أكاد أجزم أن الهندوــــ أوربيين الذين تسلّلوا إلى سوريا عبر جبال زاغروس الإيرانية في القرن الرابع قبل الميلاد، طمعًا بشمسها المشعّة الدافئة، وهربًا من صقيع بلادهم في سهول روسيا وجليدها، وكانوا أول من أطلق اسم سوريا على هذه البلاد بلغتهم السنسكريتية ــــ ومعناه "الشمس" بحسب دراسة للمؤرخ مفيد عرنوق ــــ أكاد أجزم أنّهم وصلوا إليها في غير شهر تموز الذي تغلي فيه الماء بالكوز، وفي غير آب اللهاب أيضًا. إذ، لو حصل ذلك، لاستبدلوا وصفهم لها من "بلاد الشمس" إلى بلاد جهنم الحمراء، أو بلاد اللهيب الخانق، أو ربما بلاد الحرائق المزمنة.
والأمر لا يتوقّف على التسمية. فملامح العبادات القديمة وطقوسها كانت لتتغيّر، وربما كان ليزول بعضها عن بكرة أبيه لو عايش معتنقوها الاحتباس الحراري وعهد الغليان العالمي الذي حذر منه أنطونيو غوتيريش أخيرًا. فإن كان السوريون القدماء يؤلِّهون الشمس لرِفعتها وسموّها وغموضها، ولقدرتها الفائقة على بعث النور والولادة من جديد، ولاعتبارها ضمن معتقداتهم مصدرًا للنار، فإنّ مشوارًا بسيطًا تحت أشعّتها اللاهبة، وضربة شمس واحدة من تلك التي تُذيب بذرة المخ، وتُقْعِدُ المرء أيامًا في فراش المرض، ربما سيودي بمكانتها لديهم، ويجعل تقديسها موضع شك، أو يعيد تعريفها من إلهة مُقدَّرة إلى إلهة لئيمة ساخطة.
كذلك، ربما كان الأمر سيؤثّر على طقوس عبادة الشمس قديمًا. فبدل تقديم القرابين البشرية والأضاحي الحيوانيّة لها، سيتم اعتبار من تقضي عليهم بضرباتها المميتة وحرائقها المديدة هم الأضحيات، ولو لم يكن لأحد سواها دورٌ في اختيارهم. فالشمس هي من اصطفاهم، ومن خلال هذا الاصطفاء مارست جبروتها.
ومن الجائز أيضًا أن تتغيّر الرموز المرافقة لتعظيم الشمس في النقوش والمنحوتات والمسكوكات. فبدلًا من النسر بجناحيه الأثيرين الذي يرمز إلى العلو والسُّموّ والشموخ مثلًا، سيحلّ نسر منتوف الريش كذاك الذي تُصوِّره إحدى الرسوم الكاريكاتورية المتعلِّقة بالليرة السورية بعدما تمرَّغت بالتراب أمام عملات الأرض أجمعين، وقد يُستعاض عن النسر الشامخ ذاك بما يشبه الفروج المسحَّب، أو الدجاجة النافقة من جراء الحرّ الشديد.
برغم لهيب الصيف، يتجدد الجدل حامي الوطيس باستمرار بين محبيه وخصومهم من مريدي الشتاء
وكبديل عن الديك الذي يعلن انبلاج الصباح وبداية النهار، قد نرى خفَّاشًا زاويًا في عتمته الأثيرة ضمن كهف مظلم، تعين الرطوبة فيه على تخفيف عبء الصيف ولهيبه. ولعلّ كثيرًا من السوريين يمنّون النفس بفعل ذلك اليوم، فيهربون من مصدر الضوء بما يعاكس نظريًا طبيعة البشر، خصوصًا مع انعدام أيّ وسيلة مساعدة على درء حَرّ النهار. فلا قدرة لمعظمهم على تشغيل المكيفات والمراوح بسبب غياب الكهرباء، ولا على التنعّم بحمَّام بارد لأنّ خزانات المياه البلاستيكية الحمراء على الأسطح تُقارب محتوياتها درجة الغليان، في حال توفَّرت المياه في تلك الخزانات أصلًا.
برغم ما سبق، يتجدّد الجدل حامي الوطيس باستمرار بين محبّي الصيف ومريدي الشتاء، من دون أن ينتصر أحد الفريقين على الآخَر، ليبقى للشمس أنصار ثابتون. وإن كانت عبادة الشمس في العصور القديمة ناجمة عن الانتقال من مجتمع الصيد إلى المجتمع الزراعي، كما تشير دراسات في تاريخ الأديان، ومنها كتاب "عبادة الشمس في سوريا" للدكتور عبد الوهاب أبو صالح، فإنّها في عهد الغليان العالمي الحالي مصدر خطر يهدد الأراضي الزراعية والغابات بمختلف أنواع أشجارها ونباتاتها.
ويمكن استثناء التين والعنب اللذين يحتاجانها بشدّة كي ينضجان. لكن، في ما عدا ذلك، فإنّ الشمس قادرة بمساعدة بعض العوامل على إشعال الحرائق، وأكل الأخضر واليابس، كما يحصل في غابات ريفي اللاذقية وحماه وغيرهما، في مشاهد مأساوية تطعن القلب في المنتصف، وتجعل كل تفكير بلذّتها وخيوطها الذهبية والبَرَكة المصاحبة للاستيقاظ قبل شروقها، مجرّد وهم لا يمتّ للواقع بصلة.
وإن كان الصليب أحد رموز تقديس إلهة الشمس باعتبارها ترسم نقاطًا أربعة على الأرض منذ شروقها حتى الغروب، فإنّ أي انتظار اضطراري لمواطن سوري تحت أشعتها اللاهبة سيجعله حاملًا صليبه على كتفه، وسيحيل أيّ حديث عن ضرورتها لتثبيت فيتامين دال درءًا لكساح الأطفال أو وقايةً من هشاشة عظام كبار السن، مجرّد لغو وهراء زائد عن الحاجة.
والحال أنّ أيّ سوري بسيط اليوم قد لا يصل إلى حال من السلام الداخلي العميم إلا بإماتة الشمس رمزيًا، من خلال كوب ماء مُتعرِّق من برودته، أو كأس عَرَق مع أربع قطع ثلج تُعيد إليه بعضًا من حيويته، التي يتصارع جميع من في السماء والأرض على إطفائها.