الاحتراق الوظيفيّ لصحافيي سوريا ولبنان

بحسب استبيان أجريناه عبر الإنترنت في شهر أيار/مايو 2023، بدا شعورُ الإحباط طاغيًا لدى عيّنة الصحافيين/ات التي تواصلنا معها في سوريا ولبنان تجاه عملهم الصحفي، يليه الشعور بعدم الجدوى.

في مقهى "ستاربكس" المطلّ على صخرة الروشة في بيروت، التقيت بمريم التي تصف مسمّاها الوظيفي الحالي بصحافية وباحثة "عليلة". في ذلك المكان الهادئ نسبيًا مقارنة بفروع "ستاربكس" الأخرى في المدينة، اصطفّت الحواسيب المحمولة  إلى جانب أكواب القهوة أمام الناس بشكل متناسق في مقابل البحر. سألتُ مريم عن سرّ غياب اللابتوب الذي كانت تعتبره "صديقها الصدوق"، فأجابت: "لقد اعتدت أن أحمله معي في كل مكان حتى أصبح في الفترة الأخيرة عبئًا غير مُحتمل ومصدر توتر وقلق". ولدى سؤالها عن علاقة ذلك بصفة "عليلة"، أجابت بأنها وصلت إلى مرحلة في عملها باتت غير قادرة فيها على الكتابة أو الإنتاج، وأضافت: "أمضيت شهرًا كاملًا أبكي أمام شاشة الحاسوب البيضاء قبل أن أعرف أن ما يحدث لي هو احتراق وظيفي، وأنه عليّ أن آخذ قسطًا من الراحة".

تصنّف "منظمة الصحة العالمية" الاحتراق الوظيفي كمتلازمة يسبّبها ضغط العمل الذي لم يتم التعامل معه بنجاح، وهي تتسم بثلاثة أبعاد: الشعور بالإرهاق أو استنزاف الطاقة، وازدياد المشاعر السلبية أو الشكوك المتعلقة بالعمل، وانخفاض الكفاءة المهنية. كما وصفته المنظمة بالظاهرة الوظيفية فضلًا عن كونها حالة طبية. وفي تعريفات أخرى، يُعدّ الاحتراق الوظيفي حالة من الإرهاق النفسي والجسدي من الممكن أن تحدث عند اختبار القلق لمدة طويلة في العمل أو عند العمل لمدة طويلة في موقع وظيفي مُستنزف للطاقة الجسدية والنفسية.

ساهم تعريف "منظمة الصحة العالمية" له في عام 2019 في تسهيل تشخيصه من قبل الموظفين والباحثين، فبرغم كونه ظاهرة منتشرة في مكان العمل، إلا أنه كثيرًا ما تم الخلط بينه وبين اضطرابات القلق والاكتئاب. كما ساعد هذا الأمر في تسهيل رصده خلال أزمة "كوفيد 19" حيث ارتفعت معدّلات الاحتراق الوظيفي بشكل ملحوظ بحسب دراسة أُجريت على 1500 عامل/ة في الولايات المتحدة عام 2021. ولا تزال المعدلات آخذة بالارتفاع، فبحسب استبيان أجري في شباط/فبراير من هذا العام (2022) شارك فيه 10,243 موظف/ة من حول العالم، أفاد 42% منهم أنهم يعانون من الاحتراق الوظيفي.

صحافيون مُحبطون

يواجه الصحافيون في المنطقة العربية مجموعة من التحديات التي تجعل ظروف عملهم أكثر صعوبة مقارنة بالصحافيين في بلدان أخرى. ففي لبنان وسوريا مثلًا، تُشكّل الأزمات الإنسانية والاقتصادية المتتالية عبئًا نفسيًا على الصحافيين/ات، بالإضافة إلى واقع العمل الصحفي المتردّي في سوريا على وجه الخصوص بسبب القيود المفروضة على حرية الصحافة وصعوبة الوصول إلى المعلومات، فضلًا عن التهديدات الأمنية المحيطة بالصحافيين/ات التي من الممكن أن تطال عائلاتهم أيضًا. تترافق هذه التحديات مع مجموعة من المشاعر السلبية التي يختبرها الصحافيون، فبحسب استبيان أجريناه عبر الإنترنت في شهر أيار/مايو 2023، بدا شعورُ الإحباط طاغيًا لدى عيّنة الصحافيين/ات التي تواصلنا معها في سوريا ولبنان تجاه عملهم الصحفي، يليه الشعور بعدم الجدوى.

يشرح لي علي الضغوط الإضافية التي يفرضها عليه عمله من المنزل، إلى جانب الضغوط الأساسية التي يحملها العمل الصحافي المستقل في سوريا، فيقول: "تتداخل مشكلاتي الشخصية والعائلية مع عملي بسبب وجودي في المنزل غالبية الوقت. أشعر بغياب الحافز أكثر من غيري بسبب عدم وجودي في بيئة عمل تضم زملاء أستطيع التعلم منهم ومشاركتهم المشكلات والأفكار، بالإضافة إلى خطورة العمل الصحافي المستقل في سوريا، التي تضعني في حالة قلق دائم وتقيّدني في اختيار المواضيع، فتُفقدني الشغف تجاه عملي بشكل عام والواجب الأخلاقي الذي وعدت نفسي بأن أؤديّه".

في الاستبيان المذكور، أشار غالبية المشاركين/ات إلى المشكلات المادية أو عدم التقدير المادي كسبب من أسباب مشاعر الإحباط وعدم الجدوى المرافقيَن للاحتراق الوظيفي، فقال أحد المشاركين إنه يشعر بأنه يعمل من دون مقابل، وقال آخر إنه يجد أنه يركّز في الغالب على الكمّيّة على حساب النوعيّة في إنتاجه الصحفي لكسب المزيد من المال، بينما ذكر غالبية المشاركين الذين يعملون كمستقلين تقاعس أو تأخر المؤسسات الصحفية في دفع البدل المادي لقاء عملهم. 

عمل أكثر مردود أقل

في الكثير من الأحيان، تكون المؤسسات الصحافية أو الجهة المشغّلة من المسببات الرئيسية للاحتراق الوظيفي من خلال اتباعها سياسات تكون في بعض الأحيان تعسّفية، كساعات العمل الطويلة أو العمل الإضافي من دون مقابل أو غياب ثقافة العمل التعاوني والدعم النفسي في المؤسسات. وأشارت الأرقام في دراسة أعدتها "منظمة الصحة العالمية" و"منظمة العمل الدولية" في أيار/مايو 2021، إلى أن نحو ثلاثة أرباع المليون من الناس يموتون سنويًا من أمراض القلب الإقفارية والسكتات القلبية الناتجة من العمل لساعات طويلة. 

وفي هذا الصدد، أجاب غالبية المشاركين في الاستبيان الموجّه إلى الصحافيين في سوريا ولبنان، والذي أْجري عبر "الإنترنت"، بأنهم يعملون "أحيانًا" لأوقات إضافية من دون تعويض مادي أو معنوي. أمّا مريم، التي شاركت أيضًا في الاستبيان، فقالت لي إنها من الذين أجابوا بـ"دائمًا" على هذا السؤال، وأكملت: "كنت أعمل لمدة 12 ساعة يوميًا وأحمل حاسوبي معي حتى إلى سهرات الأصدقاء المنزلية في عطل الأسبوع. كنت أعتقد أن هذا العمل لساعات طويلة من واجب الصحافية الجيدة، وعمد مديري إلى استغلالي عبر تأكيده هذا الاعتقاد، فتهرب من دفع مستحقاتي المالية عن العمل الإضافي".

ما الحل؟

"بناء على تجربتي وتجربة زملائي من بلدان عربية مختلفة، يمكن أن أقول إن ثقافة الصحة النفسية تغيب عن غالبية مؤسساتنا الصحفية في المنطقة. لذلك، لم أحاول سوى مرة واحدة أثناء عملي مع مؤسسة محلية أن أطلب المساعدة، وأتذكر أنهم استغربوا حينذاك أنني أفاتحهم بموضوع "شخصي" كهذا. للأسف، لا تزال هناك وصمة متعلقة بالصحة النفسية، حتى لو كان سببها مؤسسي وسياسي كالعمل"، يجيبني علي لدى سؤالي عن مدى تجاوب المؤسسات الصحفية مع احتراقه الوظيفي.

لم تكن تجربة علي الوحيدة السيئة في هذا الخصوص، فقد أجاب نصف المشاركين في الاستبيان تقريبًا أن مؤسساتهم لم تتجاوب معهم عندما طلبوا المساعدة منها، في حين أجاب النصف الآخر بنقيض ذلك. وتعددت سبل المساعدة المذكورة بين تخصيص معالج نفسي وإيجاد حلول للمشكلات التي يعاني منها الموظفون، كتقديم تسهيلات في طرق الدفع والمساعدة في عمليات التحرير والبحث.

في النهاية، ربما من الطبيعي أن تزداد معدلات الاحتراق الوظيفي في الزمن الحالي الذي يرتبط فيه شأن الإنسان بكميّة عمله، خصوصًا في ظلّ التحوّلات الرقميّة التي عدّلت هيكليّة سوق عمل الإعلام برمّته وقلّصت من عوائده الماديّة التقليديّة، علمًا بأن أضرار الاحتراق الوظيفي تزداد مع اضطرار صحافيين في كثير من الأحيان إلى التعامل مع قضايا حسّاسة وشائكة. لكن ما يبدو غير طبيعي هو تقاعس الكثير من المؤسسات الصحافية عن تلبية المتطلبات النفسية وغير النفسية للعاملين فيها، خصوصًا المقدور عليها، وبالتحديد في الحالات التي تلعب فيها المؤسسات دورًا في تردي صحة صحفييها النفسية.

ومن الجدير ذكره أن الاحتراق الوظيفي لا يمكن التخلص منه من دون علاج، بل من الممكن أن يزداد سوءًا في حال لم تُعالَج أسبابه، وقد يكون مؤذيًا للصحة الجسدية والنفسية في حال تم تجاهله، علمًا بأن له تأثير على نوعية العمل والقدرة على تلبية متطلباته، ومن الممكن أن يطال هذا الأثر نواحي الحياة المتعددة، كالعلاقات الاجتماعية والحياة العائلية.

 

* أُنجز هذا التحقيق بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية" UNDEF ومنظمة "صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

جفافُ بلاد الرافدين

وفقًا لتوقعات "مؤشر الإجهاد المائي"، فإن العراق سيكون أرضًا بلا أنهار بحلول العام 2040. أما عام 2025،..

سارة خازم
"كانوا مفكريني ملبوسة من جنّي": الاكتئاب عند اللاجئين السوريين

برغم دور خدمات الصحة النفسية في التخفيف من حدة أعراض الاكتئاب على المدى القصير، فإن المصابين به من..

سارة خازم
لعنة لا تنتهي…

وصلتُ إلى بيروت بعد سنتين من الانقطاع عنها. وجدتُ المدينة التي كانت معشوقتي الأولى أيام الزيارات..

سارة خازم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة