نكبة المنكوب: التعليم بعد الزلزال

ما هو "الفاقد التعليمي" حقًا؟ هل هو مجموعة الصفحات التي حذفناها من الكتب الدراسية أو الامتحانات التي كانت مطلوبة للإنجاز؟ يبدو القائمون على العمل التربوي في سوريا غير مدركين ماهيّة هذا الفاقد، ويبدو أن كثرة الكوارث لم تُعن على تحديد ماهيّته.

لولا كارثة الزلزال، لكان السادس من شباط/فبراير يومًا "عاديًا" في حياة السوريين. وكلمة "عادي" هنا لا تحمل القيمة ذاتها خارج حدود هذا البلد المتعب. العادي بالنسبة للسوري يعني انتظارًا آخر لغلاء سلعة جديدة وفقدان غيرها، ولقرارت حكومية تعسفيّة، ولنصف ساعةٍ أقلّ من الكهرباء، أو لساعة أكثر من الانتظار على أبواب الدوائر الحكومية أو في مواقف النقل العام. فجر السادس من شباط/فبراير، غيّر "العادي السوري" هذا، إلى ما هو أسوأ منه.

مع توالي الأخبار يومذاك عن وقوع الزلزال، كان المنكوبون في اللاذقية وحلب وحماه وإدلب وطرطوس يبحثون في العراء عن ملاذٍ من عاصفة مطريّة شديدة. ومع تقدّم ساعات الصباح، بانت الكارثة التي ضربت المنطقتين الساحلية والشمالية من البلاد، تدريجيًا.

صباح اليوم نفسه كان موعدًا لامتحانات جامعيّة في سوريا، ويومًا مدرسيًا آخر. لم يذهب معظم الطلبة في المدن التي انهارت أو تصدّعت أبنية فيها إلى المدارس والجامعات. بل إن بعضهم كان لا يزال راقدًا تحت الركام. أعلنت جامعات تشرين (اللاذقية) وطرطوس وحلب والبعث (حمص) وحماه تأجيل امتحانات ذاك اليوم إلى موعد لاحق، لكنّ أحدًا لم يعلم ما إذا كانت الامتحانات في اليوم التالي باقية على موعدها. وحدها جامعة دمشق أصدرت بيانًا أكّدت فيه سلامة البنى التحتية والمنشآت العمرانية للجامعة، بعدما كشفت عليها ورشاتٌ هندسيةٌ متخصصة في غضون أقلّ من خمس ساعات على وقوع الكارثة.

استمرّت الامتحانات في جامعة دمشق كأن شيئًا لم يكن، فيما طلبت وزارة التربية من مديرياتها في المحافظات تقييم الأضرار محليًا واتخاذ ما يلزم، سواء لجهة إيقاف الدوام أو استمراره. في السابع من شباط/فبراير، أُجلت امتحانات اليوم التالي في الجامعات مجددًا، وأعلنت وزارة التربية أن لا إقفال للمدارس في البلاد.

وفي الأسبوع التالي، أعلنت الحكومة محافظات حلب وإدلب واللاذقية وحماة مناطق منكوبة. فتمّ إيقاف الدوام في جميع المؤسسات التعليمية التابعة لوزارتي التعليم العالي والتربية، وأُجلت الامتحانات الجامعية والامتحانات الطبيّة لمواعيد لم تُحدد.

طمأنت الجامعات والمدارس كوادرها وطلبتها بأن الأبنية فيها ستخضع لتقييم عوامل الخطر، وبأنها ستُدعّم إن لزم الأمر. وغيّرت بعض الجامعات مقرات كوادرها وامتحاناتها المرتقبة لإفساح المجال لعمليات التقصي والترميم، لكنّ التأجيل تتابع بشكل أسبوعي من دون صياغة خطة لما قد يحصل لاحقًا.

لم تكن استجابة المؤسسة التعليمية السورية مختلفة عن أي مؤسسة حكومية أخرى لجهة افتقارها للمسؤولية

في خضم ذلك كله، بدت وزارتا التعليم العالي والتربية شديدتي الاهتمام بما أسمتاه "تعويض الفاقد التعليمي"، مع تأكيد حرصهما على سلامة الطلبة في الوقت ذاته. لم يهتم معظم المفجوعين بالضحايا أو بانهيار منازلهم كثيرًا بهذه التطمينات، فحجم "الفاقد التعليمي" كان آخر همومهم في ذلك الوقت. ومع توارد الأخبار وانتشار الإشاعات عن احتمال وقوع زلازل مدمّرة أخرى، بدا الجميع مأخوذًا بهول الحدث، غير مهتم حقًا بما قد تلجأ أي من الوزارات المعنية إلى اتخاذه من قرارات.

برغم ذلك، بقي الجدل قائمًا على منصات التواصل الاجتماعي حول تأجيل امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية، لما تحملانه من خصوصية في السياق التعليمي السوري. رضخت وزارة التربية بعد ثلاثة أسابيع من الكارثة، وتم تأجيل الامتحانات مع التأكيد مجددًا على حرصها على "تعويض الفاقد".

مركزيّة أم لا مركزيّة؟

عبر السوريون اليوم نحو شهر آخر بعد الكارثة. وفيما يحاول كثير منهم بناء حياة جديدة أو التأقلم مع "العاديّ السوري" الجديد الذي أضيفت الهزات الارتدادية المتواترة إليه، يتصاعد الجدل مجددًا حول ما يمكن فعله لتفادي الفوضى التي حكمت الأسابيع اللاحقة للزلزال.

قد يكون من السابق لأوانه تقييم أداء المؤسسات التعليمية ومقارنتها بما فعلته مثيلاتها في تركيا، حيث مركز الزلزال ودماره الأعنف. غير أننا قادرون على القول، بكل ثقة، إن قرارات وزارتي التربية والتعليم العالي كانت شديدة التخبّط. ولم تكن استجابة المؤسسة التعليمية السورية مختلفة عن أي مؤسسة أو منظومة حكومية أخرى لجهة افتقارها للمسؤولية. أعطت الوزارتان للجامعات ومديريات التربية صلاحية تقييم الأوضاع بشكل مستمر، وتقديم تقارير متواصلة، لكنها لم تترك لهذه المؤسسات الطرفيّة الحريّة في اتخاذ القرارت المناسبة منفردة.

وبرغم اختلاف مستويات الضرر في الجامعات والمدارس تبعًا لقرب المنطقة من مركز الزلزال، ظلّت قرارات الوزارتين موحّدة في ما يخص المناطق الشمالية والساحلية وجزءًا من المناطق الوسطى. أما بقيّة الجامعات في المنطقة الجنوبية والشرقية، فاستمرت بالعمل بعد أسبوعين وكأن شيئًا لم يكن. 

هل نمتلك "خطة ب" في حال وقوع مصائب؟ بل لعلّ السؤال الأهم هو: هل لدينا "خطة أ" أصلًا؟

لم ترقَ تطمينات الوزارتين وتصريحات المسؤولين فيهما أيضًا لهول ما خلّفه الزلزال من عطب نفسي ألمّ بالطلبة والكوادر على حدّ سواء. أما برامج التأهيل التي اعتمدتها وزارة التربية في بعض المدارس التي تحولت إلى مراكز تجمع للأهالي وأبنائهم الهائمين على وجوههم، فقد بدت هزيلة ومنفصلة عن الواقع. كما لم تُفلح محاولات اتحادات الطلبة تأطير العمل الإنساني ودفع الطلبة للمشاركة في العمل الإغاثي، ولا في رفع معنويات آلاف الطلبة الآخرين العالقين في بيوتهم أو خارجها قُبيل الامتحانات.

بالنسبة لمسؤولي الوزاتين، بدت الكارثة حدثًا عابرًا يشبه نقص المشتقات النفطية الذي وقع قبل ذلك بأقلّ من شهر، واضطُرت الحكومة إلى إعلان عطلة طويلة وتعديل التقويم الجامعي، كمن يكنس غبار منزله تحت سجادة الصالون، وكأن أسبوعًا أو اثنين أو ثلاثة كافية لينسى آلاف الطلبة والمدرّسين ما حدث. غير أن أحدًا منهم لم ينسَ.

ومع عدم منح المناطق المنكوبة صلاحيات اتخاذ قرارات مستقلّة تتوافق مع الضرر الحاصل فيها، ظلّ التأجيل سيد القرارات. وبان التخبط مع إعلان مديرية تربية حماة عن يوم إضافي في الأسبوع لتعويض ما فات، قبل أن تعلن وزارة التربية إلغاء القرار بعد ساعات من صدوره. 

هل علمتنا الأزمات كيف نضع خطة طوارئ؟

هل علمتنا مآسي الماضي كيفيّة التحضّر للتعامل مع المآسي بشجاعة واتزان؟ هل نمتلك "خطة ب" في حال وقوع مصائب؟ بل لعلّ السؤال الأهم هو: هل لدينا "خطة أ" أصلًا؟

لا تبدو الإجابات على هذه الأسئلة واعدة بعد مرور أكثر من شهر على أقرب دروسنا الصعبة. ولا تبدو جيّدة مطلقًا بعد مرور حوالي عامين على جائحة "كورونا" وأعوام أكثر على بداية الأزمة الممتدة. في تركيا، حيث الجيران الأكثر تضررًا، أعلنت الحكومة إيقاف المدارس والجامعات بشكل كلّي في المدن المنكوبة واعتماد التعليم عن بعد خلال العام الدراسي الحالي، حتى اتضاح ما يمكن القيام به. في سوريا، أعلن وزير التربية أن الوزارة بصدد دراسة توزيع أجهزة لوحية (تابلت) على الطلاب في المدارس المتضررة، فيما حافظت وزارة التعليم العالي على صمتها، وظلّت تؤجّل امتحانات آلاف الطلبة في المدن المنكوبة.

لا يبدو طرح آليات التعليم عن بعد مناسبًا في السياق التعليمي السوري، نتيجة افتقار المؤسسات على نحو شبه كلي لبنية تحتيّة مؤهلة، وكوادر مدربة، وعقلية قادرة على استيعاب التغيير والتعاطي معه بمسؤولية واحترافية. لسنواتٍ طويلة، لم تستطع الكثير من الجامعات السورية، ومنها المنكوبة حاليًا، التقدم ولو خطوات بسيطة في إنشاء مواقع الكترونية تليق بها. فكيف لها أن تقدّم شبكة بتعقيد كافٍ قادرٍ على استيعاب آلاف الطلبة والمدرسين في بيئة التعليم الإلكتروني؟

لم نفلح في مؤسساتنا التعليمية في تعليم طلابنا أهمية إعمال العقل بدل الانجراف مع الجموع

تبدو المدارس - سواء الخاصة منها أو الحكومية - أكثر تأخرًا بكثير عن الجامعات، لجهة القدرة على التحول نحو التعليم عن بعد، ما يجعل طرح وزير التربية مثار سخط كثيرين، خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية المزرية التي يعاني منها غالبية السوريين في الداخل.

إن أكثر ما يثير التساؤل عند مقاربة التجربة التعليمية السورية واستجابتها للكوارث المتلاحقة، هو غياب، أو تغييب، الكوادر العلمية المختصة في الجامعات والمدارس. ألم يكن ممكنًا تأطير هذه الكوادر وتنظيمها للمساهمة في تقييم الأضرار الحاصلة وتخفيف العبء النفسي وتقديم مقترحات لحلول مناسبة؟ غابت هذه الكوادر بشكل طوعي أو إجباري ضمن جموع المواطنين التائهين بين هزات ارتدادية متلاحقة وتصريحات حكومية عالية السقف في طموحاتها. وبقي الجدل الأكثر انتشارًا، خلال الأسبوعين الثالث والرابع بعد الكارثة، مرتبطًا بـ"الفاقد التعليمي" وتعويضه.

من حق الكوادر التعليمية والتربوية ومسؤولي الوزارتين، طبعًا، الحرص على استمرار العملية التعليمية واستدراك ما فات منها، خصوصًا أن هذه ليست المرة الأولى التي يشهد فيها الطلبة المولودون بعد بداية الألفية انقطاعات كهذه. لقد خلّفت الحرب الطويلة أشهرًا بل سنوات من الانقطاع، بسبب الظروف الأمنية والأوضاع الاقتصادية التي ترافقت عامي 2020 و2021 مع جائحة "كوفيد"، فأُبعد كثير من الطلبة عن مراكز تعليمهم بشكل مؤقت، فيما أقصي البعض الآخر عنها بشكل دائم.

غير أن زلزال السادس من شباط/فبراير يضعنا أمام سؤال كان غائبًا، بل مغيّبًا، طوال سنوات: ما هو الفاقد التعليمي حقًا؟ هل هو مجموعة الصفحات والوحدات التي حذفناها من الكتب الدراسية؟ أم الأسابيع الفارغة في تقويمنا الدراسي السنوي؟ أم عدد الامتحانات، والامتحانات الإضافية، التي كانت مطلوبة للإنجاز؟ 

يبدو القائمون على العمل التربوي والتعليمي في سوريا غير مدركين ماهية هذا الفاقد، ويبدو أن كثرة الكوارث لم تُعن على تحديد ماهيّته. لا أحد يريد الاعتراف بأن ما فقدناه حقًا خلال سنوات من إهمال المؤسسات التعليمية السورية وتقويضها هو الثقة، ثقتنا بمدارسنا وجامعاتنا ومن يقوم عليها. فالكثير من الطلبة رفضوا العودة إلى مدارسهم وجامعاتهم برغم التطمينات لجهة سلامة الأبنية وانحسار خطر الهزات الارتدادية. لم نفلح في مؤسساتنا التعليمية، على ما يبدو، في تعليم طلابنا أهمية التفكير المنطقي وإعمال العقل بدل الانجراف مع الجموع.

النتيجة كانت آلاف العقول التي تبنّت "نظريات فرانك الهولندي" دون تدقيق أو بحث، كانا ليوصلاننا إى نتيجة بديهية مفادها أن العلم عاجز حتى اليوم عن التنبؤ بالزلازل، وأن فرانك هوغربيتس الذي سمى نفسه "عالمًا" ليس سوى منجّم يتبنّى العلم الزائف. ومع افتقادنا هذا أيضًا، خسرنا القدرة على المبادرة والتأقلم والتصرف الواعي والمناسب، وكذلك على التحرر من عقلية الضحية التي تنتظر سلّة المساعدات، على حساب عقلية النهوض من تحت الركام.

لماذا يُخيفنا حزيران؟

لم أستطع الحصول على معدّلٍ جيد في امتحان البكالوريا. كانت تلك أولى نكبات حياتي التي لم أتجاوز آثارها حتى..

أندريه كرم
"عَسكَرة" التعليم السوري: ما البديل؟

تحتاج سوريا ما بعد الحرب إلى جهودٍ هائلة من أجل إعادة بناء المؤسسات التعليمية المتضررة، لكن أبرز هذه..

أندريه كرم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة