مسلسل "الحشاشين" (3): المصادر التراثيّة لدراما الكراهية

إنّ اعتبار عدم الاكتراث بتسلسل الأحداث من الناحية التاريخية، وعلى طول الخط، ضربًا من ضروب الإبداع في مسلسل "الحشاشين"، هو حال من يقول لك "أنا جاهل إذًا أنا مبدع، ولو علمت شيئًا لنقصت ملكتي الإبداعية".

هل اختلق الفرنجة نعت "الحشاشين" وخلعوه على الفرع النِزاري من الإسماعيلية في عصرهم، ومن بعدِهم سار على منوالهم المُستشرقون، وصولًا إلى المسلسل الرمضاني الحالي الذي اتّخذ من "الحشاشين" اسمًا له؟

غير دقيق.

إذ إنّ نعت "الحشيشيّة" ــــ بهذا الاسم ــــ تجده عند المؤرخ أبو شامة المقدسيّ، الدمشقيّ المولد (ت 1267م)، وذلك في كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية". لكنّ أبو شامة يخصّ بهذا النعت نِزاريّي بلاد الشام، أو فرقةً منهم. فهو يتحدّث عن الداعية الإسماعيلي راشد الدين سنان ابن سلمان، باعتباره "صاحب الحشيشية" الذي لا ينفك يُرسل جماعة من "فُتّاك أصحابه" لتنفيذ اغتيالات. وبهذا المعنى، من غير الواضح إذا كانت تسمية "الحشيشية" عند أبو شامة تشمل كلّ النزاريين في بلاد الشام، كجماعة أهلية، أم أنها تخصّ فرقة "صدم" أو "وحدات خاصة" من بينهم. الواضح، في المقابل، أنها لا تشمل حسن الصباح ولا اسماعيليي إيران النزاريين في زمانه.

يُستبعدُ أن يكون المؤرخ العربي قد استقى اللفظ من الفرنجة. أما الراجح، فأن يكون الفرنجة استقوه من مصادر عربية.

أكثر من هذا؛ حين يأتي أبو شامة على ذكر مصرع الوزير عند السلاجقة، نظام الملك الطوسي، يكتب بأنه "قُتل بالقرب من نهاوند" وقد "اغتاله أحدُ الباطنية"، ويضيف: "وقيل إن السلطان ملكشاه من قتله لأنه سئم طول عمره ومات بعده بشهر وخمسة أيام"، أي أن أبي شامة لا يستخدم نعتَ "الحشيشية" على جماعة الصبّاح من "الباطنية"، ولا يحسم بهويّة قاتل نظام الملك أو ذاك الذي أجاز قتله، وإن كان يتفرّد بردّ هذا الاحتمال ــــ أي أن يكون ملكشاه هو الفاعل ــــ إلى ضجره من طول حياة نظام الملك!

لا مشاحة في أن هذا النعت يلحق فرقة من جماعة، أو جماعة بكاملها، بالمخدّر المُستخرج من القنّب. وقد يكون فدائيّو النزاريّة مضغوا هذه العشبة أو لا، لكن من ينعتهم بها عند المؤرّخين الأقرب إلى فترتهم، على قلّتهم، لا يدّعي ذلك. يبقى أنّ المتَّهمين باستمرار في التاريخ الإسلامي، وعلى نحو مستمر، بـ"أكل الحشيش" ــــ بمعنى مضغه، إذ لم يكُن تدخينه في التداول بعد ــــ هم الصوفيّة وليس الإسماعيليين. في التاريخ الإسلاميّ، غالبًا ما جرت المماهاة بين مجتمع البلاط والخمرة، وبين الصوفيّة والحشيش، ويمكن بهذا المعنى التعامل مع الخمرة والحشيش كرمزين ضدّيين: من يحتجُّ على الخمر يُشنَّع عليه في المقابل بأنّه "تبع الحشيش".

ويُفترض من ثمّ أن يعكس التهديفُ على رهطٍ ما بتناول الحشيش، الموقفَ عند هذه الجماعة، حول إجازته أو تحريمه.

فالموقف من الحشيش هو نفسُه الموقف من القياس، واعتماده أصلًا من أصول الفقه وإلى أي حدّ. والمذهب الفقهي الأكثر اعتمادًا على القياس هو الشافعية. وبما أنه لم ينزِل في تحريمِ الحشيش نصٌّ أو نفاه إجماع، فقد قالت الشافعية بتحريم الحشيش بالقياس على الخمر. وفي حالة أبو شامة المقدسي فهو من الشوافع.

مع ذلك، ثمة رواية تعيد أصل إطلاق تسمية "الحشيشية" على النزاريين من بلاد الشام إلى الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطميّ، نفسه، ابن أخ نزار. ليس هناك في كل الحالات ما يُفيد أن التسمية تشمل كل النزاريين حتى في الشام، وليس هناك أي مطّ لها كي تشمل ابن الصبّاح وقلعة "ألموت".

وصف "الحشيشيّة" أشبه ما يكون بالاستعارة المستخدمة على سبيل الوصم والتشهير

لكن، إذا كانت القيادة الفاطمية "المركزية" في القاهرة هي التي استخدمت هذا النعت، من جملة نعوت، للمنشقين عنها من "النزاريين"، في مرحلة ما بين تنكيل الخليفة الآمر بأحكام الله بوزيره الأفضل بن بدر الجمالي، واتهام النزاريين بذلك، وما بين اغتيال الخليفة نفسه على يد النزاريين (أو سواهم) فهذا يعني بالأحرى أن النعت كان من قبيل السبّ، لأن المشكلة بين المستعلية والنزارية ليست حول جواز تحريم الحشيش بالقياس على تحريم الخمر، إنما حول جواز أو عدم جواز تبديل الإمام الموصى به في حياة سلفه.

ويجوز الافتراض أن النزاريّة كانت في وقت من الأوقات تتهم البلاط الفاطميّ، أو المتحكّمين به لعقود، من "الجيوشيّة" (جماعة الوزير بدر الجماليّ ثم نجله الأفضل) بالخمر (وهو ما يترافق مع استمرار الشكّ حول صحّة اعتناق "الجيوشيين" للإسلام، واحتمال بقاء بعضهم على الأقل، على النصرانيّة).

الأساس يبقى أن النزارية اعتبرت أن رفضَ تبديل الإمام الموصى به هو ما أسّس في البداية لشرعية الموقف الإسماعيلي. أي يوم تعلّق الأمرُ بولاية إسماعيل بن جعفر الصادق خلفًا لأبيه، ولم يعُد بالتالي من تبديل على هذه القاعدة، ولا "بداء": إسماعيل إمام من بعد جعفر، ونزار من بعد المستنصر، وهكذا.

المفارقة أن الأدبان الكلاميّان الإسماعيلي والسني تماهيا في نقطة مذهبية حسّاسة من حيث التهديف على الإمامية الإثني عشرية، بدعوى أنها تقول بـ"البداء على الله". هذا من بعد اختزال مفهوم البداء بشكل "كاريكاتيري"، والزعم بأن المقصود منه عند الإمامية أن الله يعتقدُ شيئًا ثم يَظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقد، فيوصي بإسماعيل ثم يبدّل الأمر لموسى الكاظم. في حين أن مفهوم البداء يتكامل عند الإمامية مع إحاطة الله الأزلية بعلم كل شيء، والمقصود به أن الله يُظهر في حين ما خفي عن المخلوقات قبل ذلك بحين. لأجل ذلك، لا بأس بالدعوة من الإقرار هنا بأنّه، بمثل ما احتوى التراث الإماميّ أفكارًا مسبقة أو اختزالية حول الإسماعيليين، فإن الإسماعيلية احتوت كذلك الكثير من مسبقات الأحكام على الإمامية. أما تفكيك خرافة قاتمة تستهدف تراث جماعة، فلا يكون برسم هالة مذهّبة حول تراث الجماعة المنافسة لها.

اللافت على أي حال أن المصادر المعاصرة لحقبة النشاط النزاري الدعوي والمسلح في بلاد فارس والشام، أو تلك التي أعقبتها بعقود قليلة، ومنها أبو شامة، لا تَقرنُ توصيف "الحشيشية" بتفاصيل ملموسة حول علاقة فدائيي هذه الجماعة بهذا المخدّر. فالأمر أشبه ما يكون بالاستعارة المستخدمة على سبيل الوصم والتشهير. وهذه الأوصاف العدائية مألوفة للغاية في الصراعات بين الفرق الدينية، وقد نال الإسماعيليون الفاطميون قسطًا وافرًا قبل عقود طويلة من ولادة حسن الصباح نفسه، من التشنيع والهجاء بألف نعت.

غير أن المُخيلة التشنيعية ضد حسن الصباح وقلعة "ألموت" سابقة عليه. وقد ورثت "الباطنية" الإسماعيلية، بفرعيها "الفاطميّ" و"القرمطيّ" نفس التهم ضدها التي كانت تُلاك ضد "الزندقة" (في الأساس جماعة ماني) والخرمية (جماعة بابك خرمدين). ومع هذا، لم يحصل أن وَصل استخدام توصيف "الحشيشية" يومًا لدرجة تُقارَن معها بالوصفين العدائيين الأساسيين للإسماعيلية: "الباطنية" و"الملاحدة".

فهذا ابن شامة أيضًا، عندما يتطرق لأصل الدولة الفاطمية، تجده يكتب: "يدّعونَ الشّرف ونسبتهم إِلَى مجوسيّ أَو يَهودي حتى اشتهر لَهُم ذَلِك بين الْعَوام فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية وإِنَّما هي الدَّولة الْيهوديَّة أَو الْمجوسيَّة الباطنية."

غَرَفَ الاستشراق من تراث العدائية المذهبية المتبادلة بين الفِرق في تاريخ الإسلام، ولم يبنِ من عدم

لأجل كل ما سلف، فالأحرى عدم ردّ كل شيء إلى الاستشراق عندما يتعلّق الأمر بموضوع "الحشّاشين". فالاستشراق بنى على مصادر إسلامية، مكتوبة بالعربية والفارسية، عندما تعلّق الأمر بالنزاريّة المقاتلة، "الفداوية". وقبل أن يكون الاستشراق، بل قبل ماركو بولو بقرن، عرّج الرحالة الأندلسي ابن جبير على البلاد المشرقيّة، ودوّن رحلته، الشهيرة ككل أثر مشتهر من دون أن تُقرأ بالقدر نفسه.

في هذه الرحلة، يصرّح ابن جبير بأن "لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادّة واضحة على بنيات (طرق متفرعة) لها. وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عزّ وجلّ من أهلها. كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه إلا عند الموحّدين (يقصد الحركة ــــ الدولة التي أسّسها المهدي بن تومرت في القرن الثاني عشر للميلاد)، أعزّهم الله، فهم آخر أئمة العدل في الزمان. وكل من سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة، يعشرون تجار المسلمين كأنهم أهل ذمّة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يُسمع بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل صلاح الدين".

المشرق كلّه عند ابن جبير عامر بالأهواء والبدع. أما الصراع مع هذه فيبدو عنده أكثر احتدامًا في بلاد الشام، حيث يمرّ ابن جبر في مدينة الباب السوريّة، ويذكر أنّ "الملاحدة الإسماعيليين" كانوا في ما مضى "لا يُحصي عددهم إلا الله، فطار شرارهم" وبات "أهلها أهل فضل وخير، سنيّون شافعيّون، وهي مطهّرة بهم من أهل المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة"، وتنفرج أساريرهم لأنهم استُئصلوا عن آخرهم، "وكومّت بهذه البطحاء الجماجم".

لكنّه، حين يقترب من السلسلة الجبلية بُبدي أسفه لأن الشيعة فيها هم أكثر من السنيين، و"قد عموا البلاد بمذاهبهم"، لكنه يخص "الإسماعيليين والنصيريين" منهم بوصف "الكفرة"، ويبدي حماسته لأنه قد "سلّط الله على هذه الرافضة طائفة تعرف بالنبوية سنيّون يدينون بالفتوة وبأمور الرجولة كلّها (..) وهم يقتلون الروافض أينما وجدوهم".

ثم يخبرنا ابن جبير أكثر عن النزاريين في بلاد الشام، حيث تنتشر على القمم "حصون للملاحدة الإسماعيلية"، ويعرّفها بأنّها "فرقة مرقت من الإسلام وادّعت الإلهية في أحد الأنام، قيض لهم شيطان من الإنس يعرف بسنان، خدعهم بأباطيل وخيالات موّهت عليهما باستعمالها، وسحرهم بمحالها، فاتخذوه إلها يعبدونه ويبذلون الأنفس دونه، وحصلوا من طاعته وامتثال أمره، بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى ويستعجل في مرضاته الردى."

بالتالي؛ أولًا، لعب ابن جبير، وقبله أبو شامة، وسواهم، أدوارًا من داخل التراث العربي ـــــ الإسلاميّ في حياكة الأسطورة القاتمة أو التشنيعية ضد الإسماعيلية النزارية. ثانيًا، إنّ ما ألحقوه من أوصاف واتهامات ارتبط بشكل أساسي بالنزاريّة في بلاد الشام، ولم يأتوا على ذكر قلعة "ألموت". لاحقًا، فقط، سيبدأ منذ ماركو بولو، من حيث يقصد أو لا يقصد، نقل ما كان مستهدفًا به الداعي سنان إلى حسن الصبّاح من أوصاف. الحصيلة، ثالثًا، أن الاستشراق غرف من تراث العدائية المذهبية المتبادلة بين الفِرق في تاريخ الإسلام، ولم يبنِ من عدم.

أمّا الاستئناف المذهبي المعاصر لتراث التشنيع على المذاهب الأخرى، ومن ضمن ذلك التمادي في ابتذال الأسطورة التشنيعية على حسن الصبّاح وتراث قلعة "ألموت" والإسماعيلية النزاريّة بعامة، فلا يمرّ مباشرة بالاتصال بالمصادر التراثية القديمة، واحتقاناتها، إنما يمرّ بشكل واعٍ أو لا واعٍ، بقوالب الاستشراق، والحاجة في الوقت نفسه لتسويد صفحة الخصم من جهة، والاسترسال في استعراض غرائبيته، كما لو أنّ هذا الخصم لم يكن فقط مدّعي ألوهة يحاسَب على إدعائه، بل كما لو لم يكن من الإنس، بل تلبيسًا من تلبيسات إبليس.

يُوثّق المسلسل كليشيهات الكراهية ضدّ ابن الصبّاح والتشيّع الإسماعيلي، بهدف تجيير هذه الكليشيهات ليس فقط ضد "الإخوان"، إنّما ضد كل نسمات الاعتراض على الأنظمة السلطوية

ماذا، في المقابل، عن قصة التزامُل في سني الصبا بين نظام الملك الطوسي وعمر الخيّام وحسن الصبّاح، وتتلمُذهم سوية على يد الشيخ موفق النيسابوري، وهو ما لا يستقيم بناء على التباين في الأعمار بينهم. هذا ما أعيد تكراره في كلّ الانتقادات التي وجّهت لـ"مسلسل الحشّاشين"، من حلقته الأولى. فوُجّهت الملامة لهذا العمل لأنّه استعاد القالب الدراميّ لرواية أمين معلوف "سمرقند"، بوصفها في الأساس رواية من اختلاق استشراقي.

بالفعل، اعتمد معلوف قصة "الأصدقاء الثلاثة" هذه، وحمّل المكيدة إلى تركان خاتون، زوجة السلطان ملكشاه. فهي، مدفوعة برغبتها بأن تورّث العرش لابنها الطفل، وبأن تغدو الوصيّة على الإمبراطوريّة، نجدها تتلاعب بالجميع في رواية معلوف: تستعين بعمر الخيّام للتنجيم، وبحسن الصبّاح لتنفيذ الاغتيال، وتبقى هي وراء القصد الأساسي من اغتيال الوزير نظام الملك الطوسيّ.

ثم يثأر أتباع الأخير، "النظاميّون" في رواية معلوف، لمقتل قائدهم، باغتيال السلطان ملكشاه، وتعرُض خاتون الوزارة على الخيّام فيرفض، لكنه يستجيب في المقابل لغرضها المتمثل بإخفاء خبر موت السلطان، كي تتمكّن من نقل العرش إلى ابنها محمود، وكذلك باعتقال أخيه الأكبر غير الشقيق، برقياروق. هذا قبل أن ينجح أنصار المغدور نظام الملك بتحرير برقياروق، ومحاصرة تركان خاتون التي تستعين حينئذ بميليشيات حسن الصبّاح وتعده بتمكين دعوته، وتكون نهاية تركان على يد أمين معلوف من خلال أحد خصيان القصر، فيخنقها بوسادة بتوجيه من أتباع نظام الملك.

"الاستبداد الشرقيّ" هو في رواية معلوف أشبه ما يكون بـ"الديكور". تتواصلُ على خشبته مؤامرات الغدر، مرة ضمن أسوار القصر، ومرة خارج هذه الأسوار. أما التثبيت فيها فعلى مفارقة عمر الخيام، وهو هنا بمثابة نموذج عن "المثقف"؛ داخل مجتمع البلاط وخارجه في آن. وكذلك على مفارقة حسن الصبّاح؛ متمرّد على السلطة، ومتدخّل في الوقت نفسه في الصراعات ضمن البلاط السلطانيّ.

مكمنُ الضعف في رواية أمين معلوف لا يتمثّل في أخذها بقصة "الأصدقاء الثلاثة" المستبعدة تاريخيًا، وإنّما في تحويل تركان خاتون إلى "دينامو" صراعات القصر والحروب الأهلية في ذلك القرن، وبالتالي تكرار شيء من قبيل.. "كيدهنّ عظيم".

بيد أن قصة الصداقة منذ الصبا بين نظام الملك وابن الصبّاح والخيّام ليست من ابتداع أمين معلوف. فهو أخذها، مباشرة أو بالتواتر، عن الشاعر البريطاني إدوارد فيتزجرالد (ت 1883م) في مقدمة "ترجمته" لـ"الرباعيّات" المنسوبة للخيّام. لكنّ فيتزجرالد لم ينسج الحكاية هو الآخر، لأنها مذكورة في كتاب "جامع التواريخ" الذي حبّره، بالفارسيّة، المؤرخ رشيد الدين الهمذاني (ت 1318 م)، وفي كتاب "وصيت نامه" المنحول على نظام الملك.

بالتالي، يمكن القول إنّ القالب الدراميّ لصداقة ابن الصبّاح ونظام الملك والخيّام سابق على العصور الحديثة، وعلى الاستشراق ومعلوف والمسلسل الرمضانيّ الحاليّ. لا يجعله ذلك يتمتع بالصحّة التاريخيّة، علمًا أنّ رشيد الدين الهمذاني مثلًا لم يكن يدري أنّ هذه القصة غير صحيحة، كذلك فيتزجرالد. في حين أنّه في زمن معلوف والمسلسل الحاليّ، بات الحقل البحثيّ المتصل بهذه الحقبة واضحًا في استبعاد هذه الحكاية.

بالمطلق، لا ضير إن بنى أي عمل إبداعيّ عليها، هذا إن أظهر العمل فطنة من حيث المواءمة بين قالب دراميّ غير تاريخيّ متوارثة حكايته منذ قرون، وبين حدّ أدنى من الإلمام بالتسلسل الزمنيّ للأحداث في تلك الفترة. أما اعتبار عدم الاكتراث بتسلسل الأحداث من الناحية التاريخية، وعلى طول الخط، ضربًا من ضروب الإبداع، فهذه حال من يقول لك "أنا جاهل إذًا أنا مبدع، ولو علمت شيئًا لنقصت ملكتي الإبداعية".

ثم، لماذا يذكر المسلسل من قام بمراجعته التاريخية، إن كانت هذه المراجعة هي بحدّ ذاتها مرذولة بحسب الداعين بحدّية، وعنجهية، إلى الامتناع عن وزن المسلسل بعين التاريخ، كونه عمل إبداعيّ وليس فيلمًا توثيقيًا؟ والحال أنّه توثيق لكل كليشيهات الكراهية ضدّ حسن ابن الصبّاح والتشيّع الإسماعيلي، بهدف تجيير هذه الكليشيهات ليس فقط ضد "الإخوان المسلمين"، على ما انتشر، إنما ضد كل نسمات الاعتراض على الأنظمة السلطوية. أنت معارض لنظام عربي اليوم؟ إذًا أنت من أتباع حسن الصبّاح. هذا ما يريد قوله المسلسل مشهدًا بمشهد.

يُوظَّف المسلسل ضدّ الإسلاميين، من دون أن يتنبّه منتجوه إلى أنّ رأيهم بحسن الصباح والباطنية، هو رأي الإسلام السياسي في هؤلاء

مع هذا، فإن مشكلة المسلسل لا تكمن هنا. بل اضطرابه الكبير راجعٌ بالأحرى إلى أنّ اعتماد الخرافة اللاتاريخيّة الأكثر تشنيعًا على حسن الصبّاح والإسماعيليين النزاريين من حقبة قلعة "ألموت" ومملكة القلاع والحصون النزاريّة الممتدة من إيران حتى سوريا، لا يُوازَن بالقدرة على رسم معالم بطل إيجابيّ "خيّر" في مواجهة ابن الصبّاح "الشرير".

المسلسل ينسج طبعًا مجموعة وجوه "خيّرة"، من دون أن يتحوّل أيّ منها إلى "قطب" كامل في مواجهة الحشّاشين. طبعًا، لن يجدي كثيرًا ترفيع ملكشاه أو نظام الملك الى رتبة "أبطال خيرين" في وجه حسن الصبّاح. ومن كتب قصة المسلسل ومن أخرجه يُدركان ذلك.

يبقى في المقابل كل من عمر الخيام وأبو حامد الغزالي.

بخلاف أمين معلوف الذي يُستفاد من روايته الثناء على نموذج الخيام، كنموذج تعريفيّ لاستقلاليّة المثقف، فإن عمر الخيام في المسلسل يبرز بشكل أكثر ركاكة، وأقرب للعدمية. يُقنع نفسه بنفسه ويُطمئن سواه بأن لا دور له على مسرح الأحداث. لا ينفع ولا يضرّ.

أما الغزالي في المسلسل فكأنه ليس هو نفسه أبو حامد الذي استرسل في تكفير الإسماعيليين في كتابه المعنون بـ"المستظهريّ" أو "فضائح الباطنيّة". الغزالي، غاندي مسلسل "الحشاشين"، يبدأ كتابه بالقول "ان رتبة هذه الفرقة أخسّ من رتبة كل فرقة من فرق الضلال". ورأى أنهم "بين مذاهب الثنوية (المانوية) والفلاسفة يتردّدون، وحول حدود المنطق في مجادلاتهم يدندون". ثم يمضي الغزالي إلى التكفير. لا يوافق على أنّ خروج الباطنية عن الإجماع مسبّب للكفر، ولا بأن قولهم بعصمة الإمام على رفضه المُبرم لمفهوم العصمة من بعد النبي، مُسبّب للكفر. لكنه يبحث للباطنية الإسماعيلية عن سبب وجيه لتكفيرهم، فيجدها في دعواه بأنهم يقومون بـ"تكذيب" النبي. ويعني بذلك أنهم أوّلوا الجنّة والنار على أنّها من قبيل المجاز لا الحقيقة.

في المقابل، فإن تهمة ابن الصبّاح والحشاشين في المسلسل الرمضاني هي أنّهم يطرحون أنفسهم قيّامين على الأنام، من يذهب إلى الجنّة ومن يُرسل إلى النار. يشهّر المسلسل بابن الصبّاح على أنه يزعم أنه يمتلك "مفتاح باب الجنّة"، في حين أن مشكلة الغزالي مع ابن الصبّاح هي في أنه، بحسب الغزالي، لا يؤمن حقيقة بالجنّة والنار، و"يكذّب" على النبي.

وعليه، فإن داعية "اللاعنف" في المسلسل، ينصّ في كتابه "المستظهري" ليس فقط على تكفيرٍ عامٍ للإسماعيلية، على نحو التكفير الذي أعمله في الفلاسفة في كتاب "التهافت". بل يربط التكفير جهارًا بـ"سفك الدم". ولا يكتفي أبو حامد بتكفير الإسماعيلية، بل يكفّر من يتّصل بهم. يكتب: "إن كل صاحب لأي فرد من بين الباطنية محكوم بأن يكون مرتدًا". هكذا.

ما بين أوصاف أبو شامة المقدسي، وابن الجبير الأندلسي، وأبو حامد الغزالي ضد الإسماعيلية في ثوبها النزاريّ، سيظهر بوضوح أنّ التكفير وإن وجد من كل فرقة ضد الفرقة الأخرى، فإنه يبلغ أوجه في الأدبيات المعادية للإسماعيليين النزاريين، وليس عند النزاريين أنفسهم.

مع هذا، يسجّل لهذا التراث التكفيريّ القديم ضدّ الإسماعيلية النزاريّة أنّه لم يذهب بعيدًا في التصوّر الخرافي حول أسلوب الحياة والتوجيه في قلعة "ألموت". هنا بالذات مارست المخيلة الغربية، بدءًا من ماركو بولو، ثم بشكل ازداد تضخمًا من قرن إلى قرن، عملية اختراع صورة إكزوتيكية قصوى عن القلعة ومعاشها، باعتبارها كانت تقوم بتجهيز الفدائيين ليس فقط بالتثقيف الديني والسياسي والإعداد القتالي، وإنّما بتخديرهم وخداعهم بـ"حوريّات" يرقصن لهم في واحدة من حدائق القلعة.

فضلُ مسلسل "الحشاشين" يكمن هنا: في أنّه، سعى، لأول مرة، لإخراج تصوّر بالصوت والصورة عن "الجنّة" المخادعة المزعومة هذه. بهذا، يكون المسلسل قد دفع "الأسطورة السوداء" ضد حسن الصبّاح إلى مداها: الابتذال النهائي. حرّر المسلسل بهذا المعنى حسن الصبّاح من فانتازيا عدائية له، ظلّت تتحرّك بين الحقيقة والمجاز من قبل.

العمل الدرامي، ومع أنّه يقول إنه كعمل ابداعي لا عتب عليه إن لم يتقيّد بالسرد التاريخيّ، فإنّه يتلطّى وراء هذه الإبداعيّة المزعومة ليُظهر "الجنة المخادعة" في قلعة "ألموت" كما لو كانت مِحور نشاط القلعة.

في الوقت نفسه، يريد المسلسل أن لا يُساءَل حول "تاريخية" ما يستند إليه، وأن يبني على قصته بوصفها "حقيقية"، وقابلة للتوظيف ضدّ الإسلاميين هنا، وضد كل المعارضين للأنظمة هناك. وطبعًا، من دون أن يتنبّه منتجو هذا المسلسل إلى أنّ رأيهم بحسن الصباح والباطنية، هو رأي الإسلام السياسيّ في هؤلاء.


لقراءة باقي الأجزاء:

مسلسل "الحشاشين" (1): دراما سرد الأحداث بالمقلوب

مسلسل "الحشاشين" (2): دراما سرد الأحداث بالمقلوب

مسلسل الحشاشين (4): ثورة حسن الصبّاح بين أسطورتين

مسلسل "الحشاشين" (1): دراما سرد الأحداث بالمقلوب!

سبق أن استُخدمت "الشدّة المستنصرية" مادة للفانتازيا في مسلسل رمضانيّ سابق عُرض قبل عامين: "بيت الشدّة"،..

وسام سعادة
مسلسل "الحشاشين" (2): دراما سرد الأحداث بالمقلوب!

المسلسل خرافيّ من حيث الرقم القياسي للمغالطات التاريخية فيه. أما الكم الهائل من الخفة في البناء على..

وسام سعادة
مسلسل الحشاشين (4): ثورة حسن الصبّاح بين أسطورتين

ما كان "الحشاشون" شياطين. وفي لحظات بعينها، في البدايات، كانوا إلى الحق من أعدائهم أقرب. لم ينصّبوا..

وسام سعادة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة