامي عبدو لحّود المدعوم من "القوّات اللبنانيّة" بـ1035 صوتًا. 

برغم أنّ هذا القرار للنقيب كسبار كان مفاجئًا ــــ ظهر القرار إلى العلن في نهاية شهر آذار/مارس ــــ وأحدث ردّ فعل كبير، إلّا أنّه من الواضح أنّ فكرة هذه القرار ليست وليدة اللحظة. في مقابلة على موقع إلكترونيّ (سبوت شوت) قبل سنة من القرار الأخير، صرّح كسبار بشكل واضح أنّ "المحامي ممنوع يظهر إعلاميّا إذا ما أخذ إذن من نقيبه". ووجّه كلامه ــــ ساخرًا ــــ إلى الذين سيعترضون على ذلك بحجّة "التعارض مع حرّيّة الرأي": "يطعنوا بقوانين وأنظمة نقابة المحامين". وكرّر هذه الجملة أيضًا في مقابلة منذ أيّام على "تلفزيون الجديد" مؤكّدًا أنّه "أكتر الناس مع الحرّيّات".

يعتبر النقيب ناضر كسبار نفسه أبًا للمحامين، بحسب ما يقوله في مقابلاته الأخيرة أو في الاجتماعات الداخليّة لنقابة المحامين، واستخدم هذا التوصيف في معرض دعوته المحامين للالتزام بهذا القرار. وفي مقابلة في شهر شباط/فبراير الماضي، اعترض النقيب على "الثورة" بالإشارة إلى انتفاضة 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، معتبرًا أنّ الناس تعلّقت خلالها بالشخصيّات والمحامين "الشعبويّين"، مردفًا أن الانتفاضة لربّما افتُعلت "ليقدروا المصارف يهرّبوا الأموال لبرّا". وللمفارقة، قبيل انتخابات النقابة في العام 2021، كان كسبار يصفُ نفسه بـ"أب الثورة".

قرار النقيب: اعتراضات واستدعاءات

التعديلات التي أقرّها مجلس نقابة المحامين في بيروت على "نظام آداب مهنة المحاماة ومناقب المحامين"، طالت أكثر من مادّة متعلّقة بالظهور إعلاميّا وتقديم الاستشارات. فأصبح أحد بنود المادّة 41 على الشكل التالي: "على المحامي أن يستحصل من نقيب المحامين، بأيّ وسيلة متاحة، على إذن مسبق للاشتراك في ندوة أو مقابلة ذات طابع قانونيّ عامّ تنظّمها إحدى وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعيّ أو المواقع الإلكترونيّة أو المجموعات، على أن يحدّد في طلبه زمانها وموضوعها واسم الوسيلة". كانت تنصّ المادّة سابقًا على "استحسان" إبلاغ النقيب، ولكنّ الأخير آثر أن تصبح ملزمة، متحكّمًا بحريّة المحامي.

وتنص المادّة 39، بعد تعديلها، على منع استخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ للكلام عن أيّ قضيّة ما زالت قائمة، وتستثني من ذلك "القضايا الكبرى التي تهمّ الجميع بعد أخذ موافقة النقيب". أمّا المادّة 40، فتنصّ على منع المحامي من الإجابة على أيّ "أسئلة مباشرة لها طابع الاستشارة القانونيّة".

اعترض عدد من المحامين على قرار النقيب، إلّا إنّه بدأ بتطبيق مفاعيل القرار فورًا. كان أوّل الإجراءات المتّخذة استدعاء المحامي ميشال نعمة في 20 آذار/مارس الماضي بعد أن أعرب عن رفضه التعديلات، ودعا النقيب ومجلس النقابة للاستقالة. وفي حين اعترض عدد من المحامين على القرار، وقام اثنا عشر محاميّا بتقديم "استئناف مع طلب وقف تنفيذ" إلى محكمة الاستئناف المدنيّة الناظرة في القضايا النقابيّة بتاريخ 29 آذار/مارس 2023، أصرّ النقيب على اتّخاذ الإجراءات بحقّ "المخالفين" للقرار، فاستدعى مجلس النقابة المحاميّين يوسف الخطيب وحسين رمضان للاستماع إليهما من قبل مفوّض قصر العدل في 18 الشهر الحاليّ، وقد جرى الاستماع إلى رمضان بحضور النقيب ومن دون فتح محضر رسميّ. 

أمّا الاستدعاء الثالث فكان للمحامي نزار صاغية بعد ظهوره على الإعلام ونقده الصريح لقرار النقابة، بحيث دُعي إلى جلسة استماع إليه من قبل مجلس النقابة في 20 نيسان/أبريل من دون ذكر السبب، وهو يواجه خطر اتّخاذ المجلس قرار الشطب الإداريّ بحقّه، أي منعه من ممارسة مهنة المحاماة. وقدّم صاغية طعنًا آخر في قرار النقابة أضيف إلى الطعن المقدّم سابقًا، والذي من المتوقّع صدور القرار فيه في 4 أيّار/مايو 2023. وكان صاغية، وهو المدير التنفيذيّ لـ"المفكّرة القانونيّة"، قد وصف في أكثر من مقابلة قرار النقيب الأخير بأنّه يمسّ مباشرة بجوهر الحريّة وجوهر حقوق الإنسان، وبأنّه يخالف الدستور اللبنانيّ والمعاهدة الدوليّة لحقوق الإنسان. 

"منع الفوضى"

لا أسباب موجبة وواضحة لإصدار النقيب قرار التعديلات الأخير سوى ما صرّح به عن "منع للفوضى"، دون توضيح معناها، برغم أنّ تعديلًا على الحرّيات ــــ في حال الضرورة ــــ يحصل بموجب قانون لا قرار. وكان قد ذكر هذا المصطلح في ندوة عقدت في نهاية الشهر الماضي تعليقًا على "إمكانيّة التعبير التي أتاحتها كثرة المواقع الإلكترونيّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ". وفي هذا السياق، أوضح صاغية، في سياق مقابلة أخرى أجراها بعد استدعائه من قبل النقابة، أنّ الحديث عن الفوضى هو كرهٌ لأيّ أمر قد يتعرّض للنظام السائد حاليًا، معتبرا أنّ القرار قد يكون مدفوعًا بضغط على نقابة المحامين، ممّا يدفع النقيب إلى محاولة إثبات أنّه قادر على "ضبط الموضوع". 

"رقيب المحامين" أصبح تعريف النقيب الذي انتشر بعد قرار رقابته المسبقة على حريّة المحامين. وقد أدى القرار واستدعاء صاغية أخيرًا إلى تنظيم حملات تضامن واسعة. فأنشئت عريضة لمطالبة مجلس نقابة المحامين في بيروت بالتراجع الفوريّ عن القرار الذي "يمسّ بجوهر الحريّة تحت غطاء تنظيمها، ومن شأنه حرمان أجيالٍ من المحامين من أداء أدوارهم في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان والمجتمع". وحصدت العريضة حتّى الآن أكثر من 515 توقيعًا، بعضها من أحزاب ومجموعات سياسيّة وحقوقيّة، فضلًا عن 14 نائبًا وأكثر من 60 محاميًا، إضافة إلى عدد كبير من العاملين في مجالات الصحافة والإعلام والتعليم والأكاديميا وكتّاب وباحثين اقتصاديّين وعاملين في القطاعات المهنيّة. 

إنّ قرار النقابة بتقييد الحرّيّة عبر منع إبداء الرأي القانونيّ هو معارضٌ للدستور الذي يكفل تلك الحرّيّة. وعلاوة على ذلك، تنصّ المادّة الأولى من قانون تنظيم مهنة المحاماة على أنّها "مهنة ينظّمها هذا القانون وتهدفُ إلى تحقيق رسالة العدالة بإبداء الرأي القانونيّ والدفاع عن الحقوق". وبرغم دخول القرار الأخير والنقاش حوله في صلب القوانين (التي يسنّها مجلس النوّاب)، إلّا أنّ أيّ اعتراض رسميّ على ذلك لم يظهر.

الجدير ذكره إلى أنّ 17 نائبًا حاليّين هم في الأصل محامون (16 منهم منتسبون إلى نقابة بيروت ومحام منتسب إلى نقابة طرابلس)، وقّع اثنان منهم على العريضة المذكورة سابقًا، هما فراس حمدان وجورج عقيص. طالب الأخير (من كتلة "الجمهوريّة القويّة" أي حزب "القوّات اللبنانيّة")  في تغريدة على موقع "تويتر"، القضاء الذي ينظر بالطعن المقدّم ضدّ قرارات النقابة "الانتصار للحرّيّة وحماية نقابة المحامين كمعقل للحرّيّات العامّة". وقام النقيب السابق للمحامين في بيروت ملحم خلف (وهو نائب أيضا) بإرسال كتاب (بتاريخ 13 نيسان 2023) إلى النقيب وأعضاء مجلس النقابة، داعيًا فيه إلى اجتماع لإعادة النظر بتعديلات نظام النقابة الأخيرة "توصّلًا لإيجاد الصيغة الفضلى التي تحرّر المحامي من أيّ قيود تحدّ من رسالته، ولا تلزمه إلّا بالتقيّد بقسمه". 

أمّا التعليقات الأكثر دبلوماسيّة، فكانت لـ"حزب الكتائب" الذي يرأسه سامي الجميل، وهو محام أيضًا، فأصدر بيانًا رافضًا للقرار وداعيًا إلى تجميده، ولكن "بانتظار فتح حوار نقابيّ عاجل مع كل الأفرقاء المعنيّين"، معربًا عن استعداده لتسهيل الحوار. ودعت "الكتلة الوطنيّة" مجلس النقابة (التي تدعم عددًا من أعضائه) إلى "العودة عن هذا القرار بشكل فوريّ حفاظًا على دور النقابة والمحامين التاريخيّ"، لكنها طالبت باستبدال القرار بـ"تنظيم مفصّل وموضوعيّ لعلاقات المحامين مع وسائل الإعلام والتواصل بشكل عامّ... مع الأخذ بالاعتبار المقتضيات المهنيّة التي تفرضها الظروف الحاليّة في لبنان"، دون شرح معنى الجملة الأخيرة في إطار تحديد حرّيّة المحامين.

 

* أُنجز هذا التحقيق بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

الهجرة من لبنان: هروب من مجهول إلى آخر؟

يخرج معظم المقيمين في لبنان منه قسرًا وهربًا من واقعه الاقتصاديّ الكارثيّ، وإن كانت نسبة منهم تسافر..

ماهر الخشن
إعادة توطين السوريّين في ألمانيا: رحلة لجوء و"اندماج" عابرة للدول

"بس تطلع بالطيّارة، ما عاد حدا بيعرف عنّك شي"؛ هذا تعبير غازي عن بداية رحلة لجوئه وحيدًا من لبنان إلى..

ماهر الخشن
الرعاية الصحيّة لكبار السنّ في لبنان: العجز في النظام لا في العمر

همّ التأمين الصحّيّ يكون مضاعفًا لدى فئة كبار السّنّ، ليس فقط لحرج أوضاعهم الصحيّة، إنّما لأنّ الجزء..

ماهر الخشن

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة