لماذا يُخيفنا حزيران؟

لم أستطع الحصول على معدّلٍ جيد في امتحان البكالوريا. كانت تلك أولى نكبات حياتي التي لم أتجاوز آثارها حتى اليوم. لاحقًا، وجدت نفسي أختار امتحانات الشهادة الثانوية، لتكون موضوع بحثي لرسالة الدكتوراه.

في صباح السابع من حزيران/يونيو، أستقلّ باص النقل العام مجددًا إلى العمل. لا أستطيع تجاوز الضيق الذي ملأ صدري عند استيقاظي صباحًا. كنتُ قد حمّلت نسخة عن برنامج امتحان الثانوية العامة (البكالوريا)، واحتفظت بها لأتذكر مواعيد قطع الاتصالات والإنترنت. لكن يبدو أن الخطة تغيّرت هذا العام.

في الباص الذي يعبر شوارع مصياف، يقف السائق الصاخب أمام إشارة المرور عند تقاطع مدرسة حكومية للبنات. تقطع الطالبات الشارع أمامه بخطى صغيرة، وهنّ يشبكن أذرعهنّ ويتوخّين ترتيب ما أفلت من خصلات شعرهنّ الغض.

ينادي عليهن السائق بنزق، طالبًا منهن الاستعجال، ومعلّقًا على ذوقهن السيء في انتقاء الملابس. يذكّر بقيّة الركاب غير المبالين بأن التعليم في هذا البلد صار فاشلًا، وبأن "جيل هذه الأيام" قليل التهذيب، ولا فائدة منهُ ترجى. يقول إنّ امتحانات الأرض كلّها لن تقوّم ما اعوجّ، وإنّ على الفتيات الالتفات نحو تدبير عريس بدلًا من التسكّع بحجة تقديم امتحانات، لن تأتي سوى بوظيفة حكومية لا يشتري راتبها حتّى مكياجهنّ.

يتغيّر لون إشارة المرور، كما وجه السائق الحانق. يركل دعّاسة السرعة، ويطلق العنان لزمور الباص المتذبذب وهو يصرخ مجددًا على فتاتين بقيتا واقفتين على الرصيف دون عبور. ثم يشير إليهما بيده معلنًا انتصاره وخسارتهما.

يعبر الباص التقاطع، ويسير ببطء مجددًا وسط ازدحام المدينة الصباحي. أرى من نافذة الباص على الرصيف المحاذي لمقعدي فتاة شقراء بجديلتين قصيرتين، تمشي وهي تتمتم، محاولة استظهار آخر ما أمكنها قبل الدخول إلى المدرسة، فيما الوجل والتعب يفترشان عينيها، ويظهر ظلّان دائريّان تحت عينيها الهائمتين.

تمشي الفتاة بخطوات بطيئة، وتعدّ شيئًا بأطراف أصابعها. يبدو أنّها نسيت. تتوقف وتقلّب الكراسة الصغيرة مجددًا. تتمتم، ثم تعود للمشي والعدّ على أصابعها. تُغلق عينيها بشدّة بين الحين والآخر، وهي تتلفّت حولها وتتحقّق من الوقت في ساعة يدها الصغيرة.

نصل إلى طرف الشارع المحاذي لسور المدرسة معًا. أنا على مقعد الباص المتثاقل بسائقه المتململ، وهي مشيًا مع أفكارها الأخيرة. تعود أدراجها لتكمل جولة أخرى، فيما الباص الذي أركبه يفلت من الازدحام، مطلقًا العنان لزمور أخير طويل مُرهَق.

بعد ساعة من الآن، سأكون في قاعة بائسة ما في الكلية، أحاضر أمام طلاب السنة الرابعة عن أهمية استخدام مهارات التفكير العليا في تعلّم اللغة وتعليمها. بعد ساعة من الآن، ستكون هي في قاعة الامتحان، تحاول استذكار ما التقطته أصابع يديها.

هناك من سيتباهى بأن طلابنا نجحوا برغم الحرب والحصار، وهذا أكثر ما نجيده، أن نقارن: من منّا محطّم أكثر؟

حين كنت في الثانوية، لم أشأ أن أكون طبيبة. لا أستطيع تحديد ما أردتُ يومذاك لمستقبلي أن يكون عليه، ولكنّي أتذكر جيدًا أنّي لم أكن أرغب بدراسة الطب برغم تفوّقي. في امتحان البكالوريا، لم أستطع الحصول على معدّلٍ جيد. كانت تلك أولى نكبات حياتي التي لم أستطع تجاوز آثارها حتى اليوم.

في محاولتي الثانية، بعد عام، تكرّر الإخفاق. تراجع معدلي بمقدار عشر درجات، وفقدتُ الفرصة في التقدّم مجددًا، وإلى الأبد. أنقذتني درجتي التامة في اللغة الإنكليزية من مصير "اللاجامعة". لا أذكر أسباب فشلي، ولكنّي أذكر وجه أبي الذي لم يكلّمني لأكثر من شهرٍ بعد صدور النتائج.

أذكر شعوري بالخذلان، ورغبتي في الاختفاء في كلّ مرةٍ أرى زملائي الذين تمكنّوا من التسجيل في اختصاصات "أفضل من اختصاصي"، بحسب ما يقرّه مجتمعُنا لجهة تراتبيّة الكليات والأفرع الجامعية. وأذكر تمامًا إحساسي بالغثيان كلّما نظرتُ إلى درجاتي في شهادتي الثانوية.

ولسنواتٍ طوال بعد ذلك، وصولًا إلى اليوم بعد حصولي على شهادة الدكتوراه، وعبوري بنجاح مئات الامتحانات والاختبارات والمقابلات في بلدان مختلفة، ظلّت المرارة تتملّكني في كل مرة أتذكّر فيها وجه أبي بعد علمه بنتيجة امتحاناتي الثانوية.

أتذكّره اليوم يغلق سماعة الهاتف، ثم يمسك به ويضربه بالحائط فيتهشّم كما لو كان وجهي. ظلّت المرارة تحكمني طوال مسيرتي التعليميّة لاحقًا. ولم أدرك حقًا كم حفرت في أعماقي من جروح، إلى أن وجدت نفسي من غير وعي أختار امتحانات الشهادة الثانوية، لتكون موضوع بحثي لرسالة الدكتوراه.

أذكر جيدًا تعليق أحد الاختصاصيين الذي قابلته في مؤتمر علمي، حين علم بموضوعي. قال يومذاك إنّه معقّد، وسيستهلك مني جهدًا مضاعفًا. وحين بلغت مرحلة الدفاع النهائي، سألني أحد أعضاء اللجنة المتحمسين إن كنت أعتقد أن بلدي سيأخذ بنتائج البحث الذي قمت به بالاعتبار. نظرتُ إليه وفي داخلي رغبة عارمة للضحك، ثم قلت بجدّية: أتمنّى ذلك!

لم يُعر أحد اهتمامًا بعملٍ استغرق مني سبع سنوات. كما بالأمس، هناك اليوم آلافُ اليافعين الذين يتعيّن عليهم القيام باختبارات قد تحدّد طبيعة حياتهم. سيغرقُ كثير منهم في حزن لعدم نجاحهم، وسيتقدّم آخرون بثقة.

لن يفكّر أحد في موقع المسؤولية باجتراح بديلٍ عن امتحانٍ بالغ الخطورة وغير مجدٍ كهذا. لن يجرأ أحد على الخروج عن نظام امتحاني أثبت ضعف فاعليته على مدى سنوات من التجريب. ولن يكترث أحد لحجم الرضوض النفسية المرافقة لطلاب الامتحانات الثانوية العامة. بل هناك من سيتباهى بأن طلابنا استطاعوا النجاح برغم ظروف الحرب والحصار والفقر والعتمة والزلازل. وهذا أكثر ما نجيده. أن نقارن: من منّا يتألم أكثر؟ ومن منّا محطّم أكثر؟

قد تتمكنّ الفتاة صاحبة الجديلتين من أن تصبح طبيبة. وقد لا ترغب بذلك. وقد تجد، بعد سنوات، أن مرارة تملأ حلْقها وخوفًا يجتاح قلبها، أثناء اجتيازها طريقًا بجانب مدرسةٍ سوريّة في حزيران.

نكبة المنكوب: التعليم بعد الزلزال

ما هو "الفاقد التعليمي" حقًا؟ هل هو مجموعة الصفحات التي حذفناها من الكتب الدراسية أو الامتحانات التي..

أندريه كرم
"عَسكَرة" التعليم السوري: ما البديل؟

تحتاج سوريا ما بعد الحرب إلى جهودٍ هائلة من أجل إعادة بناء المؤسسات التعليمية المتضررة، لكن أبرز هذه..

أندريه كرم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة