كيف تعيد لجرمانا وعيها الـ"مُعلَّقْ"؟!

حاولَت المهندسة المعمارية يارا سمير الحسواني تشريح تحوّلات مدينة جرمانا مع بقية فريق عمل عرض "مُعلَّق"، وسعت إلى جعل مفردات المدينة شخصيات تتحدث عن أوجاعها وأمنياتها.

فكرة جميلة أن نعطي مدينة مثل جرمانا وعيًا إنسانيًا لتكتب يومياتها، بحيث تنخرط في سؤال الهوية بماضيها وحاضرها ومستقبلها، وبطريقة غرائبية، تُسقِطَ وعيَها ذاك، لا على ساكنيها، وإنما على شوارعها وأبنتيها وأنهارها وحدائقها. هكذا، يتحوَّل إدراك المدينة لذاتها إلى ما يشبه مرافعة عن التحولات المديدة التي ألمَّت بها عبر تاريخها، وجعلت منها كتلًا إسمنتية عشوائية، بعدما كانت تجمُّعًا لبيوتٍ طينية محاطة بالبساتين وأشجار الزيتون والجوز، يقطعها نهر العقرباني أحد فروع بردى لتكون امتدادًا لغوطة دمشق الغنَّاء. لكن ما حصل أنه تمَّ سقف النهر بعدما جفَّت ماؤه، وقُطِعَ بالتالي الشريان الذي يغذّي المدينة.

هذا وغيره من جرائم مهندسي المدينة الجدد، أو لنقل مقاوليها، حوَّلت سينوغرافيا جرمانا كليًا، وبدَّلت سَماحَةَ وجهها وألبسته قناعًا من إسمنت، مُخَلْخِلَةً سكينتها وهواءها وطباعها، لاسيما بعدما باتت مقصدًا للسكن لقربها من مركز العاصمة ولنقاء هوائها. لكنّ هذا أدخلها شيئًا فشيئًا ضمن مناطق التنظيم السكني، وما تبع ذلك من الطابوهات الخضراء والزراعية والوكالات غير القابلة للعزل، والتي جرَّت المزيد من خزعبلات السّجلّات العقارية والمصالح الضيقة لبعض المنتفعين والسماسرة و"قوّادي" الإسكان. فأصبحت جرمانا في سنوات قليلة مجرّد كتل من الأبنية الكتيمة البشعة، غير القادرة على التنفس بشكل طبيعي مع انعدام الفراغات حولها، فيما زينتها الوحيدة هي خزانات المياة الحمراء على أسطحها، وبعض الصحون اللاقطة وألواح الطاقة الشمسية.

حاولَت المهندسة المعمارية يارا سمير الحسواني تشريح تحوّلات المدينة هذه مع بقية فريق عمل عرض "مُعلَّق" (suspended)، ومن مترادفات ترجمته "فاقد الوعي". لذلك سعت إلى خلق ذاك الوعي الذي تحدَّثنا عنه في البداية، جاعلة من مفردات المدينة شخصيات تتحدث عن أوجاعها وأمنياتها، وفق مشهديات تتجاوز موضوعة التوثيق البصري والعمراني.

لا تبدو المدينة بهذا السوء برغم كلّ شيء، إذ لا يمكن لكيان بهذه القسوة أن يحتضن أعشاش الطيور

وقد بدا العرض كمن يحمل روحًا درامية صارخة في مطالبها. فمرَّةً يحكي نهر العقرباني أوجاعه بعدما كان يتفرَّع إلى سبعة أفرع ضمن المدينة وبات الآن مدفونًا تحت الأبنية والشوارع، وتارةً شباك بيت مهجور يشكي وحدته وطول الغياب، وأخرى حمامة تمسح بانوراما المدينة بمَسْقَط عُلْويّ، ورابعة شجرة جوز عتيقة تتكلم عن ذاكرتها المُضناة بعدما أطعمت من خيراتها أجيالًا كثيرة على مدى ثمانين عامًا قبل أن تُبتَر. وثمّة خزّان مياه بلاستيكي اسمه "تنكر" يخبر عن شجنه وحنينه لأخيه الأكبر الخزان الإسمنتي، وهناك كذلك الشارع الرئيسي الذي يقسم المدينة إلى جزئيين، والسرفيس الأبيض الذي شاخ مع جرمانا، وغير ذلك الكثير.

وبين لغة السرد والمشهديات المسرحية، يصبح للمدينة أكثر من لسان يحكي حالها. وتتراكب القصص وتتشابك شخصياتها ومصائرها، صانعةً لوحة بازل غرائبية. في هذه البازل مرايا تُمكِّن المتابع للعرض من مشاهدة انعكاس صورته، ليصبح بطريقة ما ـــ ولو من دون إرادته ـــ جزءًا من المشهد العام، وشخصية مركزية في الحكاية. 

هكذا، سيرفض المتابع تلقائيًا ما تضمنته بعض الصُّور الملتقطة بذكاء في الشريط السينمائي الآسر، كتلك التي تُبيّن كتابة جدارية تقول "هويّتنا الحقيقية"، وتأتي كخلفية لحاوية قمامة قميئة، أو تلك التي تُصوِّر مُلصقًا مكتوب عليه "سوريا تستحق منا كل الجهد والعرق والعمل، ونحن لن نبخل عليها"، بينما بقية الملصق منزوع عن الجدار بطريقة تشي بالكثير من السخرية...

وبين الصور وانعكاساتها والمخططات الهندسية المُعلَّقة في الهواء، سيشعر المتابع بأن عليه أن يفعل ما فعلته النافذة عندما قالت: "سأصغي بانتباه إلى هذه المدينة، سأصدِّقها، سأتألّم معها، سأحاول أن أتذكر نفسي دومًا، سأحتفظ بذكرياتي عن الشجر والبساتين والحرب.. عن الطيور والبيوت والأعشاش الباردة. أنا النافذة المشلولة وسط جدارٍ ضخم، سأعبرُ كل الأصوات.. كي أتعلَّم كيف ترحل الأشياء من دون أقدام، وكيف تصبح الأماكن وحشًا طيبًا يحكي قصصًا عن مدينة اسمها جرمانا". وسيتأكد شيئًا فشيئًا أنه أمام "وجه جديد لمدينة قديمة.. أو في مواجهة مدينة جديدة لوجه قديم"، لكن أبرز ما يميُّزها أنها مدينة قاسية "بزواياها المظلمة الرطبة، والخشونة البيتونية الموحشة، والنوافذ المغلقة بجدران من البلوك الإسمنتي العاري أمامها، وكأنها أشبه بسجن منها بمسكن". 

مع ذلك، لا تبدو المدينة بهذا السوء في العديد من جوانبها. فهي تنتمي إلى عالم غريب. إذ لا يمكن لكيان بهذه القسوة أن يحتضن أعشاش الطيور، وأن يسند نباتًا معلقًا على خشونة جدرانه وحول نوافذه المغلقة. فجرمانا اختارت أن تحوّل جراحها إلى مواطن للحياة، وقسوتها إلى أمان لبعض الكائنات، وأن تكون مخزنًا لذكريات من عاش داخلها. 

يُذكر أن فريق عمل عرض "معلّق" الذي أشرفت عليه يارا الحسواني يتألف من: ميرما الورع (القصص المصورة)، وإياد أبو سمرة (الشخصيات)، ومريم الفوال (الفيديو)، وماهر بجور (الموسيقى)، وشام العلبي (الكولاج)، وعيسى قارصلي وعلي يازجي (المجسمات). وقد شارك في تكوين شخصيات النص كل من: عمر الهادي، وميرما الورع، ورزق حامد، ولين مهايني، وروز بريك، وضحى النوري. والعرض حائز على منحة من مؤسسة "المورد الثقافي"، وعُرض في غاليري "زوايا" بدمشق. أما الكتاب فطُبِع في "دار نينوى للنشر والتوزيع والدراسات".

"دنيا وأميرة حلب" لماريا ظريف: أسطرة رحلة اللجوء السورية

استطاع فيلم "دنيا وأميرة حلب" أن يؤسطر لنا رحلة اللجوء السورية، ويمنحنا الأمل الذي بثَّته دنيا في ختام..

بديع صنيج
فيلم الحكيم لباسل الخطيب: الوقوع في نَصّ الزّوجة

سيناريو فيلم "الحكيم" مبنيٌ بشكل شبه كامل على المصادفات، وخال من أحداثٍ تُطوِّرُ التوتر الدرامي والمعنى..

بديع صنيج
صوت إيلي شويري.. مسيح يحرس نوم المساكين

"عندما يقتنع بلحن ويعزفه مع إيقاعه، كان يسجله حتى لا ينساه. وأحيانًا، ترى فيضًا من النغمات في رأسه..

بديع صنيج

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة