عن نازحي المناخ في منطقتنا

الكثير من دول العالم العربي يعاني من هشاشةٍ في البنى التحتية، وضعفٍ في إدارة الموارد وفي سياساتِ الحماية الاجتماعية، فضلًا عن غيابِ استراتيجيات مكافحة تغيّر المناخ والتكيّف معه. كلّ هذه العوامل تحول دون تمكّنها من التعامل مع النزوح لأسباب بيئيّة، الذي بات واقعًا وخطًرا حقيقيًا.

في منطقتنا التي تعصف بها الأزمات السياسية والاقتصادية، يرتبط النزوح، في الذاكرة الجمعية، أولًا وقبل كل شيء، بالبحث عن الأمن أو لقمة العيش.

نفكّر بالحرب أولًا كمسبب أساسي للتهجير القسري، وبالفقر ونقص فرص العمل كمحرّك للهجرة. نستغرب لسماع أن بلدانًا يتركها مواطنوها بحثًا عن مناخ أكثر اعتدالًا أو أرض أوفر ماءً، ونتخيّل أن هذه الأمور لا تحصل هنا. لكنّ حصة المنطقة من الأزمات لا تشفع لها أو تقيها من آثار التهديدات البيئية، ويبدو أن هناك فعلًا من يختار أن يرحل، أو يُجبَر على الرحيل، لأنّ الطقس ما عاد حاضنًا للقمة عيش وافرة.

لقد أصبح لتغيّر المناخ حصةٌ في الإحصاءات المتعلّقة بالنزوح. فمن أصل 71.1 مليون شخص نزحوا داخل بلدانهم في جميع أنحاء العالم حتى نهاية العام الماضي، تسبّبت الكوارث الطبيعيّة الناجمة عن تغيّر المناخ في نزوح نحو 6.2 في المئة منهم (8.7 ملايين شخص)، وذلك بحسب تقرير لـ"مركز رصد النزوح الداخلي" في عام 2023.

ويُقصد بالكوارث الطبيعية هنا ما طاب لك أن تتخيل، من زلازل وبراكين وانهيارات أرضية وعواصف وفيضانات وحرائق غابات وجفاف وارتفاع شديد في درجات الحرارة. وقد سجّل العام 2022، بحسب التقرير نفسه، أعلى نسبة في المتوسط السنوي لحالات النزوح بسبب الكوارث الطبيعية خلال السنوات العشر الماضية.

وفي حين تزداد أعداد النازحين بسبب تغير المناخ، لا يوجد حتى الآن، بحسب وكالة الأمم المتحدة للهجرة، تعريف قانوني للأشخاص النازحين لأسباب بيئية، ولا يوجد تعريف متّفق عليه دوليًا. لكنّ وكالة الأمم المتحدة للهجرة قدّمت في عام 2007 تعريفًا عمليًا واسعًا للهجرة البيئية، يسعى إلى الوقوف على مدى تعقّد هذه المسألة. فعرّفت المهاجرين لأسباب بيئية بأنهم "أشخاص أو مجموعات من الأشخاص يضطرون، لأسباب تتعلق في الغالب بتغييرات مفاجئة أو تدريجية في البيئة تؤثر سلبًا على حياتهم أو ظروفهم المعيشية، إلى ترك محال إقامتهم المعتادة، أو يختارون تركها، إما مؤقتًا أو دائمًا، ويتنقلون إما داخل بلدهم أو خارجه".

ووفقًا لتقرير صدر عن المفوضية الأوروبية عام 2022، فإنّ النزوح القسري والهجرة المرتبطين بتغير المناخ ناجمان عن الكوارث المفاجئة مثل الزلازل والأعاصير والفيضانات والانهيارات الأرضية والعواصف وحرائق الغابات، أو الكوارث البطيئة الحدوث مثل التصحر، والجفاف، والتغير في أنماط المتساقطات. وعادة ما يتسبب النوع الأول في حدوث نزوح جماعي مفاجئ، في حين يُسهم النوع الثاني في تردي الظروف المعيشية، وبالتالي إجبار المتضررين إلى الانتقال من مناطق سكنهم.

الهجرة البيئيّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هل تقتصر التوقعات الكارثية المتصلة بآثار تغيّر المناخ على احتمال غرق مدن مثل البندقية في إيطاليا أو جاكرتا في أندونيسيا نتيجة لارتفاع منسوب المياه؟ وهل الدول الجُزرية النائية في أقاصي المحيط الهادئ، على سبيل المثال، هي وحدها المهددة بتداعيات الاحترار؟

الجواب ببساطة كلا. فالعالم العربي متضرر أيضًا. إذ تسببت الكوارث الطبيعية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العام 2022 بـ 305 آلاف حالة نزوح قسري بحسب تقرير "مركز رصد النزوح الداخلي".

وقد ارتفع معدّل حدوث المخاطر المناخية في هاتين المنطقتين بوتيرة أسرع من أي مكان آخر في العالم، وتأثّر نتيجة لذلك سكّان المنطقة العربيّة.

فعلى سبيل المثال، أجبرت الفيضانات 209 آلاف شخص على النزوح في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2022، وفقًا لتقرير المركز، 81 في المئة منهم في اليمن وحده، الذي نزح فيه 170 ألف شخص بسبب الفيضانات المفاجئة التي بدأت في منتصف تموز/ يوليو واجتاحت محافظات عدة في البلاد.

وفي العراق الذي يواجه أزمة جفاف حادة، سُجّلت 51 ألف حركة نزوح في العام 2022، وهو ما يمثّل نحو سدس حالات النزوح الناجمة عن الكوارث الطبيعية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ككل، بحسب تقرير المركز أيضًا. وكان رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني قد أعلن، قبل أشهر، أن مئات الآلاف ممن ضرب الجفاف مناطق سكنهم، نزحوا لفقدانهم سبل عيشهم التي تعتمد على الزراعة والصيد.

ولا يختلف الأمر كثيرًا في سوريا، إذ أدى انخفاض هطول الأمطار وعدم انتظامها خلال فصل الشتاء عامي 2020 ـــ 2021 وارتفاع درجات الحرارة إلى أعلى من المتوسط إلى حالات جفاف في شمال وشمال شرق سوريا على وجه خاص، إلى جانب خسائر كبيرة في المحاصيل والإنتاج الحيواني. كما شهدت سوريا انخفاضًا غير مسبوق في منسوب المياه في نهر الفرات، وفقًا لتقرير صدر في العام 2022 عن الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر. كل هذه الظروف دفعت بنحو 104 ألف شخص إلى النزوح من مناطقهم إلى مناطق أخرى في الأعوام 2020 و2021.

ويقول مدير برنامج "التغير المناخي والبيئة" في "معهد عصام فارس" في الجامعة الأميركية في بيروت، د. نديم فرج الله، إن أكثر مظاهر تغيّر المناخ شيوعًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي ارتفاع درجة الحرارة وانخفاض نسبة المتساقطات، ويضيف أن "هاتين الظاهرتين تسببان انخفاضًا في الإنتاجية الزراعية، ما يؤثر سلبًا على سبل عيش السكان". 

ويشرح فرج الله لـ "أوان" أنه "غالبًا ما تؤدي هذه المظاهر إلى تدهور الأراضي (كتآكل التربة، وفقدان المواد الغذائية) وخسائر في الإنتاجية الزراعية"، وهو ما يدفع الكثيرين إلى ترك أراضيهم للبحث عن عمل أو أراضٍ أكثر إنتاجية.

ويرى فرج الله أن العامل المحرّك للهجرة هو، في نهاية المطاف، فقدان المياه الصالحة للشرب، ويشرح أن "شح الماء يترك الناس أمام خيارين: إما عدم توافر المياه أو المياه الملوثة، لذلك يكون خيارهم هو الانتقال". ويضيف أن العواصف الترابية هي ظاهرة أخرى بدأت تُلاحَظ في الآونة الأخيرة، ففي الخريف الماضي، أُغلقت مناطق واسعة من دول الخليج والعراق لأيام عدّة من جراء هذه العواصف.

أعداد النازحين بفعل تغيّر المناخ إلى ارتفاع

لا تبشّر التوقعات بانحسار أعداد النازحين داخليًا بفعل تغيّر المناخ في المستقبل القريب. فمن المتوقع أن يصل عدد هؤلاء إلى 216 مليونًا في ست مناطق حول العالم (جنوب آسيا، وأميركا اللاتينية، وإفريقيا جنوب الصحراء، وشرق آسيا والمحيط الهادئ، وشمال أفريقيا، وأوروبا الشرقية). ويمثّل ذلك ما يقرب من 3 في المئة من إجمالي عدد السكان المتوقعين في هذه المناطق، وفقًا لتقرير للبنك الدولي عام 2021. ومن المتوقع أن تتسارع وتيرة النزوح الداخلي بسبب تغيّر المناخ حتى العام 2050.

وفي العقود المقبلة أيضًا، من المتوقع أن تزداد وتيرة الفيضانات و/أو شدتها، والعواصف الشديدة، وحالات الجفاف في العديد من المناطق، ما سيؤدي، في ظل سيناريوهات الانبعاثات العالية، إلى زيادة مخاطر النزوح في المستقبل، وذلك بحسب تقرير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ صدر في العام 2022.

كذلك، وفي إطار سيناريو السياسات الدولية الحالي، من المتوقع أن يزيد احتمال الهجرة الناجمة عن الجفاف على وجه الخصوص بنسبة 200 في المئة على الأقل حتى نهاية القرن.

في المقابل، سيزداد إجمالي عدد المهاجرين بنسبة 500 في المائة في حال لم يحقق التعاون الدولي الحالي أهدافه، وفي حال سادت السياسات العامة التي لا تفرض قيودًا على انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، بحسب دراسة نشرت في مجلة "International Migration Review" في العام 2023.

واقع العالم العربي

سيلقي كلّ ذلك بثقله على النازحين وعلى المجتمعات المضيفة على حد سواء، إذ ستعاني الأخيرة، وفقًا لفرج الله، من زيادة الطلب على الموارد الطبيعية النادرة كالمياه والأراضي (بهدف الغذاء) تحديدًا. وستؤدي هذه المنافسة على هذه الموارد المحدودة والمتناقصة إلى نتيجة من اثنتين: إما مزيد من الهجرة أو نزاع بين الجماعتين". ويشرح فرج الله أن هذا النزاع "قد يتخذ شكل مواجهات عنيفة أو سياسية، وكلاهما سيكون ضارًا لاقتصاد البلد الذي يحدث فيه ذلك".

وفي منطقتنا تحديدًا، يرى فرج الله أن أكثر البلدان ضعفًا هي تلك الواقعة على حافة البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب اليمن والعراق والأردن. ويشير إلى أن "دول مجلس التعاون الخليجي لن تشهد مثل هذه الظواهر لأن مواردها المائية شحيحة أصلًا وحدودها محمية في الغالب بالصحارى".

الكثير من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعاني من هشاشة في البنى التحتية، وضعف في إدارة الموارد الطبيعية، وغياب استراتيجيات مكافحة تغير المناخ والتكيف معه، وكذلك الفقر وغياب استراتيجيات التنمية المستدامة وضعف سياسات الحماية الاجتماعية. كلّ هذه العوامل تحول دون تمكن بلدان المنطقة من الصمود في وجه آثار تغير المناخ، بما فيها النزوح الذي بات واقعًا وخطًرا حقيقيًا.

وفي هذا السياق، يشير فرج الله إلى وجوب "تعميم منظور العمل المناخي في خطط التنمية الوطنية في جميع القطاعات، وإدراج تمويل هذه التدابير في الميزانيات الوطنية لتمكين البلدان من فطام نفسها عن المانحين الدوليين وبعض الأجندات السياسية المرتبطة بها".

يبقى السؤال: هل لدى بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بما في ذلك البلدان العربية، في ظل الحروب والنزاعات والمشكلات الاقتصادية، القدرة والنية على اتخاذ هذه التدابير قبل أن تتفاقم الأزمة إلى حد لا يمكن العودة عنه؟

لبنان على حافة الإجهاد المائي

أزمة المياه في لبنان لا يُمكن أن تُعزى إلى التغيّر المناخي وحده، لكنّ هذه الظاهرة فاقمت حتمًا حالة قطاع..

غيدا البردان
طعامُك المهدور يتسبّب بارتفاع حرارة الأرض

كل عام، يتم فقدانُ أو هدر ثلث إجمالي الأغذية المنتجة عالميًا. وهذه الكمية تكفي لإطعام 1.26 مليار جائع...

غيدا البردان
مشروع Nimbus: تكنولوجيا Google وAmazon في خدمة الاحتلال

قوبل مشروع Nimbus، منذ الإعلان عنه، بتخوف من جانب موظفي Google وAmazon المتعاقدتين مع إسرائيل بسبب..

غيدا البردان

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة