الوصفة الأبديّة لصناعة البهجة

قضى خالد خليفة سنواته الأخيرة بين دمشق واللاذقية بما يشبه ترحال الغجري الجوّال، إذ أغرته مناخات المدينة في كتابة روايته الأخيرة "غرفة بصاق للعمّة" عن فضاءات البحر، والزلزال السوري، ويوميات العزلة، الرواية التي من المتوقّع أن تصدر قريبًا.

لم يتوقّف عدّاد الموت السوري عن العمل يومًا، كما في ورديات متعاقبة، لكنه هذه المرّة كان يخبئ طعنة غير متوقّعة، إذ اختار أن يختطف خالد خليفة من دون مقدمات.

كائنٌ أثيريٌ لطالما كان عنوانًا للبهجة والحياة الصاخبة وجنون اللحظة، لكنّ قلة نباهتنا لم تتح لنا أن نرصد اشتغاله على ثيمة الموت بعمق طوال مغامرته السردية. ففيما كان يغوص في "مهنة العيش" ، كانت توابيت شخصياته تملأ المقابر، فيما يبتلع الطوفان مئات الجثث الأخرى في مشهد فانتازي، كأن هذه الروح الجنائزية هي بؤرة السرد لديه، من دون مراوغة.

ربما أغرق رواياته بالموتى، لكن ثقل المذبحة السورية وضعه في مهب العاصفة مدفوعًا بطهرانية نقية في كتابة تاريخ مضاد، ساعيًا إلى إعادة مجد مدينته حلب التي دمّرها الغزاة والانقلابيون والأصوليون، في حفر كورنولوجي لطبقات المدينة التي فقدت بريقها بعفونة طارئة.

وإذا به يعود في روايته الأخيرة "لم يصلّ عليهم أحد" إلى القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، بعمارة سردية صلبة في تفكيك هوية المدينة واحتضان إثنياتها ومذاهبها على نحوٍ آخر، معوّلًا على لذة الحكي في ترميم مصائر شخصياته الممزقة تحت وطأة الأوبئة والطوفان والزلازل. وبذلك أغلق قوس السرد على أملٍ غامض في تأثيث المكان بما ينقصه قبلًا.

ربما أثقل خالد خليفة نصوصه بمساءلة السرديات الكبرى أكثر من عنايته بمتطلبات الرواية الجديدة، لجهة الكثافة وإعلاء شأن الهامش وتطلعات الأفراد لا الجموع. وإذا برواياته تعمل لمصلحة المؤرخ أكثر من عنايتها بسوسيولوجيا المكان، ذاهبًا إلى مشهديات تغويه أكثر مما تقنع المتلقي لجهة قابليتها للإقناع.

وجد خليفة في مناخات حلب ما يختزل الخريطة السورية بأكملها، فبقيت بؤرة اهتماماته السردية مقلّبًا تاريخها على موقد الأسى والحنين والفجائع

لكن من يعرف خالد خليفة عن كثب لن يستغرب هذا الجموح التخييلي، فهو من أولئك الذين يؤمنون بعمق أن أحصنة السرد ينبغي أن تصهل في البراري المفتوحة لا داخل أسوار الاسطبلات.

هذه الحرية المشتهاة، على أهميتها بالنسبة إليه، تحتاج في المقابل إلى مساطر سردية مضبوطة لطالما كانت تفلت هنا وهناك، تبعًا لذهاب وإياب المخيّلة. لنقل بأن صاحب "مديح الكراهية" لم يغادر مدينة حلب برغم أنه غادرها قبل ربع قرن، إذ وجد في مناخاتها ما يختزل الخريطة السورية بأكملها، فبقيت بؤرة اهتماماته السردية مقلّبًا تاريخها على موقد الأسى والحنين والفجائع.

ظهر هذا على وجه خاص في "الموت عمل شاق"، التي قدّم فيها رحلة كابوسية من دمشق إلى حلب، لتنفيذ وصية الأب بدفن جثمانه في قرية العنابية شمال حلب، و ذلك بسرد وفيٌّ للواقع، "كأن الكاتب يلقي بصنارته في نهر البؤس السوري؛ ليصطاد عائلة ويسردها بصبر كبير، عائلة مفككة تحاول تنفيذ وصية الأب بنقل جثمانه من دمشق إلى قريته العنابية البعيدة في ريف حلب، ومن خلال تنفيذ الوصية تعيش العائلة وقائع حقيقية وأخرى غرائبية تحيلهم إلى أنفسهم وإلى محنة بلادهم المنكوبة"، وفقًا لتقويم مجلة "بانيبال" للنسخة الإنكليزية من الرواية.

هكذا، قضى سنواته الأخيرة بين دمشق واللاذقية بما يشبه ترحال الغجري الجوّال، إذ أغرته مناخات المدينة البحرية في كتابة روايته الأخيرة "غرفة بصاق للعمّة" عن فضاءات البحر، والزلزال السوري، ويوميات العزلة، الرواية التي من المتوقّع أن تصدر قريبًا، عن "دار نوفل" في بيروت. ربما أيضًا، علينا أن نلتفت إلى اهتمامه المتأخر في الرسم، فهو أنجز عشرات الأعمال التشكيلية التي تنطوي على شغف باللون كمرادف لشغف الكتابة.  

بغيابه المباغت نقول يكفيه غبطة، بتصدير عناوين رواياته إلى الشارع العمومي باعتبارها دمغة خاصة به مثل "الموت عمل شاق" العنوان الذي تداوله المئات في رثائه حتى من لم يقرأ له فعلًا، وكذلك الأمر بالنسبة لروايتيه" مديح الكراهية"، و "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة". الآن، أتأمل ـــ هديته لي ــــ إحدى لوحاته المعلّقة على جدار غرفة مكتبي بعد أن اقتحم حقل التشكيل: ورد أحمر في حقل فسيح ملطخ بالأخضر والأزرق لعله الآن يرقص هناك بكامل ضحكته.

 أجلسُ كل صباح على سطح منزلي الذي يطل على جبل قاسيون، وأقول لنفسي: هناك يرقد خالد خليفة مطمئنًا، لعله يراقب المدينة من ذلك العلو الشاهق بكامل حبره ودفاتره والوصفة الأبدية لصناعة البهجة!

كُلّ هذا الهراء!

في تعريف التفاهة لغويًا "نقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة". وإذا بالمعادلة تذهب إلى عكسها اليوم: إذا..

خليل صويلح
كافكا، تشيخوف، هايدغر، يتسللون إلى عناوين الروايات العربية!

ليست غاية المقالة الاحتجاج على خيارات الأدباء في دَمغ عنوان كتاب أدبي باسم أعجمي، لكنها تزعم أنّ الأمر..

خليل صويلح
سوريون يستعيدون خريطة الغناء المغيّبة

تراكمت فاتورة الخسائر الباهظة في تحطيم السلّم الموسيقي في سوريا، واقتحم مغنو الأعراس الشاشات، وباتت..

خليل صويلح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة