يرقد الكوكب بأكمله، على الأرجح، في مهجع ضخم للحجر الصحي، ولا سبيل لشفائه. ذلك أن سِيرك التفاهة يعمل بأقصى طاقته فوق حبال مهتزّة، بقصد صناعة فرجة سطحية لا يعوّل عليها. فما كان يقوله نيتشه عن الشعراء الخلبيّين، يمكن تعميمه اليوم على الحقول الأخرى: "يكدرون مياههم، كي تبدو عميقة".
ما جرى فعلًا فوق منصّات التواصل الاجتماعي الكونية هذه، هو توطين التفاهة، وذلك بنقل قيد نفوسها من الهامش إلى المركز. وتاليًا، لم يعد وجودها عراكًا في الأزقة الجانبية، إنما خرجت إلى الشارع العمومي بكامل مساحيقها وأسلحتها، بعد أن استولى التافهون على السلطة، وفقًا لما يقوله ألن دونو. هكذا، اقتحمت التفاهة الفضاء العام بوصفها مطلبًا جماهيريًا: كن تافهًا وستحقّق الشهرة!
اندحرت البرامج الجديّة في المحطات التلفزيونية، وأغلقت معظم المكتبات أبوابها لمصلحة دكاكين الأحذية والهواتف النقّالة والوجبات الجاهزة، فيما عَمَّمت مواقع التواصل مفردات السفاهة. جرعات كبيرة من الصور والخلاعة والأدعية والفتاوى والفضائح، نبتلعها كل يوم، كما لو أنها فيتامين النجاح الوحيد.
دع الأفكار العميقة جانبًا. لا أحد لديه القدرة على حمل معاول الحفر لاكتشاف المعادن النفيسة. ابقَ طافيًا على السطح مثل فقمة كسولة، ستأتيك الفرصة لتكون في الواجهة: هل تمتلك صوتًا أقلّ من ميديوكر بدرجة؟ لا تجزع إذًا، فبرامج الغناء لا تحصى. لا تخشَ لجان التحكيم، فبعض هؤلاء كانوا مثلك يومًا ما، يغنّون في حفلات الأعراس والملاهي. سيصفقون لك. وسيعيدون تدوير بلاستيك موهبتك بسهولة، قطعة وراء قطعة، كما لو أنك ساعة سويسرية.
لا تنسَ أن ميلان كونديرا خصّص روايته الأخيرة "حفلة التفاهة" في تشريح حالتك: "التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود"
اكتبـ(ي) شعرًا ركيكًا، وسيحاصرك المعجبون والنقّاد بالتصفيق. ارتد سروالًا زاحلًا، زخرفي جسدك بالتاتو، انفخي شفتيك ومؤخرتك، واشفطي دهون بطنك، فعيادات التجميل أهم من مدرجات الجامعات. ابدأ/ي كومبارسًا في مسلسل، وستنطق/ين يومًا بجملٍ شكسبيرية. فمن هو هاملت أو الملك لير، ومن هي أوفيليا، حتى يحتكرهم الآخرون على الخشبة؟
أكتب روايات بركاكة لغوية وسردية كاملة، كما لو أنك في مضافة بدوية، فربما تحصد جائزة أدبية. اعمل دي جي بأكبر قدر من الأغاني المتواضعة فنّيًا، واقتحم "اليوتيوب" بقناة خاصة بك، واعمل طاهيًا، اخلط الرز بالبصل، والباذنجان بالكمثرى، فسيتابعك الملايين.
اجعل فروة رأسك مثل خريطة احتلها برابرة، إذ ليس مستحيلًا أن تصبح كائنًا عالميًا ومعولمًا بدمغة وتسريحة شعر غرائبية. لا تظن أنك منبوذ أو مهمل، فقد اعتنى فلاسفة وروائيون وعلماء اجتماع بقضيتك، ولا تنسَ أن ميلان كونديرا خصّص روايته الأخيرة "حفلة التفاهة" في تشريح حالتك: "التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود، إنها معنا على الدوام وفي كل مكان. إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب، وهذا غالبًا ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف دراماتيكية للغاية ولتسميتها باسمها، لكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، وإنما يجب أن نحبها، التفاهة، يجب أن نتعلم حبها".
أما ألن دونو، فقد أفرد كتابًا ضخمًا للذين غزوا الجامعات، والشركات العملاقة، وكراسي الحكم، من هذه الطينة. لا كاريزما اليوم للزعيم، ذلك أن رجالات السياسة الأشدّاء ذهبوا إلى متاحف الشمع، ودروس التاريخ، وغبار الوثائق.
الهراء هو السلعة الأكثر رواجًا، فنحن ــــ كما "نعاين كميّات كبيرة من الهراء كلّ يوم، في الإعلانات، والسياسة، والصحف"
التقط "سيلفي" مع المشاهير والكلاب والقطط، وتحت نُصب الفلاسفة والشعراء. تأبط كتابًا، ثم اقذف به من النافذة. وفي حال عدم امتلاكك أي صفة تخوّلك القفز فوق بحيرة التماسيح، ضع في سيرتك الذاتية مهنة برّاقة مثل "تنمية بشرية"، أو "خبير بطاطا مجفّفة" أو "صانع محتوى"، حتى لو كنت لا تجيد قلي بيضتين على نار الكيبورد.
لقد أنجز البروفسور هاري جي. فرانكفورت بحثًا مطولًا بعنوان "عن التفاهة"، باعتبارها مظهرًا بارزًا في ثقافة اليوم. الجميع شركاء فيها حتى حين يظن أحدهم أنه يتجنبها.
يوضح فرانكفورت أن التفاهة "ما هي إلا استعمال متهوّر أو مهمل للغة، ولا ينتج بالتالي عن هذا الاستعمال إلا الهراء". وهو يلفت إلى انتشار التفاهات على مواقع التواصل الاجتماعي، وكيف أن استقبال هذا الكم الهائل من التفاهة يوميًا "يؤثر في مستوى وعي، وثقافة، وفكر الأفراد المحيطين بنا، فكل شيء أصبح متاحًا للقول، والكلام، والحديث، والتلفظ، وغابت الحدود والضوابط في مثل هذه القنوات، لأن كل فرد يعتبرها حسابًا شخصيًا، وتاليًا، من حقه أن يضخ فيه كل الهراء".
الهراء إذًا، هو السلعة الأكثر رواجًا. فنحن ــــ كما يضيف "نعاين كميّات كبيرة من الهراء كلّ يوم، في الإعلانات، والسياسة، والصحف، والتلفزيون. ويبدو أن الهراء يطفو على السطح بمجرد أن تبدأ في البحث عنه".
في تعريف التفاهة لغويًا "نقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة". وإذا بالمعادلة تذهب إلى عكسها: إذا أردت أن تحضر بقوة في الساحة كمحارب شرس، ابتعد عن الأصالة والإبداع والقيمة، وعزّز مفردات الانحطاط في جحيم من الصور المتلاحقة والبذاءة و"التجريف الأخلاقي"، وانتصر لبرامج الأبراج والشعوذة والتهريج والفضائح. وانظر إلى أقدام لاعبي الكرة التي تدر ذهبًا، وأهمل الأدمغة.
يقول محمود عباس العقّاد: "حتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته، حيث أتعلم شيئًا جديدًا عما هي التفاهة، وكيف يكتب التافهون وفيمَ يفكرون".
نظنُّ أن العقّاد سيتراجع عن فكرته أمام أهوال التفاهة في الكتابة اليوم، بعد أن تحوّلت إلى طبقٍ شهي في مختلف منصّات البث. وسيختزل الروائي الإسباني كارلوس زافون أحوال الكوكب اليوم بقوله: "لن يُفنى العالم بسبب قنبلة نووية، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة".
استثمر في التفاهة، ستنجو.