رأيت حبيب صادق (1932-2023) مرة واحدة في عام 2004. لكنّني كنت أعرفه معرفة لا بأس بها قبل ذلك بكثير، منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين على الأقلّ، من خلال صحف ومجلات "الحزب الشيوعي اللبناني" و"الحركة الوطنية اللبنانية".
صورته في ذهني، قبل أن أراه، كانت صورة "شيخ" (مثل حسين مروة، تقريبًا) وقف، في أواخر ستينيات القرن العشرين وأوائل سبعينياته، مع "الشباب" (مثل جورج حاوي ومهدي عامل وسواهما) في صفّ التغيير الجذري لوجهة "الحزب الشيوعي اللبناني". وكانت صورته في ذهني أيضًا صورة النقابي والمناضل الثقافي والفكري (في "اتحاد الكتاب اللبنانيين" و"المجلس الثقافي للبنان الجنوبي") الذي يصعب أن تجد، في القطاع المشار إليه، تعبيرًا أحسن منه عن نهضة "الحزب الشيوعي اللبناني"، وتحوّله إلى حزب جماهيري بات يشكّل جزءًا جوهريًا من تاريخ لبنان والمنطقة، لا يُفهم هذا التاريخ من دونه، سياسيًا وعسكريًا ونقابيًا وفكريًا وفنيًا وأدبيًا وفلسطينيًا وسوى ذلك الكثير.
كنت أعلم، بالطبع، أنّ حبيب صادق نشأ نشأة دينية لدى والده المرجع الديني المعروف والشاعر الشيخ عبد الحسين صادق، لكنّه انتقل من هناك إلى الماركسية، من "شيعي" إلى شيوعي.
كنت أعلم أنّه شاعر هو نفسه، كتب في زمن القهر والغضب (1973) وجنوبًا ترحل الكلمات (1980) وقصيدته الرائعة "أرض الجنوب" التي أبدع مرسيل خليفة وأميمة الخليل في تلحينها وغنائها على التوالي:
شدّي عليك الجرح وانتصبي عبر الدجى رمحًا من اللهب
أهلوك لا سور من الكذب أهلوك لا قنّاصة الرتب
صدّوا الرياح السود يحفزهم جرح التراب وأنّة العشب
شغيلة من أرض عاملة أكرم بهم من عاطر النسب
لم يُغرهم تاج ومملكة لم يثنهم صعبٌ عن الطلب
ما همّهم الا الرُّبا سلمت آياتها من رجس مغتصب
أفديك بالأيام لم تشب أفديك بالأقمار لم تغب
أفدي صباك الشهم مقتحمًا ليل الردى بالساعد التَّرِب
كنت أعلم أنّه، إلى جانب الشعر، باحث ومدقق كتب، من بين ما كتب، عن وجوه مضيئة في الفكر والأدب والسياسة والاجتماع في جزئين (صدرا في عام 1980 و2004)، فضلًا عن اهتمامه بجمع التراث الشعري والأدبي لجبل عامل، وإشرافه على سلسلة بعنوان "تراث عاملي" يصدرها "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" الذي كان حبيب صادق روحه وقلبه وعقله، ومشاركته في كثير من الدراسات والندوات التي نظّمها هذا المجلس الذي تأسس في عام 1964 واستلم حبيب صادق أمانته منذ العام 1975. ولا أنسى، من بين ندوات المجلس، تلك الندوة التي نظّمها "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية وعُقدت في القاعة الكبرى للأونيسكو، في عام 2009، لمناقشة كتاب كريم مروة "نهوض اليسار العربي"، وسوف أعود إليها.
كان حبيب صادق منذ الفجر في بهو الفندق، ومعه جيش من المتبرعين بالدم لممدوح عدوان الذي تقدّم به السرطان
كنت أعلم، أيضًا، أنَّ هذا الماركسي والنقابي والمناضل الثقافي انتُخب نائبًا في البرلمان اللبناني في دورة العام 1992 ــــ على لائحة "التنمية والتحرير" (تحالف "أمل" ــــ "حزب الله")، لكنّه ما لبث أن انسحب من الكتلة ليصبح من النواب المستقلين، وأنّه أصدر كتابًا عن صراع المصالح والإرادات في معركة الانتخابات النيابية 2005.
كنت أعلم هذا كلّه وأقدّره ذلك التقدير الممزوج بمشاعر شخصية من النوع الذي يكنّه المرء لمن يجمع في شخصه بين الفكر والممارسة، بين الصرامة الفكرية والانفتاح الإنساني والإبداعي، بين المناضل الصلب والأب أو الأخ أو الصديق الحاني. وهذا بالفعل ما رأيته في حبيب صادق، وهو بالضبط ما أجمع عليه كل من كلّمني عنه من اللبنانيين الذين عرفوه،على مدى سنوات قضيتها أعمل في بيروت (2012 ــــ 2017).
في عام 2004، دُعيت من سوريا، مع بندر عبد الحميد وممدوح عدوان وزوجته إلهام عبد اللطيف وفيصل دراج ومحـمد كامل الخطيب وأحمد برقاوي وآخرين، إلى مؤتمر "الحداثة والحداثة العربية" الذي أقامته "المؤسسة العربية للتحديث الفكري" في فندق البريستول في بيروت ما بين 30 نيسان/ إبريل و2 أيار/ مايو. كان حاضرًا في ذلك المؤتمر كلّ من محـمد أركون ونصر حامد أبو زيد وزوجته ابتهال يونس وجورج طرابيشي وعبد المجيد الشرفي وعزيز العظمة وكمال عبد اللطيف وعادل ضاهر وفهمي جدعان ورجاء بن سلامه وشيرين أبو النجا والفنان محمود حميدة وآخرين، كما قُرئت ورقتان لكل من العفيف الأخضر وصادق جلال العظم.
لم يكن حبيب صادق مدعوًّا، لكنّه جاء في فجر اليوم الثالث، قبل أن يستيقظ أحد من المؤتمرين ومعه شاحنة من شباب بلدته الخيام الأشدّاء، وقفوا أمام الفندق كأنّهم يضربون حصارًا حوله.
كان ممدوح عدوان الذي تقدّم به السرطان، قد تعب مساء اليوم الثاني. علمتُ ذلك من إلهام التي وجدتها تنتظرني في بهو الفندق حين عدتُ متأخرًا من جولة صياعة في بيروت. سألتني عن زمرة دمي وطلبت أن أستيقظ باكرًا وأبقى على الريق من دون فطور لأنَّ ممدوح، كما أمر طبيبٌ راجعه، بحاجة إلى دم سيُنقَل إليه في المستشفى صباحًا.
يستغرب الطاهر لبيب "تنكيل بعض اليسار العربي بماضيهم" ويتساءل: "ممَّ يعتذرون؟ من واقعٍ لم يتحمّلهم؟"
ما إن هبطنا صباحًا إلى بهو الفندق، إلهام وممدوح وأنا، حتى وقعت عيني هناك على حبيب صادق الذي أعرفه من الصور. كان ممدوح قد هاتفه يسلّم عليه حين وصل بيروت بصحة معقولة. وحين اتصل به حبيب صادق في اليوم الثاني، ردّت إلهام وأخبرته بما أخبرتني. ومن دون أن يعدها بشيء، كان منذ الفجر في بهو الفندق ومعه ذلك الجيش من المتبرعين لممدوح. وسوف يدعونا مساءً، ثلاثتنا، إلى مطعم بحري لأحسّ في كلّ كلمة وكل التفاتة أنّ هذا أبي الذي لا حدّ لعطائه، وأمّي التي تتدفق رقّة وحنوًّا، وأنّه حزبي ورفيقي الذي لا يلين ولا يفقد البوصلة.
في الندوة التي نظمها "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية وعُقدت في القاعة الكبرى للأونيسكو، في عام 2009، لمناقشة كتاب كريم مروة "نهوض اليسار العربي"، وشارك فيها كثيرون (طارق متري، إريك رولو، فيصل دراج، الطاهر لبيب، أنور مغيث، حبيب صادق، مارسيل خليفة، صقر أبو فخر، بيار أبى صعب، كاظم حبيب، غسان الرفاعي وآخرون)، يعبّر طارق متري عن سعادته بدعوة "كريم مروة إلى فهم متجدد لواقعنا، العربي واللبناني، على نحو يتحرر من أسر الأيديولوجيا والأفكار المسبقة، ومن الإيديولوجيات على اختلافها".
لكنّ الطاهر لبيب يستغرب "تنكيل بعض اليسار العربي بماضيهم"، ويستغرب أكثر "اعتذارهم عن وعي سابق: وعيِ مرحلةٍ بنى بعضهم فيها البدائلَ وناضلوا واضطُهدوا وقُتلوا من أجلها". وتساءل الطاهر: "ممَّ يعتذرون؟ من واقعٍ لم يتحمّلهم؟ من جدليّةٍ زيّفها أنَّ اليمين كان أجهزةً لا فكر لها يجادله اليسار فيه؟" ليختم، قائلًا: "ما أنجزه اليسار العربي، في حدود العمر الذي افتكّه من قبضة الزمن العربي كان أرقى ما وصل إليه الفكر والفكر السياسي العربي في تاريخه الحديث والمعاصر".
أمّا حبيب صادق، وبعد تقريظ لما وجده حسنًا في كتاب كريم مروة، فيرى أنَّ المهمات التغييرية التي يطرحها مروة تنقله من شيوعي ثوري إلى إصلاحي، فهو "لا يتحرك إلاَّ في أحشاء بنية السائد مقيَّدًا بشرط احترام 'الشروط الواقعية'، على نحو ما جاء في النص تكرارًا. إذًا فأقصى ما يرمي إليه الإصلاح أن يُحدث ترميمًا أو تجميلًا في هيكل السائد". ويغدو طبيعيًا إذًا أن تختفي عند مروة "كلمة اشتراكية في أي مهمة من المهمات التي اقترحها على أهل اليسار"، وأن تختفي كذلك "الطبقة العاملة".
لعلّه لم يعد هناك كثيرون مثل حبيب صادق، لا بدَّ أن نعترف. بل إنّ أمثاله سوف يتلاشون إذا ما واصلت الشبيبة لا مبالاتها حيال السياسة والفكر والتطلّع إلى عالم أفضل. لم يعد هناك كثيرون مثل حبيب صادق، لا بدَّ أن نعترف. ولكن قبل أن يسارع أحد إلى اعتباره "دقّة قديمة" من الطبيعي أن تزول وتتلاشى، فليتساءل فحسب إن لم يكن أحد أسباب الواقع المزري الذي يجلله ويجللنا ويجلل أهلنا وبلداننا وعالمنا أنّه لم يعد هناك كثيرون مثل حبيب صادق.
أنا مع حبيب صادق، لا مع كريم مروة، فما بالك بطارق متري.