ما هي شخصية سيّد درويش الحقيقية؟

ثمة من وصف سيّد درويش بـ"النابغة"، فيما وصفه البعض بـ"الثوري"، والبعض الآخر بـ"فنان الشعب" و"المطوّر الأول" للموسيقى العربية. فأين هو درويش من كل هذه الصفات؟

ما يمكن أن نقدّمه حول سيد درويش بعد مئة عام على وفاته هو تساؤلات أكثر منها إجابات، إن أردنا فهم الدور الذي أدّاه في مجال الموسيقى والمسرح الغنائي.

كيف يمكن فهم موقعه في ذاك العصر، علمًا أن حياته اقتصرت على 31 عامًا، اشتهر فنّه في سبعة أعوام منها فقط؟

ولد سيد درويش في الاسكندرية في نهاية القرن التاسع عشر، في مرحلة اتسمت بتحوّلات سياسية واجتماعية كبرى. كانت مصر لا تزال ــــ بشكل أو بآخر ــــ تحت تأثير الحكم العثماني، فضلًا عن الحضور/الاحتلال العسكري الإنكليزي الذي بدأ قبل ولادته بعشر سنوات.

لنعد بالزمن قليلًا إلى الوراء لنحاول فهم الواقع الثقافي الذي ميّز تلك المرحلة.

كان المشرق، مطلع القرن التاسع عشر، يشهد تحوّلات ثقافية وفكرية إثر الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام عام 1798، حيث وُلدت تيارات فكرية وُصفت بالنهضوية، علمًا أنها انطوت على تمايزات جوهرية في ما بينها. وكان لهذه التيارات تأثير في المجالات الثقافية عمومًا، ومنها الموسيقية بطبيعة الحال، وهو موضوعنا هنا.

أحد هذه التيارات الموسيقية نادى بـ"التجديد من الداخل" من خلال إحياء التراث الثقافي الموسيقي وتجديده عن طريق استثمار المعارف العلمیّة والتقنیّة الغربية، بشرط الحفاظ على هويته. أما التيار الآخر فنادى بـ"التجديد من الخارج"، فدعا إلى تطعيم الثقافة المحلية بعناصر غربية كمدخل للتحديث والنهوض.

وقد تعايش هذان التياران خلال القرن التاسع عشر، واستمر وجودهما (والسجال بين أركانهما) خلال القرن العشرين وصولًا إلى يومنا هذا.

كان البيانو، في عشرينيات القرن العشرين، قد أصبح حاضرًا في الكثير من منازل الطبقة الوسطى

ويبدو أن تمثيل التيار الأوّل (التجديد من الداخل) كان أقوى في القرن التاسع عشر، خصوصًا مع جيل الموسيقيين الذين عاشوا في النصف الثاني منه.

وتشير المراجع والتسجيلات إلى أنّ هذا الجيل اعتمد في عملية التجديد على أربعة تقاليد موسيقية كانت حاضرة في القاهرة خلال تلك الحقبة، وهي الموسيقى الشعبية المصرية، والموسيقى الدينية، والموسيقى الحلبية الممثلّة بالموشّح، والتقليد الفني العثماني.

وكان الداعم الأساسي لهذه الحركة هو حاكم مصر، الخديوي اسماعيل، الذي أراد أن يعيد إحياء فكرة موسيقى البلاط في القاهرة، بعدما نقلها العثمانيون إلى اسطنبول في القرن الخامس عشر، علمًا أنها كانت شائعة قبل ذلك في دمشق وبغداد خلال العصرين العباسي وقبله الأموي.

لكنّ اللافت أيضًا أنّ الخديوي اسماعيل قدّم دعمه للحركة الثانية، المعنية بـ"التجديد من الخارج". وقد ظهر ذلك، على سبيل المثال، في إنشائه دار الأوبرا بالقاهرة عام 1869.

وجدير بالذكر أن المؤلف الإيطالي فيردي (Verdi) افتتح دار الأوبرا في القاهرة وألّف بهذه المناسبة أوبرا عايدة. نذكر هذه المعلومة هنا لربطها لاحقًا بموضوعنا.

صورة الأوبرا الخديوية، نقلًا عن صحيفة

الأوبرا الخديوية - الصورة من موقع "الأهرام"

وكان من اللافت أيضًا في تلك الحقبة حضور النشاط الثقافي للدول المستعمِرة، التي أخذت منذ القرن التاسع عشر تستغل ضعف السلطنة العثمانية وتتقاسم أراضيها. وقد حققت هذه الدول خطواتٍ مهمّة، ساهمت في إحداث تغييرات ثقافية واجتماعية عن طريق الإرساليات والمدارس والبعثات التي أسستها في بلاد الشام ومصر، والتي انتشر من خلالها تعليم أسس الموسيقى الغربية وتدوين هذه الموسيقى والعزف على الآلات الغربية.

ولم تظهر نتائج التأثر بتعاليم الإرساليات وتأسيس دار الأوبرا بشكلٍ كبيرٍ إلا في بدايات القرن العشرين، خصوصًا بعدما راح المسرح الغنائي ينتشر في العقد الثاني منه. وقد اتخذ التأثر بالأوبرا الغربية مظاهر عدة، من بينها طرق الغناء والتأليف، واستبدال التخت الشرقي بالأوركسترا لأهداف تخدم "التعبير المطلوب" في فن المسرح الغنائي وفق تعابير ذلك العصر.

وفي موازاة ذلك، اتسع نطاق انتشار الآلات الغربية واستخدامها. إذ يذكر الباحث الموسيقي اللبناني علي جهاد الراسي أن آلة البيانو أصبحت في عشرينيات القرن العشرين حاضرة في الكثير من منازل الطبقة الوسطى.

هل سيد درويش صاحب خط تقليدي بتلحينه عشرة أدوار وسبعة عشر موشحًا، أم أنه صاحب "خط تجديدي" في الموسيقى؟

وقد ترافقت التحوّلات الثقافية المذكورة مع ما أنتجته الثورة الصناعية وظهور تقنيات أتاحها عصر التسجيل الذي بدأ عام 1895، من السلندر أو الشمع، وصولًا إلى الأسطوانات الحجرية. واستمرّ استخدام الأسطوانات تلك نحو ثلاثين عامًا، وانتهى مع بروز وسائل تكنولوجية جديدة كالسينما الناطقة التي ظهرت في المنطقة عام 1932، تلاها الراديو عام 1934...

لنعد إلى سيّد درويش. كان سيّد في الثالثة من العمر عندما بدأ عصر التسجيل. وكان شابًا عندما أخذ المسرح الغنائي ينتشر. وتوفي عام 1923، أي أنه لم يلعب دورًا في مرحلة نشأة السينما وانتشار الراديو. أما لجهة التسجيلات، فقد كان حضوره بمعظمه عبر شركة "مشيان" المحلية ذات الإمكانيات المحدودة (برغم إنتاجه بعض التسجيلات عبر شركتي "بيضافون" و"أوديون" الأكثر انتشارًا). ومن الشائع أنّ سيد درويش كان شيخًا مؤذّنًا في الإسكندرية، وأنّه نشأ في عائلة تنتمي إلى طبقة فقيرة، وأنّه تنّقل بين الاسكندرية والقاهرة ودمشق وحلب.

فكيف انتشرت أعماله إلى هذا الحد؟ وما الذي يجعلها حاضرة بينا بعد مئة عام على وفاته؟

كثيرون كتبوا عن سيّد درويش. ثمة من وصفه بـ"النابغة"، فيما وصفه البعض بـ"الثوري"، والبعض الآخر بـ"فنان الشعب". وكثيرًا ما اعتُبر "المطوّر الأول" أو "مؤسس الموسيقى الحديثة"، الذي منه استلهم الأخوان الرحباني ومحمد عبد الوهاب وسيد مكاوي وغيرهم.

لكن أين هو سيد درويش من كل هذه الصفات؟ هل هو المؤذّن أم الذي غنّى للعمال أثناء العمل في ورش البناء؟ هل هو صاحب "خط تقليدي" بتلحينه عشرة أدوار وسبعة عشر موشحًا، وباستخدامه إيقاعات ومقامات لم تكن سائدة في مصر حينذاك، أم أنه صاحب "خط تجديدي" بأغانيه التي انتشرت في نحو ثلاثين مسرحية؟ هل هو الثائر المناصر لسعد زغلول، وهل أراد الثورة في الموسيقى أيضًا؟

كان سيد درويش يردّد خلال الجلسات الموسيقية أن النمط التقليدي هو ما يستهويه ويطربه

لا شك أن شخصية سيّد درويش الموسيقيّة تجمع هذه السمات المذكورة وأكثر. إذ كان لنشأته في طبقة فقيرة أثر على تناوله في الأغاني المسرحية مواضيع العمال وحقوقهم، كما هو الحال في أغاني الشيالين والعربجية والسقايين... ولعل هذه البيئة لعبت دورًا في تشكيل وعيه السياسي والوطني أيضًا، حيث كان موقفه من الإنكليز واضحًا وعبّر عنه في أغانيه أيضًا.

أما لجهة ألحانه، فقد أنتج درويش عددًا من الموشّحات والأدوار التي تنتمي إلى الخط التقليدي. وتذكر بعض المراجع عنه أنه كان خلال الجلسات الموسيقية يردّد أن هذا النمط هو ما يستهويه ويطربه. 

لكن، من جهة أخرى، لا يسعنا سوى أن نلحظ المنحى "التجديدي" في إنتاج سيد درويش. فأعماله المسرحية تُظهر تأثره بالموسيقى الأوروبية لناحية استخدامه المارشات العسكرية والقوالب الغنائية الخاصة بفن الأوبرا. فهل تأثر أيضًا بالجاليات الإيطاليّة واليونانية التي كانت تسكن في الاسكندرية حينها؟ ألم يستلهم من أستاذه الشيخ سلامة حجازي الذي كان من أوائل المتأثرين بالتعبير الأوروبي والأوبرا في أغانيه؟ وكيف دفعه ذلك إلى حد وصف نفسه بـ Verdi مصر؟

ما هي شخصية سيد درويش الحقيقية إذًا؟ وما هي الأسباب التي أتاحت له هذا الانتشار الواسع، وهذا العبور للأجيال اللاحقة؟ هل هو تميّزه في التلحين؟ هل يعود الأمر إلى قدرة أعماله على مخاطبة أذواق وأفكار متنوعة؟ هل هو عصره الذي يصفه البعض بـ"الذهبي"، فيما لا يتفق كثيرون مع هذا الوصف؟

ليس بوسعنا ألا نلحظ التشابه بين شخصية سيّد درويش وعصره. عصر اختلطت فيه مشاعر التحرر من السلطنة ومقاومة الاستعمار، بأحلام التطوّر والنهوض. 

ويمكن القول إنّ النقاش الفكري والثقافي والموسيقي، بعد مئة عام على وفاته، ما زال يتمحور حول الأفكار نفسها: تجديد  أم تقليد؟ تأصيل أم تهجين...

ولو كان سيّد درويش حاضرًا بيننا اليوم، في ظلّ التطور التكنولوجي الذي ينعكس على الإنتاج الموسيقي وكثرة التجارب الموسيقية، لاختار، على الأرجح، أن يحفظ التنوّع الذي ميّز شخصيّته الموسيقية وأعماله، والتي فرضها لمئة عامٍ وأكثر.

لا يوجد "موسيقى هابطة"!

يكثر استخدام مصطلح موسيقى أو أغاني "الزمن الجميل"، وهو مصطلحٌ نابعٌ من مُنطلقٍ سياسي واجتماعي يُظهر حنينً...

غسان سحاب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة