لبنان على حافة الإجهاد المائي

أزمة المياه في لبنان لا يُمكن أن تُعزى إلى التغيّر المناخي وحده، لكنّ هذه الظاهرة فاقمت حتمًا حالة قطاع ذي بنية تحتية وإدارة مُتداعيَتين. ما هي أبرز مؤشرات هذه الأزمة؟

أنهار وغطاء ثلجي، وأربعة فصول ومناخ متوسطي، وعيون وينابيع، وآبار وطواحين. لطالما احتُفي بوفرة هذه الموارد المائية في لبنان في الثقافة الشعبية. لكنّ واقع المياه في لبنان بعيد تمامًا اليوم عن هذه الصور الخضراء. والموارد المائية، وإن كانت موجودة بالفعل، لا تعني بالضرورة أمنًا مائيًا. فتغيّر المناخ، وعوامل متقاطعة أخرى، تنبئ بأزمة مياه حقيقية في المستقبل.

تتأثر البلدان بظاهرة تغيّر المناخ بنسب متفاوتة، إلا أن منطقة البحر المتوسط هي الأكثر تأثرًا بها من ناحية الاحترار: فبحسب موقع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، تشهدُ درجات الحرارة في هذه المنطقة زيادة أسرع بنسبة 20 في المئة من المتوسط العالمي. ويؤدي ذلك، بطبيعة الحال، إلى نقص في المياه. فارتفاع الحرارة يؤثر على المتساقطات، وبالتالي على التغذية الطبيعية للمياه الجوفية. 

وتشير البيانات المتاحة على موقع برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن كلّ ارتفاع بنسبة درجتين مئويتين في منطقة البحر المتوسط يؤدي إلى تقليل المتساقطات بنسبة 10 إلى 15 في المئة. وكنتيجة بديهية لذلك، قد يؤدي تراجع نسبة المتساقطات إلى ضغط أكبر على موارد المياه، وبالتالي إلى الإجهاد المائي.

تراجع نسبة المتساقطات في لبنان

يلقي تغيّر المناخ بثقله على الموارد المائية في لبنان بوضوح. فوفقًا لدراسة نُشرت عام 2022 على موقع "Springer" المختص في الدراسات والمنشورات العلمية، شهد لبنان، في الفترة الممتدة بين الأعوام 1930 و2019، تراجعًا في المتوسط الشهري للمتساقطات تراوح بين 6 في المئة و12 في المئة، وارتفاعًا في متوسط درجات الحرارة بين 1 و3 درجات. وأكدت الدراسة أن لبنان يعاني اليوم من نقص في الموارد المائية حدّ الاقتراب من الجفاف الهيدرولوجي.

وذكرت وزارة البيئة اللبنانية في  البلاغ الوطني الرابع للبنان بشأن تغيّر المناخ للعام 2022 ــ المُقدَّم إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ ــ أن الفترة الممتدة بين عامي 1950 و2020 سجّلت زيادة في المتوسط السنوي لدرجات الحرارة قدرها 1.6 درجة مئوية، وأن الاتجاه التصاعدي لهذه الدرجات كان أكثر حدة في الفترة 1991-2020. 

ووفقًا للمصدر نفسه، أظهرت نسبة المتساقطات في الفترة نفسها اتجاهًا تنازليًا قدره 0.53 ملم لكل عقد، وإن كانت أقل بروزًا بين عامي 1990 و2020 (0.35 لكل عقد).  كما ذكر تقرير للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية صدر عام 2022 أن لبنان شهد في العقدين الماضيين ثلاث حالات جفاف كبيرة في الأعوام 2001 و2008 و2014، كان آخرها الأشد جفافًا. 

وتوثّق أرقام البنك الدولي لعام 2021 الارتفاع الملحوظ في المتوسط السنوي لدرجات الحرارة المرصودة في لبنان بدءًا من العام 1901 وصولًا إلى العام 2021. فقد ارتفع المتوسط السنوي لدرجات الحرارة على مدى الأعوام هذه ما يزيد على درجتين مئويتين، وسجل في العام 2021 ما نسبته 16.23 درجة مئوية، في حين كان يبلغ 14.22 درجة مئوية في بداية القرن العشرين. ويقابل هذا الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة في لبنان انخفاضٌ في معدل المتساقطات في أشهر الشتاء (كانون الثاني، وكانون أول، وشباط) منذ العام 1901 و2020، بحسب المصدر نفسه أيضًا.

الإجهاد المائي حقيقة واقعة 

تُنذر البيانات المتعلقة بارتفاع درجات الحرارة وتراجع المتساقطات بأزمة مياه تضاف إلى لائحة الأزمات في لبنان. والإجهاد المائي، الذي يُشار إليه أحيانًا بكثافة سحب المياه، وفق ما يرد في مؤشرات الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، هو ما يحدث عندما يتجاوز الطلب على المياه الكميةَ المتاحة خلال فترة معينة، أو عندما تؤدي  نوعية المياه إلى تقييد استخداماتها (راجع مسرد مصطلحات الوكالة الأوروبية للبيئة). 

وقد بلغت نسبة الإجهاد المائي في لبنان في العام 2018 ما قدره 58.79 في المئة، بحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة نُشر عام 2021. ومنذ العام 1975، يشهد لبنان اتجاهًا تصاعديًا في مستوى الإجهاد المائي، وفقًا للبيانات المتاحة على موقع البنك الدولي للعام 2023. 

هناك 44 بلدًا من أصل 157 معرضٌ للخطر الشديد من حيث الإجهاد المائي بحسب تقرير نشره عام  2020 "معهد الاقتصاد والسلام"، وهو مركز أبحاث عالمي مقره في سيدني، أستراليا. وهذه البلدان تقع بشكل رئيسي في  الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وجنوب آسيا، ووسط آسيا. وووفقًا للتقرير، يُسجّل لبنان من بين هذه الدول أعلى معدلات الإجهاد المائي، إلى جانب قطر وإيران والأردن و"إسرائيل". 

وبرغم صغر مساحة لبنان، تختلف نسبة التعرض لمخاطر الجفاف باختلاف المناطق، فتُعد منطقة صور في الجنوب وبنت جبيل في النبطية، وراشيا في البقاع من المناطق الأكثر عرضة لخطر الجفاف مقارنة بغيرها، وفقا لبيانات تقرير للوكالة الأميركية للتنمية الدولية نُشر عام 2022.

 توقعات سلبية 

جاء في تقرير لمختبرات "غرين بيس Green Peace" البحثية نُشر أواخر عام 2022 أنه من المتوقع أن يختبر لبنان الاحترار السريع والجفاف في العقود المقبلة. بهذا المعنى، فإنّ التوقعات تشير إلى استمرار ارتفاع درجات الحرارة وتراجع نسب المتساقطات. وهذا بدوره يعني مزيدًا من التدهور في حالة المياه في لبنان.

ومع ارتفاع درجات الحرارة بمقدار درجتين مئويتين، سيشهد لبنان انخفاضًا في الحجم الإجمالي للموارد المائية بنسبة 12 إلى 16 في المئة بحسب موقع وزارة البيئة اللبنانية. وفي حال تراوحت الزيادة في درجات الحرارة بين 2 و4 درجات مئوية، سيؤدي ذلك بحسب الموقع إلى انخفاض بنسبة 40 إلى 70 في المائة من الغطاء الثلجي، ما سيؤثر على الأنهار وتغذية المياه الجوفية، وبالتالي على توافر المياه خلال فصل الصيف. 

ويشير تقرير مشترك بين منظمة الصحة العالمية واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي صدر عام 2021 أنه في ظل سيناريو انبعاثات عالية، من المتوقع أن تزداد أحداث الجفاف في لبنان، وقد ينخفض إجمالي المتساقطات بنحو 25 في المئة بحلول نهاية القرن. كذلك، يمكن أن يصل المتوسط السنوي لدرجات الحرارة إلى 4.3 درجات مئوية بحلول نهاية القرن.

مشكلة متعددة الأسباب

علينا أن نتذكّر هنا أن التغيّر المناخي ليس سوى واحد من أسباب الأزمة المائية في لبنان. فمن بين هذه الأسباب أيضًا هدرُ المياه، وغيابُ مرافق معالجة مياه الصرف الصحي والمياه المستعملة، وعدمُ ترشيد استهلاك المياه، وغيابُ الخطط الوطنية، ونقصُ التمويل، فضلًا عن المشكلات الاقتصادية كارتفاع أسعار المحروقات، والانقطاع المستمر للتيار الكهربائي. 

ويبدو أن أنظمة إمدادات المياه في لبنان "تتأرجح على حافة حافة الهاوية"، وفق وصف تقرير لـ"اليونيسف" صدر عام 2022، وهو ما يهدد صحة السكان، لا سيما الأطفال منهم. ووفقًا لبيانات متاحة على موقع البنك الدولي تعود لهذا العام (2023)، انخفضت موارد المياه العذبة الداخلية المتجدّدة للفرد في لبنان من 2590 مترًا مكعبًا في بداية الستينيات إلى 830 مترًا مكعبًا في العام 2019، علمًا بأن 1700 متر مكعب للفرد هي عتبة الإجهاد المائي، وفق تقرير لليونيسف والمعهد الدولي للمياه بستوكهولم. ومنذ عام 2019 تحديدًا، انخفضت إمدادات المياه العامة بشكل كبير، من متوسط 125 ليترًا للفرد في اليوم إلى أقل من 35 ليترًا، وهي الكمية التي يحتاجها الفرد في اليوم، وذلك وفق ما ورد في البلاغ الوطني الرابع للبنان بشأن تغير المناخ الصادر عن وزارة البيئة في العام 2022.

أزمة المياه في لبنان لا يُمكن أن تُعزى إلى التغيّر المناخي وحده، لكنّ هذه الظاهرة فاقمت حتمًا حالة قطاع ذي بنية تحتية وإدارة مُتداعيَتين. مشكلةُ المياه في بلد يواجه أزمات على الكثير من الصعد هي مشكلة متشعّبة، ولا يبدو أن لها حلًا في المدى المنظور مع غياب خطط التكيّف مع التغير المناخي، وضعف البنى التحتية، ونقص إمدادات الكهرباء اللازمة لضخ المياه، وزيادة عدد السكان، والانهيار الاقتصادي والمالي، وما لذلك كلّه من تأثيرات على الخدمات والقطاعات الأساسية كافّة. 

عن نازحي المناخ في منطقتنا

الكثير من دول العالم العربي يعاني من هشاشةٍ في البنى التحتية، وضعفٍ في إدارة الموارد وفي سياساتِ الحماية..

غيدا البردان
طعامُك المهدور يتسبّب بارتفاع حرارة الأرض

كل عام، يتم فقدانُ أو هدر ثلث إجمالي الأغذية المنتجة عالميًا. وهذه الكمية تكفي لإطعام 1.26 مليار جائع...

غيدا البردان
مشروع Nimbus: تكنولوجيا Google وAmazon في خدمة الاحتلال

قوبل مشروع Nimbus، منذ الإعلان عنه، بتخوف من جانب موظفي Google وAmazon المتعاقدتين مع إسرائيل بسبب..

غيدا البردان

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة