مغارة بباب زجاجي في حلب: "الإلياذة" بنصف سعر أناناسة

في عالم "السيد"، يبدو أن الثمن الباهظ للكتاب الورقي مقارنة بالدخل المتدني للسوريين هو العائق الحقيقي أمام القراءة كعملية معرفية تعبِر بمُمارسها نحو المعرفة والفهم، و"دار الوثائق الورقية" أوجدت حلًا محببًا لهذه المشكلة.

في الثلث الأخير من شارع القوتلي في مدينة حلب، التي أُعلن "انتهاء الحرب فيها" قبل سبع سنوات، ولم يتعافَ شيء ولا أحد من آثارها بعد، قد تعتقد أن الورقة البيضاء الملصقة على جدار قرب "دار الوثائق الورقية" وقد كُتب عليها "ممنوع منعًا باتًا: إدخال الأسلحة المرخصة وغير المرخصة بأمر من الجهات المعنية تحت طائلة المسؤولية وشكرًا"، هي إشعار رفض من صاحب "دار الوثائق الورقية" للعنف وإيمانه بالكلمة سلاحًا.

وقد تظن أن السبب أقل عمقًا من ذلك، وأكثر بديهية وانسجامًا مع واقعٍ متفلّت لمدينة تغفو في سبات طويل من دور مقدّر لها ولأبنائها. لعلّ المحامي والكاتب والمؤرخ علاء السيد، يخشى على سلامته وسلامة روّاد المكان، من حادثةٍ تحملها المصادفة، أو ترتّبها الأقدار، فيفوته "ربع الساعة الأخير" من منعطف البلاد التاريخي، أو الخروج المنتظر من عنق زجاجة طويل، علق مع مدينته فيه. أو مهما يكن ما يعد به دعاة الانتظار ما بعد الحرب.

ستصفعك مصادفات مدينة فقدت القدرة على أن تكون أقلّ مباشرةً، وتكتشف أن ملكية الورقة تعود لـ "كباريه الليالي"، وبواقعية فجّة ككل ما ومن في هذه المدينة. يعلو "كباريه الليالي" كتف "دار الوثائق الورقية" الأيسر، مانحًا ما هو أبعد من مجرّد مكتبة سخريةً ساحرةً تزيد قصتها خصوصية.

الإرث الثقيل

واجهة "الدار" المغطاة بكتب ومطبوعات منتقاة لتُبرز للمارة هوية ما سيُباع ويُشترى أو يُستبدل في الداخل، تمنحك وقفةً لمحاولة إيجاد نمطٍ منطقيٍّ لعناوين لا يجمع بينها إلا المكان، والورق. وسيحملك الباب الزجاجي إلى عالمٍ هارب من قلب المدينة المادي، إلى قلب حضاري لها، لا يبدو أن يومياتها وماضيها القريب يدركان وجوده حتى.

يقول المحامي علاء السيد إن مشروعه في الأصل يحمل بُعدين: الأول تكملة لرسالة مشروع "دار الوثائق الرقمية التاريخية" الذي أطلقه قبل أعوام لأرشفة وحماية تراث المدينة الورقي ومخطوطاتها من الأذى، من الحرق أو السرقة، شأنه شأن معظم نفائسها التي لقيت مصيرًا مماثلًا، قد يعتبر عشّاقها أن السيناريو الأفضل فيه هو السرقة، كضمان على الأقل لعدم اندثارها إلى الأبد.

أما البعد الثاني فمتعلق برسالة وهوية شخصيّة. فالهدف الرئيس للدار مع بدايتها كما يقول السيد: "إنشاء نواة لمشروع ثقافي يجمع المهتمين بالأدب والفكر والثقافة والسياسة وكل ما قد تحويه دفّتا كتاب، إضافة للدفع بالكتب الورقية كقيمة وفكر للانتقال إلى مستفيدين جدد مرة بعد مرة، بعيدًا عن أنانية المقتني وحبه للتملك".

يقول "السيد" إن هوسه باقتناء الكتب قاده لحيازة مكتبات تحوي آلاف المنتجات الورقية القيّمة، وصلت إليه، بفعل البحث تارة، والمصادفة تارة، وبفعل التّخلي السّهل عن شيء قد يراه الوَرَثة حملًا ثقيلًا خلّفه لهم الآباء والأجداد تارة أخرى.

بعض هذا الإرث اقتناه "السيد" بالشراء، وبعضه قدّمه الوَرَثة هدايا تريح ضمائرهم وتسمح لمخزون آبائهم الفكري بالانتقال جيلًا بعد جيل. "ليس نتيجة للتٌخلّي بل احترامًا ودعمًا للمشروع" يقول السيد عن بعض الكتب التي وصلت إلى الدار، برغم خصوصيتها بالنسبة لأصحابها.

هوية "الدار" كاملة تختبئ في زوايا ذاكرة صاحبها وتولد منها. بين مشهديّات يختزلها بكثافة، صورًا وأحاديث وشخوصًا، تحتجز الكاتب والمؤرخ علاء السيد، خلف قضبان ماضٍ عاشه أو نسجه بخيالِ وأمنياتِ حنينٍ مستمر، لعراقة تلمَّسها بين حجارة المدينة، وطيّات ورقٍ ووثائقَ ومخطوطات عاش سنوات صباه ورجولته، يشتَمُّ أصالة مدينته المشتهاة بينها. ولا يخفى أصل هذه الهوية على أيّ من روّاد المكان.

ينقل "السيد" مخزونًا من عشرات آلاف الكتب والمخطوطات ليعبر به حدود أرفف المكتبة، ومن حلب، خلَق مروحةً نامية من العلاقات، تنفي ما يقال إنه حالة مكرّسة من العزوف عن القراءة. في عالم "السيد" يبدو أن الثمن الباهظ للكتاب الورقي مقارنة بالدخل المتدني للسوريين هو العائق الحقيقي أمام القراءة كعملية معرفية تعبِر بممارسها نحو المعرفة والفهم، و"دار الوثائق الورقية" أوجدت حلًا محببًا لهذه المشكلة.

لكلّ "باحث" كتاب

الأشهر الستة التي عاشتها الدار حتى الآن غير كافية بعد للحكم إن كانت حققت أهدافها الرئيسية أم انحرفت عنها، يقول السيد إن معرفته لبعض الحقائق الموصّفة لمدينة خبِر تاريخها بما يكفي ليستشفّ مستقبلها، لم تمنعه من الاصطدام بواقعٍ أدركه ويصفه بـ"هجرة حقيقية للمثقفين وهواة قراءة الكتب الورقية، وانحسار واضح للمثقفين، اليساريين ــــ إن صحت تسميتهم ــــ الكتّاب، الشعراء، الأدباء، المفكرين والفلاسفة والقرّاء الحلبيين عمومًا"، فيما تحمل له أحيانًا بعض الحالات الفردية اللافتة مفاجآتها في بحثها بعناية، لتخوض تفاصيل مذهلة لمطّلع استثنائي بعيد عن الاقتناء السطحي للكتاب.

ويضيف السيد إن "ظواهر جغرافية جديدة" قد تتعلق بالأبعاد السياسية وخصوصيات المجتمعات المحلية الصغيرة على امتداد الجغرافيا السورية، اتّضحت أمامه أكثر بعد تجربة "دار الوثائق الورقية"، التي سمحت له بالاحتكاك عن قرب مع قرّاء نهمين من طرطوس، أرياف حماة، السويداء، القامشلي، ودمشق. أماكن عبَرها بالفكر والرسالة، ليخلق روابط جديدة معها راسماً امتدادًا جديدًا وأبعاد واسعة لأفكار أوراقه.

بين باحث عن "الكتاب اللّوحة" الذي يصفه السيد شكلًا ويطلبه المشتري "ديكورًا" ليكمل أناقة مكتبته، وكتب الدِّين التي يبحث كُثر عن عناوينها تلبية لاحتياج فطري يميل القارئ العربي عمومًا للنزوع نحوه بعيدًا عن الحفر أعمق لاكتشاف ذاته ومحيطه، قرّاء، أصدقاء، صائدو جوائز ونفائس، ومارّة يسألون عن عناوين محدّدة يصفها السيد بـ "الأكثر تداولًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أغلفتها جذّابة غالبًا وتحمل استخلاصًا سهلًا للتجارب ومعظمها كتب تداعب أحلام قرّاءها". ضجيج هادئ بتواتر بطيء تعيشه "الدار" في يوم عادي، وروّاد دائمون، يقصدون المكان بشكل شبه يومي.

المحامي  شيخو  بللو، يصف نفسه بـ "القارئ الحائر"، وهو يسأل عن جديد تحمله رفوف "الدار"، يبحث عن أمّهات الكتب في الفلسفة محاولًا إيجاد معنى حقيقي لوجوده، ينبش "شيخو" بين الرفوف التي يحفظ معظم موجوداتها، لاهثًا وراء ما يصفه بـ "كتب بعيدة عن الإيديولوجيات الدينية والسياسية، كتب الفلسفة القديمة تسمح لي باستعادة توازني والحفاظ على عقلانيتي بعيدًا عن الدعاية التي تحملها موضوعات الكتب الأخرى التي تلقى رواجًا وتميل دور النشر لتبنيها وسط كل ما نعيشه"، الكتب التي يبحث عنها شيخو تؤمّنها "دار الوثائق الورقية" بأسعار يستحيل مع غيرها اقتناء كم ونوع مماثل. فهنا يمكنك اقتناء إلياذة هوميروس بثلاثة أجزاء من القطع الصغير لنسخة أصلية ونادرة، بـ50 ألف ليرة سورية (3 دولارات) وهو سعر نصف أناناسة من تلك المنتشرة بشكل لافت في معظم شوارع المدينة.

ومع مضي وقت قصير يبدو مشروع "السيد" أوضح وأكثر حدّة في خطوط رسمه. تعلو وتلتفّ الكتب حوله، كمغارة، يمينًا ستقابل بعض الكتب الجديدة المصفوفة فوق رفٍّ عند دخولك الباب. وبعناوين "تجارية" كما يصفها، يجمع هذه الكتب بالغالب قالب واحد، قد يكون اليوم ما يشكّل هاجسًا ونهجًا واتجاهًا لقراءة الجيل الجديد، جيل يحمل رغبةً بتنمية الذات دون جهد كبير.

من يخطر له اليوم أن "الشبكة" الفنية اللبنانية الشهيرة حوت زاوية سياسية ثابتة في أعدادها القديمة!

كتب بصفحات قليلة، عناوين تؤكد أنك تستطيع، وأن ما ستكونه مختبئ فيك الآن، وببعض الأحيان قد تعني أنك ستصبح مثل كاتب الكتاب أو من تكتب عنه صفحاته، بمجرد قراءتك لما بين سطوره. يقول "السيد" إن "جانبًا إيجابيًا ما تحمله هذه النّزعة للقراءة وهذا النمط من الكتب، هي نواة جيل قارئ علينا أن ندرك متغيّراته، ومتطلّباته، وإنتاج ما يلامس احتياجه بلغة قريبة منه"، وينوّه إلى حالات لشابّات جامعيات يقتنين هذه الكتب بقصد بيعها في الجامعة، الأمر الذي يوفّر لهن دخلًا إضافيًا يراه "السيد" خياراً جيداً في ظلّ حلول العمل التي تلجأ لها الشابات، وسط ظروف محيطة تفرض انعدام الخيارات.

تصنٌف رفوف "الدار" محتوياتها، فتعلو جدران الكتب كمغارة، يمينًا الروايات العالمية والأدب المصري وكتب الشأن التركي، فوق حيّز كبير مخصص لمطبوعات الأطفال، وفي العمق الكتب التي تعنى بحلب، وركن بارز في الحائط الأوسط للروايات والكتب الإنجليزية، يسارًا تتكدس موضوعات الفلسفة والسياسة والتاريخ والأدب العربي والدين والإثنيات، ونسخٌ قديمة من المجلات والسلاسل المصورة القديمة (كوميكس) التي تستهوي قراء لجمعها حول العالم.

يحتفظ السيد خلف مكان جلوسه، وإلى يمينه، بنسخٍ أولى ونادرة من جرائد وصحف ومطبوعات قديمة، يقول إنها تحمل تناقضات غريبة وتشير إلى تحوّلات عاشتها هذه المطبوعات مع عبور أكبر للعالم من حولها، يضرب مثالًا وهو يقلب أحد الأعداد المصفرّة لمجلة "الشبكة" الفنية اللبنانية الشهيرة "من يخطر له اليوم أن الشبكة حوت زاوية سياسية ثابتة في أعدادها القديمة!".

متحف في "المغارة" 

بأصابع حفظت تفاصيل مكان عصيّ على الأرشفة، يشير السيد إلى جدار خالٍ من الرفوف يحمل أوراقاً صفراء، بطاقات، قصاصات من صحف قديمة، رسائل كتبت بخط اليد، صورًا بالأبيض والأسود، إنذارات ماليّة، أوراق روزنامة بتواريخ قديمة ـــ ربما عنت لأصحابها أوقاتاً مفصلية في الحياة ـــ وأشياء أخرى غيرها، قد تظن للوهلة الأولى أنها مجرد "ديكورات" لزوم ملء الفراغ في جزءٍ خالٍ من الرفوف. يقول السيد إن هذا هو "المتحف"، نفائس ولُقى تركها أصحاب الكتب، على مرّ السنين. الحائط وسطح الطاولة تحت الزجاج، متحف "الدار" الذي يحمل بعضًا من ذاكرة دُفنت بين صفحات كُتب، ووصلت بطريقة أو بأخرى إلى الدار.

تلمع عينا "السيد" وهو يحكي عن الكتب عمومًا، لكن بحّة مميزة ينحو تجاهها صوته مع تعابير وجه متحفزٍ، تشير إلى أنه يلامس شغفًا حقيقيًا، حين يحكي عن الكتب المستعملة. يرى "السيد" أن لقراءتها واقتنائها خصوصية أبعد من ثمنها الزهيد مقارنة بالمطبوعات الجديدة، فهي تمتد وأرواح أصحابها وأفكارهم العابرة جيلًا لجيل، مع هوامش نقشتها أقلامهم حول الصفحات، عن عالم آخر، خطّ موازٍ يسمح برسم صور وحكايات جديدة لأصحاب الكتب. صور تحكمها اختياراتهم، مقتنياتهم واهداءات كتبوها أو كتبت لهم.

يقول السيد إن أكثر الإهداءات التي حملتها الصفحات الأولى للكتب أثرًا في النفس، هي إهداءات الآباء للأبناء، تلك التي تحمل رسالة "رقيقة أو أخلاقية"، بحسب وصفه، أو عبرة وربما وصيّة. ويصنّف الكتب القديمة الممهورة بإهداءات من كتّابها أو أصحابها لتنتقل إلى يد أصحابها الجدد "بعضها تُهدى من كاتبها لمقتنيها دون سابق معرفة، بإهداء عام، فيما تحمل ثلاثة أو أربعة أسطر ينقشها الكاتب لمقتنٍ تجمعه به علاقة شخصية، متعة خاصة وجمالًا استثنائيًا في قراءتها، فهي تعكس رؤية كاتب الكلمات وربما تلخّص علاقة إنسانية بتكثيف جميل".

عالم أصيل للعزلة

سيرفعك درجٌ معتمٌ وملتوٍ وضيّق في زاوية الطابق السفلي للدار ًإلى بُعدٍ آخر، إلى امتداد جديد لعوالم "دار الوثائق الورقية". وبقدر اتساع العالم الدائر في الطابق السفلي، يبدو ما في نهاية الدّرَج أكثر براحًا وانتقائية.

البرج، الزاوية، الحلم العربي، تسميات مختلفة يطلقها "السيد" على صالة صغيرة مسقوفة ومغطاة بأوراق جرائد قديمة، ومع الأثاث القليل، ستقف محاطًا بكتب ومجلات، أسطوانات نادرة عربية وأجنبية، أجهزة تشغيل أسطوانات كهربائية ويدوية (بيك آب ــــ فونوغراف).

معتزَلٌ قد توصد بابًا غير موجود خلفك، فتعبر منه إلى أزمنة تبدو النسخة الأقرب إلى حلب تلك، التي ترسمها في خيالك وأُنشئت "الدار" بمرحلتيها حفاظًا على ما بقي من فكرها وتراثها، لا لتنشئ "مكتبة" لبيع وشراء وتأجير الكتب المستعملة في زمن تغلق فيه كبرى وأعرق المكتبات أبوابها، في المنطقة وليس سوريا فقط، بل لتخلق عالمًا أصيلًا من الشّغف غير آبه بـ "وماذا بعد!".